كلمة بدي ابنو فى ندوة تخليد الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر فاضل أمين

2023-01-30 16:04:40

لا شكَّ أن الشعر من حيث هو تجربة إبداعية وجمالية لا يمكن أن يُختصر في بعد اجتماعي مهما كان ثورياً أو تحويلياً أو نضالياً ولكن في نفس الوقت فالشعر والأدب عموماً والفن بشكل أعم لا يمكن أن يكون مُحايداً اجتماعياً حتى ولو أُريد له ذلك، إنه دائماً مُتورِّطٌ ومُنخرط.

وإذا كانت العلاقة بين الأدب والمجتمع وبين الكتابة الإبداعية والمجتمع لفتت اهتمام الكثير من الدارسين في الحقب الحديثة والمعاصرة ليس فقط لدى دارسي الأدب كحقل خاص ولكن لدى كثير من المختصين في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة فإن انغراس هذه العلاقة في ثنائية الأنا والوعي أو الذات والوعي كمفردتين مركزيتين في التحولات الاجتماعية كتحولات صادرة في مستوى حاسم من مستوياتها عن ذاتية جماعية قد لفتت بشكل خاص مباحث الاجتماع السياسي.

بهذا المعنى تُشكل الكتابة الإبداعية ذاكرة التحوّل ليس كمادة خام، ولكن خصوصاً كذاكرة للوعي بهذا التحول وذاكرة للوعي بضرورة هذا التحول كممكن سياسي أو كحتمية تاريخية حسب الحالات وزوايا النظر.

وفْق هذا الاعتبار الأخير فأعمال المرحوم فاضل أمين لا تهمّ فقط المعنيين بالأدب، في مستويي التلقي والبحث، ولكنْ أخذَها بعين الاعتبار ضرورةٌ للحقول الإنسانية والاجتماعية الأخرى المهتمة بدراسة جوانب متعددة من التحولات المعاصرة للمجتمعات المعنية.

ولكن الأهم إبداعيا أن هذه الأعمال ليست وثائق تخاطب الباحث ويستأثر بها ولكنها ما زالت تحمل شحنتها الإبداعية البِــدْئية تجاه المتلقي حين يقرؤها قراءة إبداعية.

ورغم أنّه قد بَـذل عددٌ من الدارسين جهودًا معتبرة خلال العقود الأربعة الأخيرة في دراسة نصوص المرحوم فاضل أمين وفي تقديمها لجمهور القراء ما أمكن فما تزال هناك عقبات موضوعية جدّية تواجه قراءه ودارسيه.  

إحدى هذه العقبات أنَّ أعماله غير الشعرية ما تزال تقريبا كلها غائبة بل شبه ضائعة وأن أعماله الشعرية ما تزال حتى المحقّقة منها غير متوفّرة للقارئ إلا بصعوبة رغم الجهود المعتبرة التي قيم بها في هذا الإطار.  

 ولعلّنا نشيرُ هنا عَـرضا أيضا إلى العقبات المعرفية والمنهجية ذات التأثير الذي لا يخفى على المتلقي. يتعلق الأمر تمثيلا لا حصراً بأن المقاربات المدرسية ذات التوجه التصنيفي القَـــبْـلي ما تزال حاضرة بكثافة لدى عدد ممن اهتموا بدراسة شعره.  وهو أمر متفَّهم، فمن مشكلات كثير من الأعمال المدرسية الجامعية أنها تتمُّ في سياقات غالبًا ما تدفع الطالب أو الباحث الدارس إلى التنقيب في النصوص عمّا يسمح بتصنيفها على عجل داخل رفّ من الرفوف الشائعة تصنيفيا. فالنسبة لأعمال فاضل أمين مثلًا فإن ثلاثية الشكل العمودي والمعجم والإطار السياسي والأيديولوجي المعلن لصاحب النصوص تدفع دفعا بعضاً من المتعاملين معها إلى الاستعجال في تصنيفها ووضعها في خانة أو رف فهرستي ومنهجي جاهز في مقارباتهم.

