تعود قضية التشدد الغربي الحالية إزاء المطالب الروسية و مع الوضع الحالي في أوكرانيا إلى خلفيات تاريخية قديمة. فبريطانيا خاصة و كذلك فرنسا تطاردهما عقدة (اتشمبرلين/دلادييه) حينما قبل هذان الزعيمان تجنبا للحرب في أوروبا سنة 1938 م بترضية الفوهرر على حساب اتشيكوسلوفاكيا إبان أزمة " السوديت لاند" و هو إقليم من الألمان البوهيميين كانوا يتبعون لتلك الدولة . على إثر ذلك استولى هتلر على اتشيكوسلوفاكيا بأكملها فيما عرف بسياسة القضم وذلك دون مراعاة لمضمون لاتفاق ميونيخ مع الفرنسيين والانجليز كما انفتحت شهيته أكثر للتوسع ، فغزا بعد عام من ذلك وتحديدا في سبتمبر 1939م جارته بولندا (بولونيا) المجاورة مما أدى إلى اشتعال الحرب العالمية الثانية. كان حكم التاريخ قاسيا على نيفيل اتشمبرلين وادوارد دلادييه في خنوعهم لهتلر عام 1938 إذ كان الأولى التصدي له من البداية ولجمه.
جميع الزعماء الغربيين حتى ولو لم يقولوها صراحة يعتبرون أوكرانيا اليوم مثل اتشيكوسلوفاكيا عام 1938م وقناعتهم أنهم إذا سكتوا فالدور سيأتي لا حقا على جمهوريات البلطيق الصغيرة (لتوانيا، لاتيفيا وأستونيا) وربما على بولندا نفسها وكلها دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي . أكثر من ذلك ليس هناك أدنى رغبة لديهم في إعطاء هدايا لروسيا "بوتين" التي ترفع رأسها و وصلت بقواعدها ومرتزقتها إلى ضفاف البحر الأبيض المتوسط و أعماق إفريقيا و لا سيما أن الصين القوى العظمى الأخرى المتحفزة ترقب عن كثب لتستخلص النتائج وتستبين الفرص .
الدول القارية الأوروبية كإيطاليا وفرنسا وألمانيا على الخصوص لم تكن راغبة في الطلاق مع روسيا التي هي دولة أوروبية في النهاية ونظرا لتشابك المصالح الاقتصادية (أنابيب الغاز ...) ، أما بريطانيا التي هي أوروبية وخارج البر الأوروبي و صارت حتى خارج الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء " البركسيت " فقد كانت الأكثر عدائية في تصريحاتها و في تصديها للروس ، حتى أنها استحضرت في بعض تصريحات مسؤوليها حرب القرم في منتصف القرن التاسع عشر (1853-1856) بين تحالف دول هي ضمنه ضد روسيا القيصرية .
و بريطانيا في ذلك ربما تتوزع الأدوار مع أمريكا لأنهما أقرب حليفين في المنظومة الأطلسية.
وبشكل عام ليس هناك أية دولة ترضى حقيقة بالابتزاز و التهديد العسكري أو الغزو المباشر لدولة أخرى مستقلة ، ذات سيادة و عضو في الأمم المتحدة لأن ذلك يقوض الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية البينية حاليا.
فأروبا قد شبعت من الحروب خلال القرون الماضية و هي حاليا مكونة من فسيفساء دول بعضها صغيرة يرعبها الغزو أو تغول أية قوة عسكرية مهيمنة .
وهذا ما يفسر حالة التنادي بل و التحامي على روسيا بالعقوبات والمقاطعة بشكل غير مسبوق وإن لم يكن مفاجئا على كل حال وهو من باب غريزة البقاء والشعور الذاتي بالتهديد حتى أننا نلاحظ بدايات حصول تحولات عميقة كإعادة تسلح ألماني (بالأمس أعلن المستشار ميزانية 100 مليار يورو للدفاع!!!) وشيء آخر يتحرك في اليابان هي الأخرى .
وهذا مما يشي بتحولات عميقة قادمة ليس فقط من دول مقابلة للتحالف الغربي وإنما داخل بنية هذا التحالف نفسه.
وهذا المنحى في التحولات ربما كان تأثيرا غير مقصود و بالتأكيد غير مرحب به لدى الرئيس بوتين طبعا.
