لماذا لم تستطع الانظمة السياسية الموريتانية التطور ذاتيا، وانعكس هذا العجز في المجالات التنموية نظرا لنأى أنظمة الحكم عبر تجاربها الفاشلة عن تتبع سياسة الأنظمة السياسية في الإقليم المغاربي، كما في دول غرب افريقيا.؟
والسؤال المحوري هو ما الذي حال دون ذلك: الرؤساء، وثقافتهم النسبية.. أو النخبة الأرتزاقية بولائها المزدوج : لفرنسا، وللرؤساء معا، بالإضافة الى الانتماء الوطني في حدود المحافظة على المصالح الذاتية .. أو بسبب تراكم التخلف في البناء الاجتماعي العام، وعدم قدرته على التبيئ، لإقامة النظام السياسي الحديث في محيطه الاجتماعي… أو لتأثير المحيط الإقليمي، و الصراع بين الأنظمة ذات الاختيارات المختلفة منذ بداية الاستقلال لكل من جمهوريتي مالي، والجزائر، وانتهاجهما سياسة التغيير العمودي في التحديث، وبين الأنظمة المستقلة التي اختارت الغيير الأفقي: كالمغرب، والسنغال من جهة أخرى؟!
وإذا اعتبرنا هذا المقال مكملا للمقال السابق، فلا بد من التساؤل عما هي الواجهات التي شكلت عناوين دالة على اتجاهات متباينة، ولعلها عكست الصراع السياسي الداخلي بين اليتارات التي تمور بالوعي المنتمي لحزب الشعب، حزب النظام الذي حكم ثمانية عشرة سنة علما أن بعض التيارات، كانت عديمة التأثير، لذلك يمكن اختصارها في اتجاهين: اتجاه نزع إلى تحديد هوية النظام السياسي، وتحديثه واتخذ قرارات جريئة، كسك العملة الوطنية في 1973، وتلاه تأميم شركة "ميفرما " لمناجم الحديد، واستبدالها بشركة " اسنيم"، وهذا الاتجاه التأسيسي لنظام حكم وطني، كان مدعوما عربيا منذ بدأ النظام بالتعاطي الإيجابي مع القضايا العربية، والدفاع عنها لدرجة، أن المختار رحمه الله اعتبر نفسه سفيرا لقضية الأمة في افريقيا على عهد جمال عبد الناصر، وذلك في زيارته لمصر في سبتمبر سنة 1970م.
ولعل تلك المحاولة، كان الهدف منها الاستثمار السياسي الذي لم ينجح فيه " بوياكي " خلال تواصله السابق مع جمال عبد الناصر، وهذا الخط الوحدوي عبر عنه الراحل المختار في مذكراته كما يلي :
((..وأود أن أذكر أنه ومنذ وصول عبد الناصر إلى سدة الحكم، وكنت يومها طالبا في فرنسا، وأنا معجب به إعجابا لا حدود له .. كنت ناصريا تماما ، ومع ذلك، لم أتمكن من الاستماع إلى إذاعة صوت العرب التي كانت تثير الحماس في نفوس الجماهير العربية، ولم أكن حتى الساعة أقرأ - قرأت - جريدة الأهرام لأنها لم تكن تصلني … وكانت لي نقاشات حول هذا البكباشي كثيرا ما تكون ساخنة، أخوضها مع فرنسيين أصدقاء في الدراسة ، أو في كلية الحقوق أو في مدرسة اللغات الشرقية أو في الحي اللاتيني، أو في الحي الجامعي بباريس، أو ممن نلتقي - تلقيت - بهم عرضا في أماكن أخرى يرتادها - كان يرتادها - الطلبة، ومن أناقشهم - ناقشتهم - كثيرا ما يكونون من أنصار الصهاينة المتعصبين، أو ممن يحملون - حملوا - نظرة استعمارية يقتنعون - اقتنعوا - بها - وكانوا - يتعصبون، أو من الفئات البورجوازية ذات النظرة القاصرة ، بل