إن خصوصية نص ما تقتضي بداهة نظرة استقصائية للنص نفسه تقرأه قبل أن تستقرئه وتستقرئه قبل أن تستقرئ ما يُفتَرض قبْليا أنه شبيهه ونظيره، خصوصيته تقتضي أن يتوفر على قراءة خاصة به بما هو وبما هو فقط قبل أن يتعلق الأمر بما يربطه بغيره ...

وأحد أكثر الفخاخ الذي توقع فيها فرضيات الاختبار هو تقلّص اختباريتها لصالح تضخم تعميميتها التي كثيرا ما نقلتها ضمنيا إلى مستوى المسلمات.  وبالتالي فما يميز شعر ونثر فاضل أمين أكثر أهمية مبدئيًا مما يسمح بربطه بالقديم والحديث والمعاصر والجديد أو بأي من التسميات الرائجة في التصنيفات الأدبية المدرسية المشرقية أو المغربية أو الأجنبية.  وقد يكون من مهمات أجيال الدارسين الجدد الخروج على هذه التصنيفات المدرسية وأطرها الجامدة نسبياً وإعادة قراءة نصوص المرحوم فاضل أمين كما تقدم نفسها لا كما تم تقديمها في التقاليد المدرسية المكرّرة.

ولكن يبقى كل ذلك رهينًا بنشر أعماله الشعرية وغير الشعرية ووضعها جدّيا في يد القارئ والباحث.

ـ2ـ

بمعنىً ما كان لدى المرحوم فاضل أمين حدسٌ أوّلِي، بلْ حدسٌ مبكّر بعلاقته من جهة مع اللغة وبعلاقته من جهة أخرى مع التاريخ، بلْ يمكننا أن نقول إنه كان له حدسٌ كثيف بأنّ دوره استعجالي تجاه الاثنين اللغة والتاريخ، فقد كتَـبَ في السبعينات في جريدة الشعب: " أنا لا أملك الوقت الكافي لهندسة الكلمات واجترار التاريخ، ولستُ كاهناً يجمع حشائش الطبيعة ويدَّعي أن الإله منحه السر الأعظم ". لذلك ختَمَ هائيته الشهيرة "صفحةٌ من كتاب الشراة":

" فيا مطرٌ في جفافِ النكوص وحلم المسيرة أرحابَها

إليكَ القصيدُ فأنتَ الخضابُ وقد تحمل الكفُّ خضّابَها "

إنه تلك الإرادة القادمة من أعماق الصحراء والتي ترفض أن تُطمر خلف وادي الرمل "الذي لا يُعرف ما وراءه" باستعمال تقريبي لتعبير ياقوت الحموي، تلك الإرادة الشّعْلة التي ترفض أن تُطمر تحت ركام المعاجم المتهالكة والقوافي المكرّرة والصور منتهية الصلاحية منذ قرون. ولكن رهانه أنْ يخضّ المفردات نفسها وأن يصنع من الإيقاع الموروث نفسه بركاناً يجمع الأنا والـ نحن في اصطفافٍ وجوديٍ لـ"الأنا" و"الأنت" عبر الشعر، وذلك في وعي جديد يدشنه النحن من حيث يكاشف النحن ذاتيته بدْئياً:

" أحلامُنا في خيامِ البدوِ باطلةٌ

ومهدُنا في مراعي الحيِّ مهجورُ

ظلّانِ من هاجسِ الصحراءِ مقصدنا

مدينةُ الشمسِ يَحبو دونَها السورُ

سنأكلُ الرَّملَ مَعجوناً بأدمعنا

ونشربُ الآلَ تحدوهُ الأعاصيرُ

ونوقدُ النارَ كيف النارُ في بلدٍ

ماتَ الغضا فيه لا دفءٌ ولا نورُ

إنّا هنا لامتلاكِ النهرِ فادَّرِعي

صبراً فلا الجوعُ يُثنينا ولا الجورُ"

