وكالة الرائد - خاص - الزمان والمكان جدلية قديمة لدى الشعراء عموما. بل إنهما فلسفة الشاعر التي يستمد منها إبداعاته. يقول عبد الرحمن بوينا (من جزر القمر) في شعر مترجم إلى الفرنسية:
.
"بين الزمان والمكان
تسير الأيام
وقد رأيت أكثر من أنواع الحياة تمر
تائهة مختفية في جداول المـُـقام.
فهل أن ما ينقصنا هو الزمان
لنفهم معنى الأشياء؟
أم أن ما ينقصنا هو المكان الجامد
الذي يعطي لكل نصيبه من النثر؟"..
هذا النثر، الذي يأخذ منه الكل نصيبه، اعتمادا على تفاصيل الزمان والمكان، يحوله الشاعر إلى شعر كلما ضغط عليه زر الحنين أو الشوق أو الحزن أو الوجع أو النشوة. إذن، كما أثر مفهوم الزمان والمكان في شعراء الجاهلية وشعراء الفرس وشعراء الإفرنجه، أثر أيضا في الشعراء الحسانيين الذين عاشوا في صحراء شاسعة مكانها اللانهاية وزمانها الأبدية. إنه التأثير السيكولوجي للقفار في كل من يقرضون الشعر في الصحراء الكبرى. لكن الزمان والمكان يأتيان تارة منفصلين، لكل منهما حدوده ودوره، كما يأتيان منفصلين، لكن لا حدود لهما (لا حدود للزمان في الزمان، ولا حدود للمكان في المكان). يقول أحدهم:
يامسْ تلْ أعلا ادنيبـَـه
وذن ذِ واللــهْ
ألَّ سمعتْ يا ادنيبَـه
ردْ اللغُ أيـْـلاهْ
الشاعر وضع حدودا للزمان؛ فالحادث وقع بـ"الأمس"، ووضع حدودا للمكان، فهو على ربوة صغيرة (آدنيبه). لكن من الشعراء من يحطم الحدود الزمانية تاركا النص يتيه في سرمدية مطلقة، فيما يولي اهتمامه فقط للحدود المكانية:
ما يَـلـْـحَـكْ حدْ امْـنْ الوسواسْ
والعَـسْ اعلَ راصُ والساسْ
والذل أُ خوف اكلامْ الناسْ
وَغــَـداجْ أُ كرْهْ الكلــْـــفــَـــه
فاشْ إتــَــمْ إخــَــمَّمْ بـ اكـْـياسْ
النــّـــلـْــفــَــه ما كاسْ النــّــلــْـــفــَـــه
"لا أحد يمكنه أبدا (في أي زمان) مهما كانت معوقاته، أن يظل مهموما بالتفكير في المسير إلى "النلفه" دون أن يشد الرحال إليها". فالزمان هنا فضفاض، متروك له الحبل على غاربه، بينما المكان محدد. إنه موضع "النلفه" (الذي به مضارب الحبيبة في ما يبدو). لقد رسم الشاعر هنا حدودا واضحة للمكان، تاركا الزمان يتدفق في صيرورته الأبدية.
لعبة الزمان والمكان جميلة في قول أحدهم:
قِـفارْ انــْــتِ
عتِّ يالدارْ
وانتِ كنتِ
مانكْ قِـفارْ
إذن، "أصبحتَ قفرا، أيها الربع، وأنت لم تكن كذلك!".. أي اختصار هذا لمطولات البكاء على الأطلال كما هي معهودة في أشعارنا!.. الزمان هنا حاضر وماض فقط. لا شيء يوحي بزمن مستقبلي في هذا الموشح. "قفار انت، عتِّ يالدار"؛ فعبارة "عت" تحيل للحاضر. "وانتِ كنتِ مانك قفارْ"، وعبارة "كنتِ" تحيل للماضي. أما المكان فهو "الدار".