إن بعض الطلبة اليساريين كان معاديا له - جمال عبد الناصر - في تلك الأجواء المتأثرة بما قام به خلال سنوات 1954/ 1956م - هنا يلاحظ أن المختار ولد داداه رحمه الله ، أراد أن ينبه القارئ على، أنه كان يتفاعل مع الأحداث السياسية الداخلية في مصر، ومنها الخلاف الذي حصل بين نظام الثورة، وبين التيارين السياسيين: الماركسي، والإخواني حين وقعا معا على منشور السفارة الانجليزية الرافضة للمطالبة بالجلاء، وإنهاء الوجود العسكري الانجليزي في مدن القنال بمصر - وكنت كلما شعرت بمزيد من السخط على من - كنت - أتحدث إليهم زادني ذلك إعجابا به، ووقوفا إلى جانبه، ولم يصل بي الأمر حد الاشتباك، ولكن وصل في مرات كثيرة إلى المشادة العنيفة، نعم حصل مني ذلك، وأنا المسالم المقتنع بالمسالمة))
إن تطور الوعي السياسي القومي للرئيس المختار كان واضحا في الاقتباس اعلاه، وتفعيله لهذا الوعي حصل خلال التواصل أثناء المؤتمر الأفريقي في اثيوبيا سنة 1964م. حيث اجتمع المختار بجمال عبد الناصر رحمهما الله تعالى.. والاقتباس التالي، يوضح كيف عبر المختار عن تشكيل وعيه بصراحة في الفترة التي كان يدرس في باريس، وتأثره بجمال عبد الناصر،،
((...كان عبدالناصر بالنسبة لى البطل القومى الذى يعمل من أجل أن يعيد للعرب والأفارقة كرامتهم وشرفهم بعدما أهانهم الأوروبيون زمنا طويلا، فكانت مقابلته وجها لوجه، والحديث معه على قدم المساواة، يثيران لدي مشاعر تستعصى على الوصف.. كان لقاؤنا الأول فى ردهة كبيرة من ردهات «أفريكا هال» حيث أقام الوفد المصرى شبه صالون.. انتظرنى هناك، وعندما رآنى قادما، تقدم نحوى، وعانقنى بحرارة، وأجلسنى، ثم جلس قبالتى.. كان بسيطا هادئا، بشوشا.. كنت وحدى، بينما كان محاطا بثلاثة من معاونيه منهم محمد فائق، مستشاره للشؤون الأفريقية، ومجموعة حراس تطوف حولنا».
وفي هذا اللقاء، انتهز المختار الفرصة لإستثارة العاطفة العربية لدى جمال عبد الناصر بالكلمة التي كانت بمثابة المفتاح الذي فتح الباب على مصراعيه للعلاقات بين النظامين، وتلك الكلمة هي قول المختار إن : " الوهوية العربية في موريتانيا في خطر"، وعلى أساسها سارع النظام في مصر بافتتاح المركز الثقافي المصري .. ثم تعززت العلاقات بين النظامين بزيارة الرئيس المختار لمصر في سبتمبر سنة 1970م.
وإذا كان المركز الثقافي المصري، والبعثات التعليمية، أديا الدور المطلوب في تعزيز الهوية الثقافية ، فإن الهوية العربية للنظام السياسي، تحددت منذ الانضمام للجامعة العربية في مؤتمرها سنة 1973م بالجزائر العاصمة حيث أعلن الرئيس هواري بومدين رحمه الله في بداية الاجتماع الرسمي بقوله: " قررنا في اجتماع مغلق انضمام موريتانيا.."
لكن لماذا تراجع هذا الاتجاه السياسي المناوئ للتوجه التابع للمستعمر الفرنسي بعد أن أقدم الرئيس طواعية، أو أنجرارا للمشاركة في الاحداث السياسية التي كانت بمثابة معول الهدم للتوجه التحرري، بله للنظام، وانتهى بالانقلاب العسكري في سنة 1978م ؟!