هنا فقط تتطابق النحن بالأنا لأن جبّة هذه الأنا الحلاّجية أصبحتْ لا تعي فقط أنّ فيها إنسانا ساكنا بل تعي أيضا أنه من حيث هو ساكن فهو يحمل استلابه، يحمل قيوده، بينما الصوت الهامس في أعماقه قادرٌ لو استنطِق أن يعلو في مداه مدى "الما كان" و"الما استقرّ":  

"بكلِّ أرضٍ سعتْ رجلي مطاردةً

كأنني واترٌ والدهرُ موتورُ

في جبَّتي يسكنُ الإنسانُ مستلَباً

وفي ذراعيَّ يبني جحره النيرُ

ويصغرُ الكونُ عن همسٍ أردِّده

ولو صدعتُ به فالكونُ قطميرُ"

ـ3ـ

تبدو الصفة الأساسية للمرحوم فاضل أمين أنه، فيما يتجاوز كل تصنيفٍ مدرسي، اندفاعٌ ملحمي به وعبره يتكشَّف الفعل النضالي، كتجربة تغييرية مرحلية، وكتجربة إنسانية أبدية، يضيء لنفسه كي يضيء لغيره:  

" والتائهُ النازحُ الأوطانَ ترمُقهُ

كلُّ القُرى شزراً واغربةَ الدارِ"

ولذلك لم يكن الشعرُ في تصوره وكذلك في أبرز نصوص مدونته هوامشَ على حياةٍ ما فردية أو اجتماعية، لم يكن هوامشَ تَــتَسجّلُ مثلا في إطار النظرية الكلاسيكية للأغراض. وهي كما هو معروفٌ نظرية تقليدية توزّع الشعر في عمومه على "أغراض" تسميها شعرية وتزامنياً تَختزل تقريباً كلّ هذه الأغراض ومعها الشعر جمْعاً في المديح، أو بعبارة أدق تسعى إلى أن تختزل القول الشعري كلّه في المديح أو في تنويعات تمجيدية على المديح. فالشعر هو بالنسبة للنظرية العتيقة جوهريا مديح، مديحٌ لـ"لأنتَ" في "غرضيْ" المدح والرثاء، ومديحٌ لـ"لأنتِ" في "غرض" الغزل، ومديحٌ ذاتي في "غرض" الفخر، ومديح سلبي في "غرض" الهجاء، وغير ذلك تنويع على تلك "الأغراض" وامتداد لها.

وقد تضافر بمعنى ما خروج فاضل أمين المعلَن في مرحلة معينة على هذه "الأغراضية" التقليدية مع رفضه غير الموارب أيضا للتصنيفات المدرسية القبْيلة، فقد كتبَ ونشرَ في إطار سجال مشهور اعترضَ فيه بصرامة على وصفه انطلاقا من إحدى قصائه بشاعر غزل: " لقد فوجئتُ بهذا التعريف، فما كنتُ أحسب أنه يوجد بيننا من يتخيلون الشعر لعبة شطرنج يتحرك الشعراءُ القِطعُ على ساحتها كلٌّ في خانته المتخصصة ومساره المحدّد".

وفي نفس اللحظة التي يرفض فيها التصنيف السهل يُثبت موضوعه الشعري المركزي:" أنا أغلب نتاجي الشعري المتواضع كان عن الوطن، عن القضايا الوطنية".

غير أنه لا يريد للوطن أن يكون خانةً تصنيفيةً بين خاناتٍ أخرى أو أن يكون شكلاً هندسياً عقارياً :" أنا لا أضع منطقةً محايدةً بين المرأة والوطن، فالوطن عندي ليس مربعاً أو دائرة وليس جوقة لأناشيد الوطن، هو هذا الإنسان بكل ما يحمله من عواطف وتطلعات، وبكل ما يعتريه من انفعالات وما يتناوبه من ضعف وقوة ومن خذلان وشدة، فحين أكتب عن الوطن إنما أكتب عن الإنسان الساكن في هذا الوطن، وعندما أكتب عن الإنسان أكون قد كتبت عن الوطن الذي يسكنه هذا الإنسان"

