تبرز كتابات الشيخ سيد المختار الكنتي وأبناؤه استمرار حياة الفقه السياسي الإسلامي في أطراف العالم الإسلامي الغربية في عمق الصحراء الإفريقية البعيدة عن المركز حيث قدم العلماء والمصلحون في هذه الأطراف رسائل فقهية وفتاوي فكرية
.عالجت الواقع المعيش في زمانهم وأبانت عن حيوية فقه السياسة في الصحراء حيث الحياة البدوية التي تميزت بالثقافة العالمة التي كانت دائما من خصوصيات الحواضر والمدن.
وقد حاول العلماء والمصلحون الشناقطة علاج المعضلات السياسية في واقعهم اعتمادا على مقاربات الاجتهاد والفتوى الشرعية التي تميزت بخصائص هامة تجاوزت بها ما كان سائدا في عصرها من انكماش وتقليد وجمود ميز الإنتاج الفكري لهذه الفترة في جل أقطار العالم الإسلامي إلا قليلا من البقاع التي قدمت نماذج من العلماء المجددين مصداقا للآثار العديدة التي تحدثت عن سنة ابتعاث العلماء الربانيين "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" أو "أمر دينها" وهذا التجديد يقوم على احياء العقيدة وأصل الإيمان وتعميق مطابقة سلوك المجتمع الإسلامي لمقتضيات الشريعة التي تتنزل عبر سلطة الاجتهاد في كل عصر ومصر طبقا لمراعاة الظروف والأحوال وثالث دعائم التجديد يتمثل في تجديد الإمارة والخلافة وقد تضمنت عبارة "أمر دينها" إشارة لطيفة لتجديد النظام السياسي وإحيائه لأن من معاني "الأمر" في لغة قريش "الحكم" أي السلطة.
وقد أبانت الدراسة التي كتبها الباحث المؤرخ والأستاذ الداعية سيد أعمر ولد شيخنا عن: "الفكر السياسي في غرب الصحراء : دراسة في تجربة وأدبيات المدرسة الكنتية" عن أصالة التجربة وعمق الجوانب التجديدية في ما أنتجته مدرسة الشيخ سيد المختار الكنتي التي يعرف عنها أهل البلاد فقط كونها طريقة صوفية وزاوية للتربية الروحية المؤثرة إضافة لدورها المحظري الجامعي المشتهر بين الباحثين والمؤرخين.
لقد حملت هذه الطريقة الفذة لواء الدعوة إلى الإسلام وجددته في وجدان ومشاعر شعوب وأقوام متعددة في وقت عسير لا تتوفر فيه آليات مساعدة ومارست هذه المدرسة أدوارا قيادية في الإصلاح السياسي بوجه عام كما ساهمت على الخصوص في الإصلاح الاجتماعي المؤثر حقنا للدماء وتسكينا للدهماء في عموم الفضاء الصحراوي بإفريقيا الغربية.
محتويات الدراسة
قدمت الدراسة عرضا تفصيليا يشكل نموذجا تميز بالعديد من الخصائص لتعاطي الطرق الصوفية مع السياسة والفقه السياسي حيث احتجنت الطرق دائما هوية موقفها السياسي ومارست اخفاء وتورية لتجاوز احراجات المواقف السياسية وما يكتنفها من ظروف حينا أو التأسيس لما يخدم رؤيتها السياسية التوجيهية المفارقة للممارسة المباشرة أحيانا أخرى.
وقد جاءت خطة الكتاب في أربعة فصول عالجت في 260 صفحة إشكاليات عديدة تبرزها عناوين الفصول التالية:
الفصل الأول: الفكر السياسي للمدرسة الكنتية في سياق التراث السياسي الإسلامي.
الفصل الثاني : رؤية الفكر الكنتي لواقع المجتمعات الصحراوية.
الفصل الثالث: المقاربة الكنتية لأزمة السودان الغربي.
الفصل الرابع: المقاربة الكنتية للعلاقة مع الوحدات السياسية.
خصائص مميزة
تميزت كتابات وتجربة العلامة الشيخ سيد المختار وأبنائه بمجموعة من الخصائص من أهمها الاجتهاد والتجديد والواقعية والمجابهة بعيدا المداراة والاستجداء الذي مارسه بعض الزوايا في المنطقة دون التصدي للواقع وتحديات بشجاعة المجابهة والمواجهة وتكمن أهمية تجربة هذه المدرسة في التصدي للفراغ والاضطراب السياسي المتوحش الذي يهدد كل من يتصدى لهذا الواقع المعقد إضافة ما سجلته التجربة من حسن السياسة والتدبير وما حباها الله به من قبول وتأثير ميز الأداء العام لهذه التجربة.
وسنبرز هذه الخصائص في النقاط التالية:
1- الاجتهاد والتجديد: المتصفح اليوم لفتاوى المدرسة والناظر لتاريخ وتأثير التجربة يدرك بوضوح حجم الجرعة التجديدية والاجتهادية التي أضافتها المدرسة في تاريخ الفقه السياسي كما تشكل واحدا من أهم النماذج المؤثرة التي تؤكد حيوية الفكر الإسلامي وتصديه الإيجابي للمعضلات المختلفة التي اعتورت المجتمع الإسلامي في ظروف مختلفة.
