لكل من مفردات هذا العنوان دلالتها الواسعة التي لن نتمكن من تقصيها في هذا المقام، ولكننا، بمشيئة الله تعالى، سنقف وقفة إشارة عند كل منها، على أن تكون هذه الوقفات هي عناصر المقال في مجمله، وبترتيبها كما ورت في العنوان.
.
أولا: النشأة: ومن معانيها ابتداء التشكل والنمو، وكما هو حال الشعر العربي الفصيح، فإن نشأة الشعر الحساني في هذه البلاد يحيطها بعض الغموض، وإن كان معلوما أن بني حسان الذين ينسب هذا الشعر إلى لهجتهم قد جاءوا به من جنوب المغرب إلى هذه الربوع الصحراوية في النصف الأول من القرن التاسع الهجري بعدما تمكنوا، بالتحالف مع الشيخ سيد امحمد الكنتي، من التغلب على إمارة إبدوگل الصنهاحية في شمال البلاد، وهم ممن ذكر عنهم ابن خلدون في الجزء الثاني من تاريخه المشهور أن كان لهم، على عهده في القرن الثامن الهجري، "شعر ملحون يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف رابعها الثلاثة (قبله) في رويه، ويلتزمون قافيته إلى آخر القصيدة"، وهذا هو النسق الجاري عليه نظم القصيدة الحسانية(الطلعة) إلى يومنا هذا، وعليه نعتقد أن هذا الشعر قد ظهر في بلادنا أكثر مما نشأ فيها، وإن كانت نشأته واقعة بالنسبة لغير بني حسان من عرب البلاد عندما بدأوا التفاعل معه أخذا وعطاء، بلهجة هم حديثو عهد بها ، وقد يعني ذلك أن الأمثلة التي يوردها بعض الباحثين كبدايات متعثرة لإنتاج هذا الشعر في بلادنا منحصرة في هذا الإطار قبل اكتمال التوحد اللهجي في عموم التوحد الثقافي إثر ما يعرف ب " حرب شرببه" بين العرب والزوايا في الربع الأخير من القرن الحادي عشر الهجري.
ثانيا: التطور: تعني مفردة التطور أن المعني بها خرج أو يخرج من طور إلى آخر في صيرورته الزمانية والمكانية. وإذا كان الشعر الحساني لم يتطور، فيما نعلم، على مدى القرنين الماضيين في عروضه ومصطلحاته بسبب بلوغه النضج والاكتمال في هذا الجانب، فقد ظل يتطور في الكثير من مفرداته وأغراضه حسب الأطوار الحياتية لهذا المجتمع.
قبل وأثناء "حرب شرببه" السالف ذكرها، كان هذا الشعر مكرسا تقريبا لتمجيد الإمارات والإشادة ببطولات وشيم رجالها، ممتطيا الموسيقى المحلية في مقاماتها الحماسية، ثم أخذ يسلك سبيله، بعد الحرب، إلى الوسط العربي الزاوي محتفظا بشكله ومجددا في مضمونه متخذا من الابتهال والتوسل ونحو ذلك أغراضا رئيسية له، ثم أخذ في هذا الوسط يحاذي، إلى حد ما، الأراجيز الفصيحة في نظم المواعظ والوصايا والأحكام الشرعية والمعارف العامة.
وفي انتهاء القرن الثاني عشر وابتداء الثالث عشر الهجري، أخذ هذا الشعر يشهد غزارة في الإنتاج وتوسعا في الأغراض بالتساوي في عموم الوسط العربي، الزاوي والحساني الذي تداخل واندمج بفعل اشتراك الأحوال والمآلات في إطار المنظومة الجتمعية لما أصبخ يعرف ب "البيظان" بمختلف فئاته ومكوناته على ما له من روافد الأخذ والعطاء بينه وبين إخوته في الدين والوطن من زنوج المنطقة.
ثالثا: الشعر الحساني: مسمى الشعر قال عنه صاحب القاموس المحيط إنه "غلب على منظوم القول لشرفه بالوزن والقافية"، وهو، كما يقول ابن خلدون موجود في كل لغات العالم" ، ويقول سيد قطب إن "له خاصية التعبير عن اللحظات الأكثر رفاهة وتوهجا في وجدان الإنسان الشاعر".
أما نعته هنا ب"الحساني" فلتخصيص ما ينظم منه باللهجة الحسانية الناطق بها مجتمع "البيظان" داخل وخارج موريتانيا.
رابعا: في موريتانيا:لعله من البديهي أن هذا الجار والمجرور يحدد القطر الموريتاني ، بحدوده القائمة الآن، مجالا لإنتاج هذا النوع من الشعر اللهجي العربي إلى جانب الفصيح منه، وإن كان هذا الإنتاج قائما بذات الكيفية لدى بقية "البيظان" خارج الحدود القائمة الآن لموريتانيا.
نقول، ختاما، إن الشعر الحساني لا يزال بحاجة لمزيد من الوعي لحقيقته ومنزلته، إذ لا يزال من بيننا من يترفع عنه ازدراء بقالبه اللهجي غير منتبه لما يزخر به هذا الشعر، على منزلته الأدبية الرفيعة، من معارف ومآثر المجتمع الذي أنتجه وقدمه للوجود؛ ومن بيننا، بالمقابل، من يتعصب له إلى درجة اعتباره ندا للشعر العربي الفصيح المصاغ بلغة القرآن، وهو ديوان الأمة من محيطها إلى خليجها، وعامل أساسي من عوامل وحدتها المنشودة.
صحيح أن ممتاز الشعر اللهجي عموما يساوي ممتاز الشعر الفصيح في خاصية الإيحاء، ولكن جزئية مجال التلقي تعوق اللهحي إلى حد بعيد عن مسايرة الفصيح فيما له من عموم في مجال التلقي.
من بيننا، كذلك، من يدعو للحفاظ على لهجية الشعر الحساني بإخلائه من مفردات الفصحى، وظني أن مسألة المفردات الفصيحة في الشعر اللهجي عموما، والحساني خصوصا لا تخرج، في جانبها الفني، عما أثبته الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة” من تماسك النصوص وجمالها بوضع المفردات في أمكانها المناسبة في الجمل، وتنافرها وذهاب رونقها بالعكس، وهذه النظرية قابلة للتطبيق بكل مقتضياتها على مفردات الشعر اللهجي، فصيحة كانت أم لهجية. بل إن ارتفاع منسوب الفصحى في الشعر اللهجي يرفع من قيمته البيانية إذا استوفي شروط نظرية الجرجاني هذه؛ وفي الكثير من شعرنا الحساني من مختلف أجياله مصداق لذلك.
الأستاذ الأديب: محفوظ ولد الفتى