في عالم تتكاثر فيه التحديات على الدول النامية، تبرز أهمية الحفاظ على السيادة لا فقط كشعارٍ سياسي، بل كأداة فعلية لحماية المواطنين، وتعزيز مكانة الدولة في محيطها الإقليمي والدولي. السيادة هنا ليست مجرد رسمٍ على خريطة، بل تتجلى أولاً في القدرة على الدفاع عن أرواح الناس وكرامتهم، حتى – وربما خصوصًا – حين يكون المعتدي جارًا، أو حليفًا.
ومن هذا المنظور، تثير حادثة مقتل مواطنين موريتانين – عسكري متقاعد،نعم سيدبوي و محمد احمين سالم – على الحدود الشمالية في تيرس زمور، تساؤلات حارقة تتجاوز البُعد الإنساني، لتلامس صميم بنية الدولة وحدود سلطتها، وفاعليتها في حماية شعبها.
أولًا: من التصريح إلى قنابل ادرون تغير أدوات النزاع
قبل سنوات، لم تتجاوز الأزمة مع المغرب سقف التصريحات. ومع ذلك، ردت موريتانيا رسميًا، وبقوة رمزية تمثلت في استدعاء السفير وتجميد اللقاءات الثنائية. بل إن رئيس الوزراء المغربي آنذاك، اضطر إلى زيارة منطقة الصحراء الموريتانيه بير ام اكرين لتدارك الموقف، بعد أن رفضت موريتانيا تمرير الإهانة دون ردّ.
اليوم، تتجاوز المسألة مجرد كلمات. نحن أمام فعل مسلّح، دماء سالت، مواطنون موريتانيون يُقتلون في أرض متنازع عليها، ولا نرى نفس الحزم، بل صمتًا شبه رسمي، لا يرقى إلى مستوى الحدث، ويكاد يُعبّر عن تراجع خطير في منطق الدولة.
ثانيًا: الجوار ليس مبررًا للصمت، بل سببًا للحزم
ينبغي التذكير أن الجوار، في الأدبيات السياسية المعاصرة، ليس علاقة ودّ دائم، ولا خصومة حتمية، بل علاقة محكومة بالقانون الدولي. وميثاق الأمم المتحدة في المادة (2) يكرّس مبدأ عدم استخدام القوة في تسوية النزاعات. كما أن ميثاق الاتحاد الإفريقي يُلزم الدول باحترام الحدود والسيادة، مع الحفاظ على حسن الجوارو احترام الموطنين.
إن أرضًا متنازعًا عليها لا تُحل مشكلتها بإطلاق النار، بل بالتحكيم أو التفاوض أو اللجوء إلى القضاء الدولي.والمتحكم فيها اليوم هي الأمم المتحدة ممثل في الينرسو
من يقتل في أرض النزاع، يتجاوز الخلاف إلى انتهاك صريح للقانون، ومن يصمت عن ذلك يُخلي مسؤوليته السيادية.
ثالثًا: بين الدولة والمجتمع: من يحمي من؟
في غياب موقف واضح من السلطة، تتحول مأساة المواطن إلى همٍّ خاص بأسرته، ويُختزل حق الحياة في ملفّ إداري أو بيان إنشائي. لكن الحقيقة أن الدولة تُختبر في مثل هذه اللحظات، لا عبر الشعارات، بل عبر المواقف. والمجتمع – الذي لا يزال يُراكم خيباته – يجد نفسه أمام سؤال وجودي: من يحمينا إذا لم تحمنا الدولة؟ من يردُّ لنا حقنا إن لم تغضب لنا السلطة؟
رابعًا: من أرض كليب في الجاهليه إلى شرعية الدولة
إن تحويل النزاع إلى منطق قبلي – كما تفعل بعض الخطابات المبررة لاستخدام القوة – يُمثّل تراجعًا مروعًا إلى قرون ما قبل الدولة. نحن لا نعيش في "أرض كليب"، حيث الدم يُراق من أجل ناقة، بل في عالم تحكمه شرعية القانون والاتفاقيات.
أرض النزاع لا تُحسم بالقوة، وإن استُخدمت القوة، فلابد من محاسبة، وتحقيق، وموقف سيادي يليق بالشعب والدولة.
خامسًا: السيادة ليست حيادًا في جريمة
في قضايا الدم، لا يوجد "حياد سيادي". إما أن تكون الدولة إلى جانب مواطنيها، أو أنها تخلي مسؤوليتها التاريخية. الحياد هنا ليس توازنًا، بل تفريط، والسكوت ليس حكمة، بل تواطؤ بالصمت.
إن دم المواطن ليس قضية أسرته فقط، بل مرآة لهيبة الدولة وكرامتها. وحين يُقتل مواطن في أرض ما تزال تحت النزاع، بصمت رسمي غير مبرر، فإن السؤال يصبح أشد إيلامًا: هل تخلّت الدولة عن دورها كضامن أول للكرامة؟
ليس المطلوب حربًا ولا تصعيدًا، بل موقف وطني واضح، يثبت أن موريتانيا، وإن كانت مسالمة، فليست ضعيفة؛ وإن كانت صغيرة، فدمها ليس مباحًا.
قاسم صالح