والإجابة على هذا السؤال تبدأ بالرجوع ألى الأسس التي قام عليها النظام ذلك، أن الحراك السياسي قبيل الاستقلال الوطني 1960م. لم يكن قادته على وعي منفصل عما خطط له المستعمر الفرنسي عندما بدأ بتفكيك نواة الحراك السياسي الوطني الذي كان بمقدوره، أن يؤسس لنظام مستقل سياسيا، يستطيع تحديث المجتمع الموريتاني، باعتباره أكبر التحديات التي كانت تستدعي من قادتي الحراك السياسي الوطني، أن يوحدا العمل السياسي للتيارين النهضوي بقيادة ولد حرمة - رحمه الله - والتيار الحكومي بقيادة المختار ولد داداه - رحمه الله - رغم اقصاء ولد حرمة، ثم اقصاء الزعيم الراحل " بوياكي ولد عابدين " - رحمه الله تعالى - بعد حجزه خارج العاصمة نواكشوط، ثم ارجاعه إليها من طرف النظام، وتلا ذلك رفض السلطة التنفيذية للتعددية الحزبية، وكان فريق النواب في السلطة التشريعية، وكذلك السلطة القضائية، إمعات لا رأي لهم ، ولعل وعيهم السياسي، أسس للتيار الوظيفي المساند لأنظمة الحكم منذ البداية، ولا زال يمارس هوايته الانتهازية في البحث عن المصالح الفردية، لذلك لا ينتظر من هذا التيار حتى الآن، تحمل المسؤولية التاريخية تجاه الوطن في تاريخه السياسي..!
ومن الواجهات لأنظمة الحكم غياب صوت نواب البرلمان، وهو :
[ العناوين الأول ]
في تحديد هوية النظام السياسي بالشمولية، والتعصب القبلي ، والجهوي لنظام الحزب الحاكم، وكان ذلك مخالفا للدستور الذي شرعن التعددية قبلئذ، الأمر الذي كان سيسمح لحزب النهضة بقيادة الراحل "بوياكي" أن يمارس حقه في تكوين حزب سياسي معارض للرفع من مستوى الوعي لدى المواطن، و الدفاع عن الحقوق المدنية، والسياسية للأمة المواطنين، وكان ذلك سيعطي نظام الحكم مصداقية، كما تعزز القيم التحديثية.
بينما كان القضاء برئاسة " القاضي عبد الله ولد بية " بمثابة " شاهد ملك"، على ما ورد في مذكرات " ولد سيدي بادي "، وهو " التاجر، السياسي الوطني، كما عرفه بعض الكتاب"..
[ العنوان الثاني]:
هو " مرتنة " المؤسسات التي شكلت عصب النظام: مثل التعدين، والمقاولات الوطنية، "سونيمكس"، ونقابة الشغل العام، ولعل غياب الهوية الوطنية للنظام السياسي، راجعا إلى افتقاد الرؤية الموجهة بمبادئ وطنية، وقومية لما لها من تفعيل لمشاريع التنمية، لكن العكس هو الذي حصل باهمال الإصلاح التعليمي، حيث تعددت الولاءات العرقية التي عكستها الأحداث في المؤسسات التعليمية سنة 1966م..!
[ العنوان الثالث]:
كان الصراع بين تياري حزب الشعب، اللذين جمعهما الولاء الوظيفي للنظام باعتبار أحدهما تابعا لفرنسا، وإن علل بعض الاشتراكيين- الكادحين - ذلك الارتباط بالعلاقات عبر الراحلة - السيدة الأولى- كموجهة للكادحين، باعتبارهم امتدادا للاشتراكيين الفرنسيين، وبذلك انقطعت الروابط الفكرية بين الكادحين ، وبين القوميين العرب، رغم ما كتبه مؤخرا " ولد بلال "، لطمس الحقائق التي تكشفت للدارسين في الكتبات العلمية، والحرة على حد سواء .. !
[ العنوان الرابع] : التأمين، وقد أعطى شحنة إجابية بلورت هوية النظام السياسي، وأكدت نزوع قائده لفرض السيادة الوطنية في مجال التنمية الاقتصادية .
وقد كان الرئيس المختار ولد داداه مجازفا في اتخاذ تلك الخطوات الضرورية التي لم يسمح بها للرؤساء الأفارقة حتى بعد خمسين سنة..