فالأرضُ والوطنُ والإنسانُ ... كل واحد منها استعارةٌ عن الآخر. تماماً كما أن الوفاء لهذا الإنسان كالوفاء للوطن، كالوفاء للأرض، هو رفض ل"الما كان" من أجل غد سيكون وسوف يكون مهما كان :

" إنّي مُكافح أقداري إلى أبد لا ينتهي شأوهُ أو يُشرقُ النورُ "

كان رحمه الله، لا ينتظر أن يقترب الأفق أو أن يُظلِّل نجمٌ ما ولكن يريد نقضاً لقرون الاستقالة والاستكانة أن يمسك الأفقَ ويُغيِّر مساره:

" أسائلُ الركبَ عن قومي مرابعهم  

والسابحاتِ فما توحي بأخبارِ

  وأذرعُ الأفق بالتحديقِ أغرقه              

نجماً لنجمٍ وأمطاراً لأمطارِ "

الشاعر بهذا المعنى يحمل مفرداته وإيقاعه وصوره كأدواتٍ في مواجهة ما يراه واقعاً تحكمه المفارقة التراجيدية فهو يعي من جهة الواقعَ القائمَ ويعي من جهةٍ أخرى أنه ليس لهذا الواقع أن يقوم أو أن يظلَّ قائماً :

" لا خبزَ لا ماءَ لا مرعى ولا كنفاً

يلُمُّنا ...كلُّ وادينا مواخيرُ

وما تبقّى لنا في الجدبِ منْ وكَنٍ

إلّا السوافي وبابُ الكهفِ مكسورُ

...

يا أيُّها الفقراءُ المنفيون هلا

إنَّ الزمانَ لكم فاستنْكروا ثوروا

وحطِّموا هيكلَ الأوثانِ واحتضنوا

وجهَ الترابِ فإنَّ الحقَ منصورُ "

والشاعر في هذا الأفق الثائر مدفوع بقوته الإبداعية الداخلية لا يمتلك لها ردّاً أو بتعبير فاضل أمين: "الشاعر فيما أعتقد مدفوع يكتبه مكرها شاء ذلك أم لم يشأه".

ـ4ـ

إذا كانت البنية الشكلية العامة للقصيدة عند فاضل أمين هي بنية كلاسيكية بطبيعة تكوينه وبطبيعة الأدوات التي كانت متوفرة لديه فإنه تزامنيا، وبشكلٍ واعٍ لِما يطمح إليه تعبيرياً، كان يريد لتلك البنية أن تَخرُج من القواميس ومن المكتبات العتيقة، أنْ تخرج من "الأطربتنا" المضاربية لتنخرط في مشروع الأنا/النحن الثائرة المتألّمة التي تواجه نفسها سياقياً، في لحظة تاريخية محدّدة وفي زمان ومكان محدّدين.

وكان ينطلق مما يبدو أنه يعتبره تعاقداً ضمنياً مع المتلقي كتعاقد يقتضي، في تصوره، أنّ على اللغة الشعرية أن تبدع تواصليتها السياقية، وبالتالي أنْ تنتمي إلى الفضاء المشترك للشاعر والمتلقي.

وبالتالي ففاضل أمين يعتبر ذلك الفضاء التداولي الذي يُسجل الأنا الشاعرة في نحن محدّد زماناً ومكاناً، لغة ومفردات وإيقاعات إلخ، يعتبره المرجع الحاسم وليس مدونة معيارية ما قديمةً أو حديثةً، فاللغة في نظره يَـلزمُ أن تكون التحاماً شفّافاً مع المتلقي وليستْ حاجزاً معجمياً يفصل الشاعر عن المتلقّي. هكذا كتبَ فاضل أمين بطرافة تهكّمية أنّ تَخفِّي الأديب "وراء جدارٍ سميكٍ من اللغة حكاية قديمة مجَّها الأدب المعاصر ومجَّ معها أنبياءها وفقهاءها، ونحن لا نريد من أحد أن يعيدها إلينا جذعة من خلال قراءته في النقائض أو في مقامات الحريري، فاللغة ليست متحفاً أثرياً نهرب إليه من الفراغ، والناس هم الذين يملكون حق إعدام الكلمة أو خلقها حسب متطلبات حياتهم ومعيشتهم".