2- الواقعية لا المعيارية: تمتاز هذه التجربة بكونها لامست تحديات الواقع الفعلي دون أن تستنسخ نماذج تاريخية جاهزة وجل الكتب والفتاوى والرسائل الصادرة عن المدرسة وتجربتها التاريخية تكشف حجم الحجاج والحوار الفكري الرصين الذي أدارته علاجا للعديد من الإشكالات السياسية والفكرية.
3- الإصلاح الجذري لا المداراة والمداهنة: تميزت رؤية المدرسة بانطلاقها من مبادئ واضحة أساسها الرؤية السياسية والفقهية الواضحة للإصلاح السياسي والاجتماعي على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصدق النصيحة وبيان الحقائق عبر نقاش صريح للخلفيات والدوافع والوقائع بأسلوب يتميز بالمصداقية والحرارة الدعوية والحركية المدفوعة بإيمان عميق بواجب الإصلاح والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين.
4- التصدي للفراغ والاضطراب: تصدت التجربة لواقع معقد على مختلف الصعد وهو بالنسبة لكل منصف واقع غير قابل للتعديل والإصلاح غير أن هذه المدرسة واجهت بشكل ناجح الواقع كما هو وأرادت التصدي لواقع انهيار السلطة السياسية والاضطراب الناتج عنه في غرب الصحراء الإفريقية حيث الصراع المستمر بين مجموعات الرئاسات الحسانية من جهة والعديد من الأقوام كالفلان والطوارق والصونغاي في الإقليم من جهة أخرى.
5- حسن التأتي : امتازت هذه التجربة بحسن مداخلها النفسية والبيانية التي سعت إلى إقامة الحجة والإرشاد لهذه الشعوب لتستبين الرشاد فالعديد من النقاشات في رسائل هذه التجربة تستحق أن تفرد بدراسة خاصة فيما يتعلق بالتأثير النفسي وهذا ليس بغريب على مدرسة نشأت على طريق القوم في هندسة النفوس وتربيتها وتهذيبها بالرياضات الروحية والأوراد السنية لكي تجاوز المعاطب والمهالك وحتى تكون تكسب الاستعداد لحمل الوظائف الإصلاحية فيما يتعلق بوحدة المجتمع وتفعيل دوره في مجابهة التحديات المشتركة.
ملاحظات ومقترحات:
استعرضت الدراسة بصورة تفصيلية مصادر الفقه السياسي التي تأثرت بها تراث الشيخ سيد المختار وأبنائه وركزت على ابراز الصلة ما بين الفكر السياسي في الغرب الإسلامي والصحراء والفقه السياسي المشرقي مبرزة نموذج الفقيه الشافعي أبي الحسن الماوردي في كتابه الشهير الأحكام السلطانية غير أنني أرى أن تأثر هذه المدرسة هو بإمام الحرمين الجويني أعمق من تأثرها بالماوردي خصوصا وأن حرارة اللغة وقوة البيان اللغوي الذي نلمسه في نصوص رسائل الشيخ سيد المختار وبنه الشيخ سيدي محمد تبقى أقرب لنصوص الجويني منها لنصوص الماوردي ويمكن في هذا الصدد أن يتم تعميق هذا الجانب في الدراسة لاحقا لكي يتضح أن لنصوص الجويني في كتابيه :"غياث الأمم عند التياث الظلم" الشهير بــ"الغياثي" والإرشاد و كذا الإمام أبي يكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك الذي اعتبره بن خلدون أهم كتاب في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي يحوم حول فكرة علم العمران التي استلها بن خلدون بعروقها كاملة الخلق لأول مرة حينما وضع أساسا متينا لعلم جديد وتلك كانت هي اللحظة الفريدة التي يتبلور فيها علم الاجتماع لأول مرة في التاريخ الإنساني بشكل عام.
انطلاقا من إدراكي لأهمية هذه الدراسة فإنني اقترح أن يضاف إليها فصل جديد يدرس المنجى الاستدلالي الفقهي الذي اعتمدته المشيخة افتاء وتدريسا وكيف استثمروا في نماذجهم قواعد الفقه وضوابط السياسة الشرعية.
وبالجملة فقد أضاف هذا الكتاب جوانب هامة وكشف عن حضور الفقه السياسي وحيويته في التصدي للإشكاليات الواقعية في عصر وسياق اجتماعي تميز بالاضطراب والفوضى الواسعة.
لكن النموذج الذي قدمته الدراسة للفقه والفقيه تميز بوجود النظرة التجديدية والاجتهادية التي حاولت دائما فهم الواقع في ضوء التحولات الاجتماعية وما تفرضه تلك التحولات من إكراهات تتطلب فقها مستوعبا ونظرة تحليلية مدركة للعواقب والمآلات بكل أبعادها ومقاصدها الشرعية.