ومثل ذلك هذا البعث في روح جسد التضامن عبر الأطلسي المترهل بفعل " الترامبية " و حتى هذا الاقتراب الشديد في التحشد العسكري للحلف الأطلسي في الطوق اللصيق بروسيا. يحاول بعض الغرب توريط روسيا في حرب أهلية أوكرانية لسنوات ولو على حساب تدمير هذا البلد وذلك لإنهاك هذا الدب الشرس و البلد الكبير الطامح لوراثة مكانة الاتحاد السوفيتي وذلك بالموازاة مع الحصار الاقتصادي الخانق المفروض و المتزايد و الذي لن تظهر آثاره الخطيرة كاملة إلا بعد مدة من الزمن ؛ وكل ذلك مع المحاولات الحثيثة لفرض العزل الدبلوماسي والشيطنة الإعلامية و الدعائية . و يبقى الهدف النهائي هو كسر الطموح و إعطاء العبرة للآخرين كالصين عسى أن يؤدي كل ذلك في المحصلة إلى النيل من مكانة الرئيس بوتين نفسه داخل روسيا ، خاصة وأن العملية البرية الجارية بدأت تتعثر والأكرانيون شرعوا يستفيقون من الصدمة وينظمون حرب المدن والمزاوجة بين الحرب التقليدية وغير التناظرية و يساعدهم في ذلك أن أرضهم شاسعة قريبا من 700 ألف كيلومتر مربع و بكتلة سكانية ضخمة أكثر من أربع وأربعين مليون نسمة مع الدعم الغربي العلني الكثيف ومن جميع النواحي المالية و الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية و في الخبرات .
والأهم في كل ذلك أن اكرانيا لها حدود مباشرة مع دول أطلسية عديدة كبولندا وسلوفاكيا والمجر و رومانيا . و على ضوء كل ذلك يأتي وضع الرئيس بوتين بالأمس على الطاولة الرادع النووي لكسر هذا الاندفاع وللتحذير من أنه لن يقبل بهكذا سيناريو . وبغض النظر عن الهدف والمضمون فإن هذا الإجراء يذهب بالتصعيد إلى آخر حد .
صحيح أن الغرب تلقى ظاهريا الموضوع ببرودة أعصاب مشوبة بصدمة . لكن الحقيقة أن لا أحد ينبغي أن يستهين بعزم الرئيس بوتين إذ لم يكن من قبل متصورا أنه يمكن أن تصير الأمور على ما هي عليه اليوم في أكرانيا. الرادع النووي الاستراتيجي الذي امر بتفعيله الرئيس بوتين بالأمس واليوم هو سلاح القيامة والفناء المتبادل . و من هنا ليس لأحد ، لا الرئيس بوتين ولا نظراؤه في الغرب مصلحة للوصول بالأمور إلى ذلك الحد من أجل أوكرانيا غير العضوة في التحالف الأطلسي .
وقد انعكس التأثير المسجل للتلويح النووي حتى الآن على قبول الأوكرانيين بالذهاب للتفاوض إلى "مينسك" بعد أن كانوا يرفضون التفاوض قبل ذلك في روسيا البيضاء حليفة موسكو . كما تراجعت أيضا حدة التصريحات العدائية الغربية : - فمثلا أمريكا صارت تقول أن لا أحد يهدد روسيا، - وبريطانيا تؤكد أنه ما من أحد يريد الإطاحة بحكومة روسيا ، -و أخيرا معاودة الرئيس الفرنسي التواصل اليوم مع بوتين . و بشكل عام فمن المعروف بشأن السلاح النووي أنه سلاح ليس للاستخدام وإنما هو لحماية السيادة والقرار. و هو بمجرد الحصول عليه يتحول من ميزة قوة إلى عبء عظمة.
وهذا المفهوم الحامي للسيادة والقرار الوطني هو مع ذلك مفهوم نسبي حيث أننا رأينا عام 2001 دولة باكستان النووية وقد هددتها أمريكا بضرورة التخلي عن حليفتها طالبان تقبل بذلك مكرهة متحججة بأنها فعلت ذلك لحماية رادعها النووي !!!!! و في أدبيات الحرب الباردة كان هناك مفهومان ( عقيدتان ) في استخدام السلاح النووي وهما :"مضاد القوى "Anti -Forces" و مقابله "مضاد المدن Anti- Cités".
كما أن حلف وارسو الذي كان متفوقا بشكل حاسم في القوات التقليدية خلال الحرب الباردة ، كان لديه التزام ذاتي بأنه " لن يكون البادئ بالاستخدام(السلاح النووي)" "No First Use" وبالمقابل كان الرد الأطلسي المتخلف في الأسلحة التقليدية عن حلف وارسو هو الالتزام ب "أن لا يكون البادئ بالهجوم(الحرب) ' No First Strike" وفي الثمانينات ومن أجل تفادي ضرورة البدء باستخدام الأسلحة النووية ولو كانت تكتيكية في حال هجوم تقليدي كاسح ( أي ضربة نووية ضد تلك القوات ) فقد طور حلف شمال الأطلسي عقيدة "مهاجمة ما وراء نسق قوات الهجوم" والتي وضعها الجنرال والأمريكي برنارد روجرز قائد القوات الأمريكية في أوروبا. Doctrine (FOFA):Follow- On - Forces Attack. of General Bernard Rogers.