واعتباراً لذلك فالشاعر كمنخرط في هذا المبدأ الذي ينظر إلى اللغة في حيويتها اليومية، في نبضها الفاعِل، في قدرتها على أن تؤدي وظيفة فعلية في الحياة الواقعية تغيّراً وتغييراً فإنه في آن ابنُها ومنتجُها داخل حركية اجتماعية محـدّدة:" الشاعر ليس بواباً في المجمع اللغوي وليس موظفاً عند الخليل أو الأصمعي أو سيبويه، ولا هو بماسح أحذية عند الكوفيين والبصريين، إنه هو الذي يخلق لغته ويوظف كلماته".

الصوت الشعري بهذا المعنى ليس على هامش الفعل الاجتماعي وليس أيضاً فقط مادةً من مكوناته ولكنه يريد أن يكون فاعلاً يحمل قدرة تشكل الوجود قدرة احتدام الوجود كي يولد من جديد وبصيغة أخرى. ليست القصيدة هي التي تولد هنا بشكل جديد وإنما المجتمع أولاً كتب فاضل يوماً أن الشاعر مثلاً عكساً للناقد "يسكن كل مكان ويتسكع في كل مكان دون تأشيرة للدخول وبلا بطاقة تعريف أو جواز للسفر "

يريد فاضل أمين أن تكون علاقته بالمُتلقي مباشِرة وهو بذلك يفضّل أن يقول بنفس اللهجة التهكمية إنه لم يكن يسكن برجاً عاجياً أو صومعةً يتمترس خلفها باللغة ولم يخرج فجأة إلى الجمهور، بل يعتبر أن وجوده كشاعر مرتبطٌ أصلاً بعلاقته اللغوية المباشرة بالجمهور المتلقي:" الحقيقة أنني لا أملك صومعةً ولا كنيسةً ولا علاقة لي برجال الأعمال، لكنني لستُ من الذين يسجنون أنفسهم وراء الأسوار حتى يتصبب العرق من جلودهم ويتأفَّفون من تصريف فعلٍ ثلاثي للجمهور أو تقديم حرفٍ هجائي له".

إنه يقوم بعملٍ لغويٍ واعٍ بنفسه يريد أن تكون لغته هي نفسها لغة جمهوره:" إنني أترصد لغة هذا الجمهور الذي أكتب له فأكتب بها، إذ لا أريد لقصيدي أن يموت عل كفِّ القابلة أو يُلقى به في البحر أو يبقى عند الشرطة حتى يُعرف من هو أبوه ومن هي أمّه".

إنها إذاً تجربة تشمل الشاعر والمتلقي كمبدعين للغة، تجربة تستخدم الأدوات التي تتوفر عليها أو تلزم نفسها أن تتوفّر عليها زمكانياً، وهي بهذا المعنى ليست أساساً تجربة قول يقابل فعلا أو تجربة قول يصاحب فعلا ولكنها تجربة تحوّل في الوعي أو تتغيى أن تكون تجربة تحول في الوعي تتشكّل شعراً، وتريد أن تكون هي المادة التي يتشكل بها هذا التحول والتي يتشكل عبرها هذا التحول. إنها هي بذلك التي تُخاطب الوعي لا لتقول له وإنما لتصنعه عبر تغييره، لتخلق لدى لشاعر والمتلقي وعياً بديلاً مشتركاً.

