المال وتفكيك القيم في المجتمع الموريتاني: قراءة ناصرية في راهن التحولات../ قاسم صالح

2025-06-26 23:07:09

(إنّ القيم لا تُشترى، والكرامة لا تُقاس بالمال، والوطن لا يُدار كشركة تجارية)، بهذه الكلمات الخالده عبر جمال عبد الناصر عن جوهر المشروع القومي العادل، الذي يضع الإنسان قبل السوق، والمبدأ قبل الربح. واليوم، أمام التحولات المتسارعة التي يعرفها المجتمع الموريتاني، تتبدى لنا أزمة عميقة في البنية القيمية، حيث أصبحت النقود أداة تفكيك رمزية للمعايير التقليدية التي قامت عليها المجتمعات العربية الإسلامية عموما، والمجتمع الموريتاني خصوصا.

فهل ما نشهده هو مجرّد تطور طبيعي؟ أم أننا أمام تغول مالي يشبه ما حذر منه جمال عبد الناصر وهيكل وفهمي هويدي، وماكتب علي الجدران في انتفاضت 84 حين أشاروا إلى خطر تحالف رأس المال مع السلطة على حساب المجتمع والأخلاق؟

1: من المقدس إلى السوق — المال كمفكك اجتماعي

إن جمال عبد الناصر حين كان يتحدث عن الثورة، لم يكن يراها فقط تغييرا سياسيا، بل مشروعا أخلاقيا يعيد ترتيب الأولويات الاجتماعية. وقد قال:

(لسنا ضد الأغنياء، ولكننا ضد الغنى الذي لا يخدم الناس، ويشتري النفوس ويشتري الضمائر) في المجتمع الموريتاني، الذي تأسس على سلطة الرموز الدينية، والعلماء، والوجاهات الاجتماعية، نشهد اليوم انزياحا حادا في سلم القيم، حيث يقدم المال على العلم، والثروة على الورع، والنفوذ المالي على النبل الأخلاقي.

قد عبر محمد حسنين هيكل عن هذا التحول بقوله:(حين تفقد الفكرة أخلاقها، لا يبقى منها سوى التجارة)

هكذا تحولت الكثير من المؤسسات والمجالس والهيئات إلى أسواق مقنعة، يتداول فيها النفوذ لا المواقف، والصفقات لا المبادئ.

2: المال والعنف الرمزي — السيطرة الخفية

يرى فهمي هويدي في كتاباته (أن المال إذا لم يضبط بضوابط شرعية وأخلاقية، أصبح أداة لإفساد السياسة والدين معا) وهو ما نلاحظه بجلاء في الحقل السياسي الموريتاني، حيث يمارس المال عنفا رمزيا خطيرا يتمثل في:

شراء الذمم الانتخابية.

تسليع الولاء الحزبي.

إخضاع الإعلام والثقافة لمن يدفع أكثر و هكذا يقصى الشباب النزيه، والمثقف الوطني، والشيخ الوقور، لصالح رجل الأعمال الذي يمول لا يبني، ويشتري الأصوات لا يربح القلوب.

 قال جمال عبد الناصر:

(إن الذي يملك المال لا ينبغي أن يملك الكلمة أيضا، وإلا باع الشعب كله لمن يملك أكثر)

3: المجتمع الموريتاني أمام امتحان الهوية

تاريخيا، كان المجتمع الموريتاني يبنى على مرجعية قيمية مستقرة، تجمع بين التدين الفطري، والاعتزاز بالأصول، والعلاقات التضامنية. لكن في العقود الأخيرة، برزت طبقة من الأثرياء الجدد — كثير منهم لم يكن لهم دور إنتاجي حقيقي — وصارت هي المرجع الجديد، تشتري النفوذ وتفرض الهيمنة الناعمة باسم الاستثمار، بينما تعمقت الفجوة بين الريف والمدينة، بين المثقف الشريف ومن باع ضميره.

قال هيكل في سياق تحليله للطبقات الطفيلية:

 (إن المال بلا دور منتج هو سرطان في جسم الأمة، ينمو على حساب الخلايا الحية)

4: نحو استعادة الخطاب القيمي والوطني

 تجاوز هذا الواقع لا يتم إلا بعودة الخطاب الوطني الأخلاقي القومي إلى الصدارة. خطاب يعيد الاعتبار للعمل المنتج، للعقل الحر، للضمير النزيه. وهنا، نجد في فكر جمال عبد الناصر ما يصلح قاعدة للنهضة من جديد، حين قال:

(نحن لا نبني قصورا، نحن نبني أمة) تناغما مع هذا المبدأ، يدعو فهمي هويدي إلى تحرير الدولة من قبضة المستثمرين، وردها إلى دورها كحارس للمصلحة العامة لا كوسيط في البورصة.

وفي الحالة الموريتانية، هذا يعني:

تفعيل الرقابة على المال السياسي.

إعادة الاعتبار للمعلمين والمثقفين والعلماء.

إعادة بناء الإعلام من منظور وطني لا إعلاني.

تجديد العقد الاجتماعي على أساس العدالة لا الغنيمة.

في زمن تشييع القيم لصالح السوق، تبقى كلمات جمال عبد الناصر دليلا أخلاقيا لا يفقد راهنيته: (الحرية لا تُشترى، والوطن لا يُباع، والكرامة لا تهدى بل تنتزع)

فهل يدرك المجتمع الموريتاني أن النقود، إذا لم تضبط، ستفكّكه من الداخل؟ وهل نملك بعد الشجاعة الفكرية والأخلاقية لنعيد بناء سلم القيم على أساس ما نحن، لا ما نملك؟

قاسم صالح

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122