وإذا كانت الرادع البريطاني هو بحكم الجزء أو الرديف للرادع الأمريكي فقد.كانت لفرنسا سياسة نووية خاصة . و بالنسبة لفرنسا فقد كانت عقيدتها للاستخدام مكونة من مستويين وهو السلاح ما قبل الاستراتيجي وهي صواريخ pluton التكتيكية و صواريخ " هادس" الأطول مدى . Armes prés strategiques (Hadès) وكان مفهوم استخدام صواريخ (هادس ) أن يكون ضد قوات غزو من حلف وا سو تتجاوز نهر الراين بألمانيا كإشارة لا لبس فيها بأن المهاجمين إن تقدموا سيصطدمون لاحقا بالرادع النووي ( صواريخ أرض/أرض في هضبة ألبيون و الطائرات الاستراتيجية Mirage 4p وأيضا غواصات الصواريخ SNLE ).
وبالنسبة للإسرائليين يبدو أنهم فكروا في شيء ما خلال حرب أكتوبر 1973 إن ساءت الأمور أكثر . أما الهند وباكستان فلم يرشح بعد عنهما أي عقيدة استخدام متدرجة وكذلك الصين . أما كوريا الشمالية فهي حالة خاصة غير نمطية Non atypique .
ومضمون التهديد الروسي بالأمس قد يكون تكتيكيا و بأسلحة صغيرة نووية أو أسلحة نيترونية أو أسلحة ما بين التقليدية والنووية وذلك بالطبع عند حدوث مأزق كبير وضرورة قصوى .
و يبقى هذا مع ذلك غير مرجح لأنه ربما لا حاجة له أصلا لما لدى روسيا من قوة تقليدية متفوقة على أوكرانيا و لأن مثل ذاك سيخلق عداوة لا تندمل بين شعبين أخويين ، كل شيء يجمع بينهما فضلا عن القرب الجغرافي بين البلدين المقيد للاستخدام نتيجة التأثيرات السلبية الممكنة عليهما معا .
و الراجح أن الإشارة هي موجهة بالأساس للغرب بغية التروي في الاندفاع و ليجعلوا بعض الماء في قداحهم كما يقال . لكن طرح الموضوع بذلك الشكل وبتلك السرعة والحدة ومن ثاني قوة نووية في العالم ستكون له انعكاسات دولية خطيرة مستقبلا . فاستخدام السلاح النووي أضحى بذلك مسألة مطروحة في النزاعات لكل من يملكه.
لذا سيحرص الجميع على حيازته لأنه معرض لأن يبتز ويهدد به.
و هناك مبرر آخر يعزز هذا الانطباع و هو متعلق أيضا بأوكرانيا التي كان لها سلاح نووي تخلت عنه طواعية مقابل وعود روسية وأمريكية بحماية السيادة وأن لا يستخدم السلاح النووي ضدها وهي وعود ذهبت أدراج الرياح .
وخلاصة القول أن عالمنا اليوم هو عالم في طور التحول بل لعلنا بصدد كتابة السطر الأول من سفر جديد ولا أدل من ذلك أنه حتى ولو نجحت المفاوضات الجارية بين روسيا أوكرانيا في روسيا البيضاء بالاتفاق على حياد اوكرانيا و نزع سلاحها أو اقتطاع جزء منها فإن هذا ليس كفيلا بإنهاء متاعب روسيا التي دخلت أو أدخلت في جب عميق من المقاطعة لا أحد يستبين كيف سيصير لها الخروج منه .
ثم إن أوكرانيا أو ما سيتبقى منها ولو منزوعة السلاح وحيادية ستصير دولة هواها وولاؤها مع الغرب الذي سيضخ فيها الأموال والاستثمارات ليجعل منها قدوة ومثالا يشوش بها على روسيا وشعوبها الموضوعة تحت الضغط الاقتصادي .
الأسئلة كثيرة ولا أحد يعرف الإجابة عنها لكن السؤال الأهم يبقى هل أخطأ "القيصر" -أعني الرئيس بوتين - الحساب هذه المرة أم أنه يعرف كيف سيؤدي الحركة التي بها سيطيح بخصومه الحريصين على إبقائه داخل المصيدة ؟