ـ5ـ

من هنا تأتي قصائد فاضل أمين ملتحمة بحياته، يأتي شعره وحياته متطابقين كتجربة واحدة.  لا تتضافر قصائده مع تجربته الحياتية فتنقل حلقاتِها أو تترجمها بل قصائده هي، من حيث هي شعره، تجسّد هذه التجربةُ الحياتية نفسها في انسجامها وفي اندفاعها نحو أفقٍ واحد. تأتي مثلاً قصيدته عن تجربة مداهمة الشرطة السياسية لبيته في شهر مارس 1982 لا لتقول فقط التجربة بل لتؤسس الوعي بالتجربة:

" إسمع أخي سأقصُّ عما قد جرى

طرقَ اللصوصُ بيوتنا غبَّ الكرى

كان المؤذنُ يا أخي يدعو الورى

الله أكبر فالصباح قد أسفرا

لكنهم كانوا هناك بجيشهم

وكلابهم تعوي وتنبش في الثرى

جاءوا كعاصفة الجرادِ من المدى

تجتاحُ في الظلماتِ نبتا أخضرا

هتكوا البيوتَ بخيلهم وبرجلهم

واستجوبوا حتى الشقيق الأصغرا

حتى دمى الأطفال، حتى مصحفي

ظنَّ الكلابُ به سلاحا مشهرا"

وهو بهذا ينقل لحظة التجربة من مستوى السرد إلى مستوى الموقف. ولذلك تتضافر هنا هذه الأبيات مع تلك التي تليها والتي يعود فيها مباشرةً الشاعر من ضمير الجمع الغائب إلى الأنا المتكلم:

" أنا يا أخي سأظل مثلك صامدا أنا لن ألين لمن طغى وتجبَّرا

إن يقهروا جسدي فإن إرادتي أقوى من الليل المخيم في الذرى "

فبقدر ما يتحدثُ فاضل أمين هنا عن تجربة خاصة، عن تجربة سياسية وأدبية خاصة، وعن مرحلة زمنية خاصة،  بقدر ما يخترقها ويتجاوزها داخل البنية والإيقاع الموروثين، مثلا داخل البنية الخليلية الكلاسيكية أو الموروثة، وفي أفق التجربة الشعرية الحديثة كما وصلتْ إليه. إنه يريد أن يخاطب جمهوراً محدّدا له ذائقته ووعيه في مرحلة تاريخية معينة ولكن يريد في الوقت ذاته وعبر الاكراهات التعبيرية القائمة أن يمنحه، في مستوى الوعي والتعبير، في مستوى ذاتية التغيير الوجودي كضرورة تاريخية، يريد أن يمنحه أفقاً وجوديا جديداً.

ـ6ـ

نفهم تبعاً لذلك هذا الطموح البركاني لديه والذي يريد للوفاء للأرض مثلا أن يعبر عن نفسه كإرادة لتغييرها. بمعنى آخر يريد للأرض أن تكون وفيةً لنفسها وفاءً ثورياً، أي وفاءً لا يبقيها كما هي بل وفاءً يجعلها تهتزَّ وتربو، بل يجعلها تتزلزلَ كي تولد من جديد وكي تلد أديما جديداً وأفقاً جديداً:

"وزُلزلت الأرضُ زلزالَها وأَخرجت الأرضُ أربابَها

وفاتحةٌ من كتابِ المصيرِ   تُمجِّدُ في الدهرِ كتابَها

وحريةٌ من بنات القرا ع يطرقُ شعبكَ أبوابَها

وهذي السواعدُ مرفوعةٌ إلى المجد تحمل أصحابَها "

الوفاءُ هنا ليس وفاء احتفائيا ولكنه وفاءٌ احتجاجيٌ، وفاء لا يريد استمراراً وإنما تجدداً، ينتصر للزلزلة المُنجِبة. الشاعر بمعنىً ما يستنفر الأرضَ ضد نفسها، يستنفرُ القوافي ويستنفر الإيقاعَ الكلاسيكي، أي يستنفر الذاكرةَ القائمةَ كي يُخاطب الذاكرةَ بما تعرف، بما به تأنَس، بما له تألَف، في نفس اللحظة التي يقول لها إنّ عليها أن تقطع مع ما تألف، وأن تتزلزل كي تكون شيئاً جديداً:

