الكتابة عن التسلح القديم بموريتانيا غير منفصل عن علاقاتنا بالأمم الأوروبية التي تعود إلى القرون الماضية؛ ففهم تطور التسلح عندنا متوقِّفٌ على معرفة تاريخ علاقاتنا بالأوروبيين.
.البنادق الموريتانية القديمة، مثل لِگْشَامَه والوَنْدِي والوَرْوَارْ، وبعد ذلك بُوفلكة والرباعية والخماسية والسباعية والتساعية كلها تسميات لأسلحة قديمة تعكس من جهة التطور النوعي الذي عرفه التسلح الفردي في المجتمع الموريتاني، وتعكس من جهة أخرى علاقات وطيدة ربطت بيننا وبين البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز.
لم يعرف الموريتانيون في مجال التسلح من عهد المرابطين وحتى القرن السادس عشر سوى الرماح والسيوف والسهام بأوتارها والخناجر والسكاكين والعصي. جاء البرتغاليون إلى الشاطئ الموريتاني سنة 1445 وظلوا على اتصال وتواصل مع الموريتانيين أزيد من قرنين من الزمان. فبنوا حصنا في جزيرة آرغين قرب نواذيبو للتعامل التجاري مع الموريتانيين، بل وتوغلوا داخل موريتانيا فبنوا محلا تجاريا شرقي مدينة ودان يسمى آگويدير لنفس الهدف. لا أستبعد أن يكون البرتغاليون قد جلبوا معهم إلى موريتانيا البنادق الأوروبية القديمة سواء تلك المصنعة في أوروبا في تلك العصور المبكرة، أو تلك البنادق اليابانية البدائية التي طورها وحسنها البرتغاليون والتي تعرف باسم "تانگاشيما" (Tanegashima) وقد صنعت أول أمرها في جزيرة "تانگاشيما" اليابانية ومنها أخذت اسمها. ظل البرتغاليين يطلقون نفس الاسم على تلك البنادق. وأنا أتساءل دائما هل أخذ الموريتانيين هذه التسمية من البرتغاليين وحرفوها لتصبح لگشامه التي تجمع على لگشاماتْ.
لگشامه ليست سوى بندقية من بنادق الصوان (fusils à silex) تتكون من قصبة أو أنبوبة وهي "الجعبة" بالحسانية، ومن عبوة أو مكان لوضع البارود والقذيفة وهي "حجر الصوان"، وفتيل أو قطن يستقدح به البارود بعد إشعال النار فيه، فينفجر البارود دافعا بالحجر إلى الخارج بسرعة كبيرة، فتؤدي العملية إلى الإصابة أو الوفاة إذا ارتطمت بشخص أو حيوان. وتركب الجعبة والعبوة في جسم خشبي يسمى الركيزة.
ليس مدى لگشاماتْ بالطويل، فأثناء المعارك وحين يتواجه الطرفان يجري بعضها في اتجاه الآخر راكبين أو راجلين حتى لا يفصل بينهما سوى المائة متر تقريبا، فيأخذ كل منهم مكانه أو "يتغامسون" كما يقال في الحسانية. ويبدأ التراشق والمراماة.
على الرغم من أهمية لگشامه بالنسبة للتسلح الفردي في موريتانيا إلا أن لها الكثير من المعوقات: فجعبتها ملساء (غير مُحَزَّزَة) وذلك ما جعل إصابة الهدف البعيد غير ممكنة. ويتطلب شحن لگشامه بالبارود ودكه دكا خاصا وحجزه بالفتيل أو القطن ثلاث إلى خمس دقائق بعدها يتم الدفع بالطلقة. وبعد طلقات معدودة تصبح بندقية لگشامه شديدة السخونة فلا بد من تركها مدة حتى تبرد.
طور الأوروبيون بندقية الصوان في القرن السادس عشر الميلادي فظهرت بنادق كثيرة في دول عديدة ومنها البندقية الشهيرة المعروفة بـ"الهولندي" "Le Hollandois"، التي كان الموريتانيون حسب ظني يسمونها "الوندي"، وهو من بنادق الصيد والقتال وتعود بدايات صناعتها إلى سنة 1630 بمصانع مدينة ماستريخت الهولندية.