ولعل من المثير في الشعر الحساني أن الشاعر كثيرا ما يتملص تماما من أغلال الزمان، فلا تجد له أثرا في نصه، فيما تتملكه عذابات المكان وحده:
يَـ عَـكلِ راع ذاكْ احْسَيْ
إدارْ إذيكْ امَّـلِّ دَيـــْ
يَانَ وَفــَـجَّارْ اعلَ رَيْ
ذوكُ بيهْ الِّ منهم بارْ
أُ ذيكْ امَّـلِّ زيرتْ يخيْ
مانَ يغيرْ احسَيْ إدارْ
ماهُ لكـْـصَيْرْ أُ دَيـّـانَ
ماهِ بَكـُّـومَ وَفـَـجَّـارْ
ماهْ انـْـجُولْ أزيرتْ مانَ
ماهِ نبْـكتْ ول آكــُـرارْ
هذا المنوال، المبني على مقارنات بين المكان المفقود المحبب، المثير للذكريات والأحزان، والمكان الموجود، الممل، غير المرغوب، يكثر - لحد المبالغة- في النسيب والبكاء على الأطلال لدى شعراء الحسانية. حتى أنه أصبح كالشكلية: يصب فيها الشعراء نصوصا لا تختلف إلا في مسميات الأماكن.
وإذا كان المكان كله معلوم الحدود في قطعة "النــّــشـــَّـــــايْ"، فإن الزمان فيها لا يعدو سبعة أيام غير مضبوطة بتاريخ معين، تنضاف إليها فظاعة الحدود الزمنية المفتوحة في ماض يصل نشأة الكون (ما كَطْ امْنْ انـْـتِـشايْ الدنيَ جَـبْـرُ حَـدْ). فأي ماض سحيق هذا:
اسبوعِ فالنشــَّــايْ
امْعَدّلْ يَالعَطايْ
أُ لا كطْ امْنْ انتِـشايْ
الدنيَ جَـبْـرُ حَـدْ
أُ زيْـنْ اسبوعْ أكـَـنــْـــكايْ
أ زيْـنْ اسبوعْ المَحْرَدْ... إلخ
وقد ينتقل الشاعر من مكان لا حدود له إلى مكان له حدود واضحة. لننظر مثلا قول الشاعر:
مَشْيَكْ عَنْ كَرْمِ مَانَكْ رَايْ
كَرْمِ هُكْ اخْرَ مَاهْأَرَايْ
أَرَايَكْ عَنْــدِ فـ الِّ رَايْ
اتْفَوَّتْ ذِ الصَّيْفَ ونْتَ
بَيْنْ الصَّطَّارَ وابْــدنْغَايْ
وبَّاخْ أُ لكّــتْحَمْزَةَّ
فالمكان اللامحدود يتجسد هنا في كلمة "هك": أي في مكان آخر، مكان مبهم، مكان فضفاض مائع، لا حدود له. لكن الشاعر ينتقل منه إلى مكان ذي حدود دقيقة هي ما يعرف بـ"لكوارب" في تفاصيلها التقليدية التي عفت عليها لواعج المدنــيــّــــــة (الصَّطَّارهَ، ابْــدنْغَايْ، ابَّاخْ، لكّــتحَمْزَةَّ). أما الزمان فمصيف من ثلاثة أشهر تقريبا.
ولعل مقطوعة:
ما كَطْ امنادمْ بَعْدْ بَـيْنْ
البحرينْ إيلَ لانَ...
تشكل أغرب خلطة في دمج البعدين الزماني والمكاني. وربما أن عبارة "الزمكان"، المصنوعة حديثا، واردة أكثر من غيرها في هذا الشعر. فكلمة "البحرين" مكان، وكلمة "الآن" زمان. فكأن هذا التحدي (المتخيل الزمكاني) خليطٌ حدوده القصوى "البحرين" وحدوده الدنيا "الآن". فالشاعر جعل المكان حدا أقصى للزمان، والزمان حدا أدنى للمكان. "فلا أحد غيري، بين البحرين، وحتى هذه اللحظة، استطاع أن يقطع المسافة بين تجكجه وجونابه فقط في ليلتين".
ومجمل القول ان الشاعر اللهجي يتعذب بالمكان ويتلاعب بالزمان، ومن ثم يتجاوزها ليخلق منهما القدح الذي يروي به ظمأ إبداعاته.