" يا أمَّنا يا أمَّنا لكِ الحنانُ والجَنى

في الأرضِ يُستجلى المنى في الأرض يُستمرا الهنا "

ولكنها تلك الأرض التي ينتقل معها الشاعر من العِظامية إلى العِصامية، لا يقول كان أبي إلا بقدر ما يقول ها أنذا:

" يا أيها الوكر الأبي     على مسار الحقب

يا مهد أمي وأبي هذا أنا هذا أنا "

ذلك أن تلك الأرض يُنظر إليها هنا على أنها ليستْ فقط حاملاً للماضي أو حاملاً لما ارتكز واستقام واستقر، ليست فقط الماضي المَطمور والمُتكلِّس إنها أيضاً الأفق والممكن:

" يا أرضُ يا أمَّ البشر ومَهبَطَ النورِ الأغر

يا سفر أحلام البشر ومنبعَ الماءِ الغَمِر

يا أمنا يا أمنا

يا أرضنا يا أرضنا خذي إليك عهدنا

أن نفتديك بالقنا شبابنا وشيبنا "

وبهذا المعنى نفهم أن الشاعر لا ينظر إلى الأرض فيما تحمله من الماضي وما تختزنه من القرون السحيقة إلا لكي تكون هي نفسها القادرةَ على أن تعلن عصراً جديداً، أن تُفجّر ينابيع، بلْ أن تتزلزلَ كي يكون كلُّ ما كان وسيلةً لميلاد ما سيكون:

" أَضاربةٌ عزَّ أطنابِها       وحاجبةُ عنكِ حجّابَها

وقارئة في سماع الزمانِ   صلاةَ البقاء وآدابَها

وعائدةٌ من رِكاب العصو   ر صمتَ القبورِ وأحبابها

وما للحضور وما شأنها وهذا السفورُ وما عابها

وهذا الصليل صليل السيوف يُؤُمَّ الخيولَ وأعرابَها"

في هذا المستوى يتضح أن التجربة الحياتية والشعرية لفاضل أمين في ثخونتها الخاصة، في تلاحُمها، كوحدة منسجمةٍ ذاتياً بدرجة معتبرة، هي هنا أولاً وقبل كل شيء مواجهة مع الواقع ومواجهة مع أهمَّ ما يُؤسِّسُ للواقع ويُؤسِّسُ الواقع أي الوعي الإنساني، مواجهة مع هذا الوعي من داخله عبر أداة تغييره تلك التي يمتلكها الشاعر في صورة القول الشعري كطاقة فاعلة في الوعي المشترك للشاعر والمتلقّي كما تعبّر عنها مرّة أخرى الزلزلةُ نفسها:

"وزُلزلت الأرضُ زلزالَها وأَخرجتْ الأرضُ أربابَها

...

وهذي السواعدُ مرفوعةٌ إلى المجد تحمل أصحابَها "

تجربتُه مواجهة منسجمة مع نفسها في تحولها، حياةً وتعبيراً، منسجمة إلى آخر لحظة، إلى تلك اللحظة أو اللحظات التراجيدية في حياته التي ظلَّ يرفض فيها الانكسار والاستسلام كما تُعبِّر عنها رسالته الأخيرة إلى والده قبل وفاته بقليل والتي بقدر ما كان يستشعر فيها رحيله رحمه الله حين يَستشهِـد ببيت المتنبي: 

" وإذا لم يكن من الموت بدٌّ

فمن العار أن تموت جبانا "

بقدر ما كان فيها، تزامنياً، لا يقبل للأفق أن ينهزم ولا يقبل للألم إلا أن يكون أملا:" إنما هو ليلٌ يعقبه صباحٌ وغيمةٌ عن قليل تنقشع."

رحم الله فاضل أمين، رحم الله فاضل أمين مع النبئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122