ولذلك كان لابد من مواجهة النظام الموريتاني، واقصاء قيادته الخارجة على الطاعة الفرنسية، ولكن بالأسلوب الفرنسي المخادع، فبدأ المحتل الفرنسي، يحيك المؤامرة للنظام السياسي، وكان الكمين الذي نصب له، هو دفعه:
١- للمشاركة في الحرب في الصحراء في سنة 1975م.
٢ - قطع العلاقات مع الجزائر، ولعل هدف النظام، كان شيئا آخر، ألا وهو توحيد الجبهة الداخلية، و تأجيل المشاكل المتنامية التي تواجه النظام، وهذا التفكير، كان قاصرا نتيجة لغياب الرؤية التحريرية التي من شأنها توحيد العلاقات مع الحلفاء الذين كان بامكانهم حماية النظام الموريتاني من فرنسا التي خططت لاسقاط النظام معتمدة على اسبانيا الاستعمارية، و المغرب الشقيق الذي كان بالأمس القريب، يطالب بموريتانيا، وغير معترف بنظامها السياسي، وقد أرغم على الاعتراف به دون اسقاط النية المبية التي ما فتئ يعبر عنها قادة حزب الاستقلال من حين لآخر في " أن موريتانيا جزء لا يتجزأ من المغرب " ..!
وبالنظر إلى مجريات الأحداث، وعدم القدرة على التفكير خارج الصندوق، بمعنى تبني الرؤية لتيار التبعية لفرنسا إلى الحد الذي تجاهل فيه قادة النظام ما أحدثه من اضرار لمصالح فرنسا في موريتانيا، إثر التأميندم، وسك العملة الوطنية، الأمر الذي شكل تنكرا للتفاهمات غداة الاستقلال الذي كان مقيدا بالتبعية لفرنسا، ونقضها بسياسة بدأ النظام يطور بها مؤسساته، كالتحرر من التبعية الاقتصادية التي فكك عراها التخلي عن "الفرنك الأفريقي"، بتكوين الأطر لسك العملة التي لعبت الجزائر الدور الفاعل فيها على ما ورد في مذكرات "ولد سيدي بادي "..!
ومن مظاهر التغابي - وليس الغباء - لدى الرئيس المختار استدعاؤه لفرنسا من أجل الدفاع بالجوي عن الحوزة الترابية، ولعله اكتشف بعد أن فات الأوان، أن فرنسا لم تكن تشاركه ذات الهدف، وإنما كانت تسوق سلاحها من جهة، حين أرسلت فاتورة لدفع مستحقات وزارة الدفاع الفرنسية، الأمر الذي جعل النظام يطالب السعودية بتحمل تكاليف الفاتورة المكلفة.
ومن جهة أخرى، لابد أنه لاح في الأفق النهاية المأساوية لنظام الرئيس حين علم بأن قادة الجيش، رجعوا من الحدود على الصحراء إلى العاصمة من أجل التنسيق لانقلاب بدلا من البقاء في الجبهة على خط النار.
وهنا يطرح السؤال الذي يعيد إلى الأذهان الحقيقة المكررة - على رأي المناطقة - وذلك دونما فائدة لتغيير النتيجة الحتمية المتضمنة في المقدمات أثناء تسلسل الأحداث طيلة ثمانية عشر عاما،، ولو لم يكن الأمر كما يتوقع كل من جمع المعلومات، وحللها، لينتهي به النظر إلى المشهد مشدوها بالتساؤل لماذا لم يتواصل الرئيس المختار ولد داداه مع الفرنسيين لإحباط الانقلاب العسكري؟
أما بالنسبة للدرس الذي يمكن أن يستفاد من التجربة السياسية الأولى التي راوح قادتها بين التبعية، وبين الطموح للاستقلال الذي لازال يبحث عن الوطنيين، والقوميين في الغالي بدءا بإدراك، أن فرنسا الامبريالية، مثل الإمبراطورية الأمريكية، فالمتغطى بإحداهما، أو حتى بكلتيهما عريان على حد قول "حسني مبارك" ، ولا عجب في ذلك، بينما العجب العجاب، هو التفكير بعكس ذلك..!
( يتبع)