وكان تداول هذه البنادق محدودا بل ومقصورا على بعض شخصيات القبائل ذات الشوكة كما هو واضح في لوائح الإكراميات التي يحظى بها الأمراء الموريتانيون ووزراؤهم ومقربوهم. يقول المختار ولد مانو في الأمير سيدي ولد محمد لحبيب:
سَيدِي ظَل اگرِيظ إَليَان ۞ الوَندِي فَوْگُ يَتْوَيَّل
والزَّرْ الگبْل فالزَّيْدَان ۞ أوْردْ كف الوَارَدْ مَنهَل
حَسْ البَارُودْ اگدَ وانهَان ۞ شَوْرْ وَاهْدَرْ واعگَبْ ثَگَل
مَا فَاتْ اطفَ گَدْيْ الكَتَّان ۞ گَام ارْجَيْل لَعدُ سَحَّل
وفي سياق هذا التطور النوعي للأسلحة الفردية ظهرت البندقية ذات القصبتين وهي من بنادق الصوان ويمسيها الموريتانيون "بوفمين" لثنائية "جعبتيها". يقول سدوم ولد انجرتو مادحا أحمد دية بن بكار في "بت السروزي" وذاكرا بندقية "بوفمين":
وفالشر محط اجر حسانْ ۞ باز البيزانْ
بارعود بفمين اگرانْ ۞ نفقت لطيار
ولسدوم في تهيدينته الشهيرة بـ"تفرغ زينة" التي قالها لهنون ولد بوسيف:
هِي كِيفْ ٱجنود السلطان ۞ بِكْنَايِنْهَ وٱحْمَايِلْهَ
وٱعْمَايِمْهَ شَاشْ أرَوَان ۞ وٱعْكَارَ فِي دَلايِلْهَ
ؤمَحْزَمْتْ ٱمّبَّرْ والقفطان ۞ وٱحْرَامْ ٱمْطَرّزْ گَادِلْهَ
وٱبنودْ ٱعلَ عِيدَان ٱزّانْ ۞ ٱف جَعْبْ انْصَارَ يَنْعَلْهَ
وٱقفافير ٱعْلَ كِلْ ٱلْوَانْ ۞ تِظْوِ فِشّمْسْ ٱمْدَاوِلْهَ
طاگِتْهَ بُوفُمّيْنْ ٱگرَانْ ۞ وٱسْلاحْ افْ بَيْظْ اتحَمّلْهَ
ظلت "لگشامه" ذات الأصل البرتغالي و"الوندي" ذي الأصل الهولندي و"بوفمين"، وكلها بنادق قديمة جدا، هي الأسلحة المستعملة بامتياز عند الموريتانيين طيلة ثلاثة قرون. وقد حاول الصناع التقليديون بمهاراتهم الفائقة وبوسائلهم التقليدية البسيطة أن يحاكوا تلك الصناعات التسليحية مصلحين ما تعطل من تلك البنادق وصانعين بنادق مماثلة أحيانا. وبذلك وفروا على جيوش الإمارات جزءا مما يحتاجونه من بنادق لگشامات والوندي فضلا عن صناعة حجارة من الرصاص أو غيره. غير أن دقيق البارود ظل يستورد من أوروبا في غالب الأحيان.
عرفت أوروبا أواسط النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور البنادق ذات الطلقة السريعة (Fusils à tir rapide)، وتعرف أيضا، وخصوصا على المستوى الفرنسي ببنادق 74 (Fusils 74). في تلك الفترة لم تعد الأسلحة الفردية في أوروبا تزود بدقيق البارود كما هي الحال بالنسبة للگشامات والوندي بل أصبحت ذات معالق (Culasses) تضع فيها الخراطيش (Cartouches)، كما أن القصبة "الجعبة" أصبحت محززة ولم تعد ملساء، وصار مداها طويلا يتجاوز الكيلومتر وأكثر.
ولا أعرف لماذا لا نجد إمارات الترارزة والبراكنة وإدوعيش التي كانت قبائل مسلحة بامتياز وتشرف مباشرة على منافذ على النهر السنغال، وكانت على تواصل مع التجار الفرنسيين بسينلوي "اندر"، وكانوا على اطلاع بهذا التغير النوعي في السلاح الفردي، لماذا لا تسعى إلى أن تحصل من الفرنسيين على هذا النوع من البنادق المستحدث والمتطور جدا بالنسبة للنوعيات السابقة المتداولة في موريتانيا. كانت قبيلة أولاد بالسباع أول من أدخل البنادق ذات الطلق السريع إلى موريتانيا ، وقد سموه "الوروار"، وأظن أن هذا اللفظ تصحيف للفظ الأوروبي (Révolver). والوروارْ عبارة عن بندقية متطورة توضع بها رصاصة واحدة من عيار 8 ملم، وتصيب على بعد أزيد من كيلومتر. وإلى جانب تسمية "الوروار" أطلق الموريتانيون على هذا النوع من المدافع تسمية "القرطاس" وهو في ظني تصحيف للفظ (Cartouche) الذي صار مادة هذه البنادق بدل دقيق البارود.
ويذكر الرائد فريرجان (Frèrejean) في كتابه عن موريتانيا أن أولاد بالسباع في صراعهم مع إمارة آدرار بداية القرن العشرين حرصوا على تطوير تسلحهم الفردي فاشتروا كميات كبيرة من هذه البنادق وتغلبوا بها على مناوئيهم وبسطوا نفوذهم وتغلبوا بفضل هذا التطور في التسلح الفردي. وتذكر بعض الروايات أن محمد الأمين بن النزيه وهو من أولاد البگار كان أول من أدخل هذا السلاح إلى موريتانيا.
