واجب التحفظ بين حرية التعبير ومتطلبات المصلحة العامة../ د. عبد الرحمن اجاه

2025-12-15 16:53:33

واجب التحفظ بين حرية التعبير ومتطلبات المصلحة العامة

 بقلم الدكتور/ عبد الرحمن اجَّاه أبُّوه

يعد واجب التحفظ من المبادئ الجوهرية التي تحكم سلوك الموظف العمومي في الأنظمة القانونية الحديثة، وهو يمثل قيدا ضروريا يفرضه النظام العام على الحريات الفردية للموظف، وعلى رأسها حرية التعبير. 

وفي الجمهورية الإسلامية الموريتانية، يجد هذا الواجب أساسه التشريعي في القانون رقم 93-09 المتضمن للنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقديين للدولة، وخصوصا في المواد 7 و 10 و 12، التي ترسم بوضوح حدود هذا الالتزام ونطاقه، حيث تشكل هذه المواد الإطار القانوني المتكامل لواجب التحفظ الوظيفي.

تكمن أهمية واجب التحفظ في كونه أداة قانونية لضمان حسن سير المرفق العام وصون هيبة الدولة. 

إن الموظف العمومي بحكم صفته، يمثل السلطة العامة في نظر المواطنين، وبالتالي فإن أي تصرف يصدر عنه، سواء كان في إطار وظيفته أو في حياته الخاصة، يمكن أن يؤثر سلبا أو إيجابا على ثقة الجمهور في الإدارة.

يجد واجب التحفظ في القانون الموريتاني أساسه _كما أسلفت_في عدة مواد من القانون 93-09،، أبرزها: المادة 7 التي تناولت واجب التحفظ العام،  ونصت على أنه: "يلزم كل موظف بمراعاة واجب الحياد والتجرد خلال ممارسته لوظائفه، كما يلزم، خلال ممارسة وظائفه وكذا في حياته الخاصة، بتحاشي أي تصرف من شأنه المساس من هيبة الوظيفة العمومية، ويلزم كذلك، وفي كل الظروف، باحترام سلطة الدولة وفرض احترامها عند الاقتضاء".

بينما تناولت المادة 10 واجب التكتم المهني، فنصت على أنه: "فضلا عن قواعد التشريع الجنائي المتعلقة بالسر المهني، يخضع الموظف لواجب التكتم المهني، في كل ما يتعلق بالوقائع والمعلومات والوثائق التي اطلع عليها ضمن أو بمناسبة ممارسة وظيفته.

ويحظر ما لم ينص التشريع المعمول به على ذلك، كل إبلاغ مستندات أو وثائق إدارية للغير..." .

أما المادة 12 فتناولت المساءلة التأديبية والجنائية، ونصت على أنه: "يتعرض الموظف لعقوبة تأديبية، فضلا عن العقوبات المنصوص عليها في التشريع الجنائي عند الاقتضاء، في حالة ارتكاب خطأ ضمن أو بمناسبة ممارسة وظائفه. 

وكذلك الحال بالنسبة لكل خطأ غير مرتبط بالمصلحة مخل بالاستقامة، أو الشرف، أو الأخلاق الحميدة، أو الكرامة، أو واجب الولاء للدولة ومؤسساتها، أوما من شأنه أن يحط من هيبة الإدارة.

 ويجب أن ترفع السلطة المختصة التي يتبع لها الموظف الأمر بدون أجل إلى النيابة العامة في حالة ما إذا كان الخطأ المرتكب يشكل جنحة أو جناية وخصوصا إذ تعلق الأمر برشوة، أو اختلاس أموال عمومية، أو تزوير محررات عمومية، أو إفشاء السر المهني".

الموازنة بين واجب التحفظ وحرية التعبير

 يثار التساؤل القانوني حول مدى تعارض واجب التحفظ مع الحق الدستوري للمواطن في حرية التعبير. 

فالموظف العمومي مواطن يتمتع بكافة الحقوق والحريات، بما في ذلك الحق في إبداء الرأي.

إن القانون الموريتاني، شأنه شأن معظم التشريعات الإدارية، لا يلغي حرية رأي الموظف، بل يضع لها قيدا تنظيميا. 

فالموازنة بين الواجب والحق تتمثل في أن حرية تعبير الموظف يجب أن تمارس بمسؤولية، بحيث لا تؤدي إلى:

- المساس بالسر المهني والتكتم؛ إذ لا يجوز له الإفصاح عن معلومات سرية أو وثائق رسمية تم الاطلاع عليها بحكم الوظيفة.

- التعبير عن آراء تتعارض مع الحياد، خاصة في المسائل السياسية أو الحزبية التي قد تثير الشكوك حول تجرده عند تطبيق القانون.

- التعبير عن آراء تمس الهيبة، كالانتقاد العلني والجارح لقرارات الإدارة أو المسؤولين بطريقة تهدف إلى التشهير أو الإساءة، بدلا من النقد البناء.

ومن هنا، يجب أن  ينظر إلى واجب التحفظ على أنه قيد مشروع يهدف إلى حماية المصلحة العامة، وليس حرمانا من الحقوق؛ فالموظف اختار  طواعية العمل في خدمة الدولة، ويترتب على هذا الاختيار قبول القيود التي تفرضها طبيعة هذه الخدمة.

 يجسد واجب التحفظ في -حال تعارضه مع حرية الرأي- مبدأ تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وهو المبدأ الذي يقوم عليه القانون الإداري برمته.

 عند ما يلتزم الموظف بواجب التحفظ، فإنه يتنازل جزئيا عن حريته المطلقة في التعبير أو ممارسة الأنشطة الخاصة، وذلك لصالح هدف أسمى يتمثل في تقديم المصلحة العامة على التعبير عن رأيه الخاص.

فحري بالموظفين وخصوصا الشباب أن يتقيدوا بواجب التحفظ، وأن يدركوا عواقب الإخلال به، وأن يفكروا قبل النشر في وسائل التواصل الاجتماعي، كي لا ينشروا ما يمكن  أن يفسر على أنه مساس بهيبة الوظيفة العمومية أو حيادها، خاصة إذا كان الموظف يعمل في قطاع حساس أو يشغل منصبا قياديا.

ومن الضروري أن يدركوا أن الإخلال بواجب التحفظ يعرضهم للتأديب في القانون الموريتاني. 

فالنظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة يقرر عقوبات تأديبية تتراوح بين الإنذار والفصل، ويمكن أن تطبق هذه العقوبات على أي موظف يثبت إخلاله بالالتزامات المنصوص عليها،  بما في ذلك انتهاك واجب التحفظ. 

لذا، فإن الحيطة والحذر في السلوك العام والخاص، والالتزام بالحياد والتجرد، شرطان أساسيان للاستمرار في الخدمة العامة.

ثم إن واجب التحفظ التزام أخلاقي وقانوني يهدف إلى تحقيق التوازن الدقيق بين حقوق الموظف وواجباته. 

فهو يمثل آلية قانونية لضمان أن الموظف العام يضع المصلحة العامة فوق كل اعتبار شخصي أو حزبي، وأنه يمارس حريته في التعبير بمسؤولية ووقار، بما يحفظ هيبة المرفق العمومي، وثقة المواطنين فيه، ويضمن حماية أسرار الإدارة.

وإلا فإنه يعرض نفسه للمساءلة التأديبية والجنائية الصارمة بسبب الإخلال بواجباته.

 

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122