نحن إذن أمام رمز كبير، وأحد مفاخر جيله، بل نحن أمام مدرسة متكاملة من العبقرية الفذة، والأداء الرصين، والإتصال الوثيق بالله سبحانه وتعالى، أحسبه -رحمة الله عليه- كذلك ولا أزكى على الله أحدا.
عن الفقيد: الشيخ ولد الدده، أتحدث، وأزعم أننى عرفت الرجل وعايشته وألفته على طول معاشرة، مع شرف تواضع حازه ليزيح به ستار فارق السن، وانقطاعا أحيانا دعت له الأيام وإكراهات الظروف، ومع كل هذه الحالات كان الانطباع من أول صلة 1993، يتعزز في شخصيته الملهمة وشيمه الكريمة وفراسته الصادقة، مع شهامة ومهابة غير متكلفتبن.
قالت هند بنت عتبة، حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان، وقال لها بعض المعزين: إنا لنرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد، فقالت هند: ومثلَ معاوية لا يكون خلفا من أحد، فو الله لو جُمِعت العرب من أقطارها ثم رُمِي به فيها لخرج من أي أعراضها شاء.
ومِثْلُ الشيخ ولد الدده اشتهر بيننا بالرفق بالناس، والسعي في قضاء حوائجهم(فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)، وكان ذا مروءة عالية، وندى مستفيض، متمثلا معالي الأمور، وصاحب سيرة عطرة ومسيرة حافلة بالفضل والعطاء.
ويُثبِتُ أهل الأدب أنه قيل لأعرابي، ما بال المراثي أجود أشعاركم، قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق.
ونحن نسلم منقادين لأمر الله تعالى، مستقبلين القضاء بالثبوت والرضا. على ما يتميز به الراحل من مسحة إيمانية خاصة، واستقامة وتدين مشهود، مبتغيا بذلك الدار الآخرة، على علو في المنزلة ونخوة في الممارسة وتسام عز نظيره.
مارسَ المشمول بعفو الله ومغفرته مهنة التعليم أولا، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة -الباكلوريا- بداية السبعينيات ولم يبرح أن انتسب للمؤسسة العسكرية ضابطا من الدرك الوطني، وتقلد لاحقا منصب والى الولاية لكل من لبراكنه، وتيرس زمور، وكيدي ماغا، ثم مديرا للضرائب، ليتهم بعد ذلك بالانتساب لحزب البعث العربي الإشتراكي، وتفرض عليه الإقامة الجبرية مبعدا إلى مسقط رأسه بباسكنو 1989، حتى بعث له النظام فرقة لجلبه إلى العاصمة، فطلب منه الرئيس: معاوية حينها العودة إلى سلك الدرك الوطني، لكنه رفض معللا احتجاجه على ما لحق بسمعته من دعوى التآمر والإخلال بأمانة العقيدة العسكرية، وأن كرامته لا تسمح له بالاستمرار، مع استعداده للاستجابة لأي مهمة أخرى تسند له، فتم تعيينه مستشارا ب(آلماب) شركة في الصيد البحري، يتقاضى راتب ضابط سام، ثم مستشارا في الميناء الوطني، ثم برلمانيا في مجلس الشيوخ، والذي شغل فيه المسير المالي للغرفة، وأعاد حينها 400 مليون أوقية للخزينة، أثناء حكم المجلس العسكري الانتقالي، ثم انتخب بعد ذلك سناتورا عن دائرة المغرب العربي 2013، ولو لم يكن له من الحسنات إلا إسقاط التعديلات الدستورية 2017، إلى جانب زملائه من الشيوخ الأحرار لكفته، رحمة الله عليه.
عرف السياسي المتمرس: الشيخ ولد الدده بحسن التدبير، والوفاء والتحري، والحزم والحلم، وكان يحرص على أن يأتي كلامه مطابقا لمقتضى الحال لبلاغته. وله عاقلة نظرية قوية -بصيرة- بلغة أهل المنطق والبيان، وقد أهلته الزعامة عن جدارة واقتدار، فأبرزت الممارسة طاقاته مخضرم المعارف أنيق الملبس، وأظهر علمه وثقافته الواسعة ووعيه الكبير مواهبه.
أحب الرجل الرماية وكانت إحدى هواياته المعهودة التي أبدع فيها، وشُغِف بالفروسية لنزوعه إلى أصله من فئة المحاربين في التقسيم الفئوي للهرم الاجتماعي تاريخيا والسيادة العسكرية، بالتعبير الوظيفي للدكتور: جمال ولد الحسن، وكلتاهما لم تُلهه عن العلم والدين، ثم معرفته الوافية بالفن وآلة الموسيقى، وقريحته في إنتاج وقرض الأدب الشعبي.
وكان يجمع بين صرامة القائد وشدة الضابط المحترف ولين المربي وهوادة ومجاوزة السياسي الهادئ المحنك.
وعلى ما مر عليه من المواقع والبطولات وتقلد المسؤوليات، فقد كان يصحبُنا إلى الجامعة بنواكشوط أواسط التسعينيات، حريصا على الاستزادة من المعارف، ليتحصل على الإجازة -الباكلوريوس- في القانون العام، كحقوقي راسخ الثقافة 2008، ويتقن بعناية اللسان العربي ولغة موليير.
وعن بشره وطلاقة وجهه، حكى الرئيس: المختار، في (موريتانيا على درب التحديات) قائلا: وَفٌَرَ لى الملازم: الشيخ ولد الدده، أفضل إقامة ممكنة لى، وقدم ما يستطيع من أجل تلطيف قسوة الظروف في بداية إقامتى الولاتية، ويستطرد: وكان يشاركنى وجبة الإفطار في رمضان ووجبة العشاء، ويصر على ألا أتناول مأدبة الطعام بمفردي.
وعلى اختلاف صور الرجل في علاقته بربه، وصلته بالناس فإن المقام يضيق عن تتبع مآثره وذكره العطر وأثره العبق، وجسد -تقبله الله في الصالحين- سلوك رجل الدولة في الهدوء والرزانة والمهارة، وكان عنوانا للكرم وسنام الإقدام والنزاهة، ومحببا وفيه دعابة، مع جد ووقار وصون مروءة.
وبموته -رحمة الله عليه- تنطوى صفحة من صفحات الفتوة وحيازة قصب السبق فيما تكامل له من آداب النفس وذُرى المجد.
عبد المالك ان ولد حنى، كاتب.