أرضٌ تغنى بجمال سهوبها وروعة جداولها الشاعران المبدعان الشيخ ولد مكيّنْ وأحمدُّ سالم ولد الداهي، وعشقها، حد الهيام، الشاعر الصالح أحمد ولد محنض حتى ارتبط اسمه باسمها فدعوه "احْمَيْدْ اجّاله"..
كانت اجّاله أندلس الجنوب برمته، ومنتجع ساكنة إكيدي في شتائها الفردوسي، وملجأ مستوطني شمامه كلما عذبهم البعوض، ومزار أهل آتكورَه وآوْكَيْرَه والخط حتى تخوم آمشتيل، عندما ينضج الزرع ويحين القطاف.
لم تترك اجّاله وقتا للتفكير في موقف محايد منها، فكلما زارها زائر ارتمى في حبها وعلِق في شباك جمالها البديع. فتضارسيها الفريدة وغاباتها الظليلة وماؤها المنساب عبر الأودية وخفة دم سكانها وبساطتهم، أمور كلها اجتمعت لتخلق منها مهمازا للهيام والوله وشيطانا للشعر والشعراء.. يقال في الأساطير المحلية ان إبليس مر بها مرة فوجد الأب والعمة والصهر والجدة والجد والبنت والإبن والجار والضيف يرقصون ويتراقصون ويقهقهون فقال لهم: "نعم، هو كذلك"، ثم جلس بالقرب منهم يستمتع بأول غواية في الدنيا لم يكن له فيها أي دور. ليست هذه القصة المتواترة إلا تندرا وتنكيتا في نهاية المطاف لأن المجموعات القاطنة في اجّاله لم يُعرف عنها إلا ما عرف عن باقي المناطق من ورع وعلم وخلق والتزام، غير أنها، وراء ستار المُلحة، تعكس، في خلفيتها التاريخية، حقيقة ثقافية-اجتماعية عميقة، فهذه الأرض كانت تنتج أحسن وأوفر أنواع الحبوب، وبالتالي تنتج أجود الأطباق والمأكولات التقليدية المتنوعة، وكانت بها أرخص وأكثر الذبائح سمنة وألذها لحما بفعل جودة وتنوع المراعي ووفرة المياه. ما انعكس على عادات الساكنة ووفر لهم الوقت فأنجبت منطقتهم أحسن الأصوات التي مارست بنْجَه، وأكثر الأجيال خبرة في الرقص، وأروع تجمعات "وَنْكَالَه"، وأجمل حفلات سباق الخيل وترقيص الجياد، وأصلح الأماكن للاندفاع خلف الشهوات والملذات. كانت حياة اجّاله، بفعل الرفاه الاقتصادي ودعة المناخ، حفلا متواصلا لا ينقطع، وهو ما عبرت عنه المجتمعات المجاورة بالمقولة الآنفة المنسوبة لإبليس.
كانت اجّاله مصبا لروافد شمامه، ومكبا لما زاد من منتوجها الزراعي، كما كانت مستودعا لعلك إكيدي، ومن ثم شكلت موعدا يلتقي فيه أكبر المطربين ومهرة الصناع التقليديين وهواة الرقص و"الشارَه" وسباق الخيل، كما ظل يتناهى إلى غدرانها وجنانها وبومها ودومها محبو الأسفار، والهاربون من رتابة "أهل لخيام" وصعوبة السقاية من الآبار الطويلة.
هذه المنطقة، البالغة الجمال، اتخذت من "لخْشَيْمْ" عاصمة لها. كانت بحيرة لخْشَيْمْ أكبر مبرر لاختياره موقعا لأكبر تجمع في منطقة اجّاله. اشمأزّ السكان من هذا الاسم واستبدلوه، لسبب لا يعرفه غيرهم، بـ"اركيز". وسرعان ما انفصل اركيز عن المذرذره إداريا، في ما يشبه الثورة الانفصالية التي يحاول سكان تكند محاكاتها اليوم. وأصبحت قرية اركيز مقاطعة وَضَعَ حجر أساسها وبنى أركانها الحاكم الكفء المرحوم دمبَه كَالو قبل أن يحول إليها الحاكم ولد برُّو فتعيش على وقع أكثر قصصه طرافة، وفي فترة أخرى حول إليها الحاكم محمد غالي ولد البو الذي وجد في جوها ما ألهمه أقواله وأفعاله ذات الطابع البورجوازي الشهير. وفي عهد محمد غالي ابتكرت اركيز وصدّرت طبق "كوزونوزو" فاحتل المرتبة الأولى في المناسبات الاحتفالية والاجتماعية على صعيد الوطن بأسره.