تسارع تطوير وتحسين أداء البنادق فصارت المعالق تحميل أربع خراطيش فسميت في موريتانيا "الرباعية"، والبندقية ذات المعلاق ذي خمس تسمى "الخماسية" وذات سبع هي "السباعية"، وذات تسع تسمى "التساعية"، والتساعية ليست سوى البندقية الفرنسية المعروفة باسم (ليبيل) "Lebel"، وهو الفرنسي الذي اخترعها سنة 1886، ومعلاقها يحمل ثماني خراطيش زائدا الخرطوشة التاسعة الجاهزة للطلق. وقال المختار بن محمد بن أوفى في الأمير أحمد سالم بن إبراهيم السالم رحم الله الجميع:
وأزوان الحر ءُ لگطاعْ ۞ والوروار ءُ حس اتوروير
أمير ابذ النوع إلَ شاعْ ۞ إعليه أسم أمير أصل أمير
في ثقافتنا وفي فنوننا المحلية يأتي "لعب الدبوس" على رأس الفنون الجميلة التي تجسد القتال والمبارزة. ويسمى في بعض المناطق الموريتانية "أنيگور" أو "اتنيگير".
يجمع "لعب الدبوس" بين عدة أبعاد لصيقة بالنفس ومؤثرة على الشخص: فهو فن يؤدى على إيقاع الطبل المجلجل مصاحبا بالغناء الشعبي الأصيل وتصفيق النساء وتشجيعهن، ثم هو مبارزة وتمثيل للقتال، ومع هذا وذاك يكون هذا الفن غاية في الروعة إذا أداه أشخاص يتقنونه ويعرفون كيفية تأديته. وقد عرفت في صغري، في مدينة المذرذرة، عملاقة في هذا الفن رحم الله من مات منهم وأطال عمر الباقي. فقد كان فن "لعب الدبوس" من أحسن الفنون وأكثرها رقيا وتعبيرا عن كثير من معاني الفروسية ودلالات الحرب.
وفي جانب آخر يطلق الموريتانيون الغزي على الجيش الكبير وتصغيره لِغزيْ ومرادفه عندهم انْهِيظه وهي من فعل نهض. ويطلق على المشاركين في الغزو أهل انهيظه ويرادفه أهل لِگشاطْ. ويسمى النهب سعاية، ويطلق على الأفراد ينهضون لإرجاع النهب "الفزعة". والطيحة هي الغزو الذي يصيب هدفه. ويكون للغزو قائد يسمونه "الظمينْ". ويتكون الغزي عند المواجهة من "اخوالفْ" و"أوتاد" واظهوره"، وهي اصطلاحات مأخوذة من البيت البدوي (الخيمة).
ومن تأثيرات مصطلحات التسلح في الشعر الحساني ما قاله الشاعر الكبير امحمد ولد هدار رحمه الله تعالى معرضا بصديق له كان مدججا بالسلاح لكن أداءه لم يكن على مستوى ما عنده من أدوات:
سِلاَحْ المصطَفْ مَاهُو شَيْنْ ۞ غير ألَّ فيهْ اطنَبْ مسكينْ
إگدُّو منُّو گَاع أثنين ۞ يكفُو من سلاح أفيسوس
كابوسْ إگُوم ؤُمدفعْ زيْنْ ۞ يكفِي مدفعْ زيْن ؤكابُوسْ
ؤُموسْ إگوم ؤدبوسْ اخريْن ۞ يكفِي موس إكَوم ؤدَبُّوسْ
أيوَ.. گَام المصطف يربَعْ ۞ نافدنِي والحگْنِي فاوْسَعْ
ؤوَسَيْنَ گَلبُو گَلب اسْبَعْ ۞ وامْنْ ابلد لمظاوَ مغرُوسْ
ؤ للكابوس اكَبَلْنَ طلَّعْ ۞ ؤدبوسُو والمدفع والموسْ
واخبطْ بيدو ذيك المدفع ۞ واخبط بيدو ذِيكْ الكابُوسْ
باسمن حيلَه موسُو ينفعْ ۞ وللَّ تنفعْ زاد الدبوس
ويلَ ما واسَ ذاك أياك ۞ من عزت شِي لخلاگُو حاك
اعكس لمردَّه داير ذاكْ ۞ ينفع من سلاحو حابوس
إعمل بيديه ؤ گَابل هاك ۞ خبط الموس ؤخبط الدبوس
المدفع يستحف لذاك ۞ ؤيستحف لذاك الكابوس
ؤ هاذ ظرك إزيد الشطنّه ۞ ؤهو گَايس ماهُو مگَيوس
وإگد أل نغدو فيه احنَ ۞ گَاع إفوت ؤهو محبوس
وتكاد نصوص التهيدين تكون خير معين لمن يريد أن يعرف تقاليد الحرب عند الموريتانيين، أو يقف على أسماء الأسلحة المختلفة والصياغات الأدبية المتعلقة بها، والأساليب البلاغية الجميلة التي سطرها الفنانون وهم يصفون أجواء المعركة وأنواع الأسلحة.
الدكتور سيدي أحمد ولد الأمير:
نقلا عن الطوارى