وسط حملة إعلامية كاذبة خاطئة، وزخم سياسي مُكابر لا ريب فيه، تجرى المفاوضات الموريتانية الأوربية الهادفة إلى التوصل لإعلان مشترك بين بلادنا والأوربيين، يتناول في بعض بنوده مواضيع مكافحة الهجرة غير الشرعية، وقد بلغ الأمر ببضعنا ـ منهم سياسيون وإعلاميون وقانونيون وآخرون من دونهم ـ حد القول جازمين إن اتفاقية وقعت بصيغة الماضي، ونصّت في ثناياها على بيع الوطن والتنازل عن سيادته، وإن ملايين المهاجرين غير الشرعيين الزاحفين من إفريقيا صوب القارة العجوز، قد أزفت آزفتهم وباتوا على مشارف البلد، إن لم يكونوا قد جاسوا خلال الديار، ليفسدوا في الأرض، وليُتبِروا ما علوا تَتْبيرا.
وهي مغالطات أوغل فيها من يَقْفون ما ليس لهم به علم، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، فلا مندوحة الآن عن كشف حقيقتها وتبيان دقائقها.
فحن بين يدي مفاوضات ما تزال متواصلة حول وثيقة إعلان سياسي مشترك، وليست اتفاقية بالمفهوم القانوني، وقد كان بيان وزارة الداخلية وتصريحات أمينها العام واضحين حول هذا الموضوع، وما تزال الأفكار والآراء بشأن هذه الوثيقة دُولة بين الفنيين والخبراء من المفاوضين أخذا وردا، ولم يتم الاستقرار على رأي مشترك فيها، بلْه التوقيع عليها، وما سربته بعض وسائل الإعلام الأوربية والمحلية، كان مجرد ورقة قدمها الطرف الآخر، وتحفظت بلادنا على بعض ما ورد فيها، وقدمت مقترحاتها التي أُسست على لاءات لا محيد عنها: فلا تنازل عن سيادة الوطن، ولا قبول بما يهدد أمنه، ولا استقبال ـ على الأراضي الموريتانية ـ لأي مهاجر غير شرعي وصل إلى أوربا، حتى ولو كان عابرا عائدا إلى وطنه، ناهيك عن أن تكون بلادنا مركزا للإيواء أو مستقرا للتوطين، وقد عززت تلك اللاءات، بمبادئ أساسية ترى بلادنا أن لا مناص من أخذها بعين الاعتبار والركون إليها قبل التوقيع على الإعلان المشترك، وهي مراعاة المصالح الاستراتيجية والحيوية والأمنية للبلد، والاحتفاظ بكامل السيادة على الأراضي الموريتانية، فضلا عن تحقيق أكبر قدر من المكاسب التنموية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية لبلادنا.
وينطلق موقف بلادنا في هذه المفاوضات من نِدية في المصالح مع الطرف الآخر، وسعي لاستجلاب مكاسب جوهرية وفي مقدمتها تعزيز حماية الحدود البرية والبحرية، ورفع تصنيف بلادنا في سلم العلاقات مع أوربا لتصبح مؤهلة لمثل هذه الشَراكات الاستراتيجية، فضلا عن مؤازرة أوربا ودعمها لنا في استضافة بعض اللاجئين اللذين يقيمون على أراضينا منذ عقود (مخيم امبرة)، وهم من سكان شمال جمهورية مالي المجاورة (عرب وطوارق)، وكانت بلادنا تتحمل جزءا من تكاليف إيوائهم، واليوم سنتلقى الدعم والعون المالي لتعزيز موقفنا حال التوقيع على الوثيقة المشتركة، وهناك بون شاسع بين استضافة وتوطين المهاجرين غير الشرعيين، وبين إيواء اللاجئين الهاربين من ويلات الحروب والصراعات.
كما تطمح بلادنا من وراء هذه المفاوضات إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية وجيوـ استراتيجية كبيرة لتعزيز مكانتها كقطب استقرار سياسي وأمني في المنطقة، فضلا عن تحقيق مصالح اقتصادية وتنموية هامة، كما تسعى لرسم إطار واضح وجامع ينظم علاقاتنا مع الأوربيين حاليا وفي المستقبل، ويشمل شراكة واسعة وشاملة في مجالات التنمية والاقتصاد ومحاربة الهجرة غير الشرعية والتكفل باللاجئين وغير ذلك.
أما المفاوضات مع الجانب الإسباني، فليس سرا أن بلادنا تسعى ـ بطلب منها ـ لمراجعة اتفاقيات وقعتها مع إسبانيا سابقا في عامي 2003 و2015، لتعزيز المكاسب الموريتانية من ورائها، وذلك انطلاقا من التطورات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وما نجم عنها من تغيرات في الخريطة الجيوـ سياسية في المنطقة، وتحديات استجدت لم تكن سابقا مطروحة كما هي في الوقت الراهن.
فأين بيع سيادة الوطن أو التنازل عنها من لاءات صارمة كتلك، ومبادئ جوهرية ناصعة كهذه؟، أم أنه كلما جاءنا أمر من الأمن أو الخوف أذعنا به، وجئنا على قميص الحقيقة بدم كذب. ولو استجلينا الأمر واستقصينا الوقائع لما أصبنا قوما بجهالة، وظننا بهم ظن السوء، وبعض الظن إثم ووزر عظيم.