وعلى حين غرة، اكتشف الموريتانيون "جوخه" فحولوها إلى محجة سياحية. لم تكن جوخه، في الحقيقة، إلا دلتا عند مصب رافد "اجدر عبدك"، المتدفق من رافد لعويجه الذي ينبع من النهر على مستوى مانكويني. إنها جزء من لوحة تضاريسية بديعة تغمر مختلف مشاهدها مياه المد على مستوى وادين يتلويان فيصنعان روافد لعويجه وسكام والليات واكدر وطمباص واجّنكام وشعبانه، إلى مشارف خملش وجلُّو حيث وُلدتْ وترعرعتْ والدتي في حضن حيين كريمين نبيلين (أحدهما يدعى حيّتْ لعبيد وهو إسم لا علاقة له بالرق، والآخر يدعى آزنافير). إنها أرض الماء الجاري واللبن المدرار والغابات المطيرة ونعاج البحر والبط والقُمْري والخنازير البرية والزرع والفاصوليا والحنطة والدخن والخيل العتاق، الأمر الذي انعكس على الجو العام فخلق تربة حبلى بالسلم والمسالمة، زاخرة بالتسامح، صالحة للطرب واللهو والتنكيت واللعب والرقص.
اليوم، لنا أن نتساءل: ماذا وقع في اركيز ليقرر إبليس المغادرة فجأة ويتحول جو السكينة والمرح إلى نار تأكل الوثائق الحكومية الرسمية، وإلى عمليات تخريب تطال حتى الممتلكات الخاصة، وإلى مطاردات واعتقالات وإقالات؟.. هل ملّ إبليس الجلوس والنظر في أهل اجّاله؟ هل قرر، لسبب أو لآخر، أن يحول جنتهم إلى جهنم؟ وإن كان قد فعل، فلماذا؟
في ثلاثينات القرن الماضي زار حاكم المذرذره، الإداري الفرنسي يطنَه جيلْ، بحيرة اركيز بمعية القاضي محمذن ولد محمد فال (امّيَيْ). كانت مهمة الحاكم والقاضي تتمثل في توزيع المناطق الزراعية بعدالة بين القبائل والمزارعين تحاشيا للمشاكل التي تطفو على السطح من حين لآخر. وبعد مداولات حضرها ممثلو القبائل والمزارعون والأعيان، قرر الحاكم تقسيم المنطقة على النحو المعروف حاليا (تقريبا)، وأصدر القاضي امّيَيْ وثيقة بخطه تضمنت كل التفاصيل. وهكذا عاش السكان بسلام وانسجام ووئام، إلى حدود تسعينات القرن الماضي عندما أدخل الرئيس معاويه ولد الطايع بلاده في بركان هائج من الليبرالية العمياء بيعت بموجبه مئات ومئات الهكتارات من أرض شمامه واجّاله لرجال أعمال وافدين، فضايقوا السكان الأصليين في مصادر رزقهم، وكمّشوا فرص عملهم، وأجبروهم على العيش البائس من فتاتهم على جنبات مزارع كانت، في ما مضى، سبب استقلاليتهم وأصل سعادتهم ورخائهم. وشيئا فشيئا عاشوا البطالة والبؤس والحرمان. ثم جاء عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز فلم يزد الطين إلا بلة، وبيعت أراض وأراض أخرى، وبلغ سيل الجوع زبيته، وتراكمت التداعيات الخطيرة لسياسات "مصادرة" مصادر العيش. وظل أهل اجّاله يعيشون مأساتهم لوحدهم، إلى أن انفجرت ردة فعلهم قبل أيام بعد أن قرر إبليس الهجرة دون أن يودع مجتمعا عاش معه لمئات السنين، ودون أن يذرف دمعة واحدة على أطلال كثيرا ما عانق فيها الرقصُ المزحةَ، وابتسم فيها الطرب أمام أقداح اللبن الدافئ، وزغردت فيها طيبات من الرزق على وقع أهداب الخيل المسوّمة. فهل يعود إلى اجّالة إبليسها في القريب العاجل؟ أم أنه الفراق الأبدي؟.. لست أدري!.