لتطرف الذي نعني هو التطرف الديني الذي أطلق عليه مؤخرا التطرف العنيف ، لكني قبل الدخول في الموضوع أفضل أن أنبه إلي أهمية اعتبار المناسبة في إطلاق المفاهيم والمصطلحات ،حيث أري بأن الأنسب للتعبير عن التطرف الديني هو أن نطلق عليه (التطرف الرهيب) إذا لم نشأ إطلاق مفهوم
.الإرهاب عليه ، ويصلح أن نطلق عليه (التطرف العنيف) لأنه عنيف بالفعل ، لكن مفهوم العنف ومفهوم الرهبة إذا كانا يشتركان في إرادة معني القوة الشديدة الوقع ، فإنهما يختلفان من حيث المناسبة لبعض المعاني ، فمثلا وصف الحادث بأنه عنيف لا يلزم معه أن يحصل الخوف في نفس المتفرج ... أما إذا صح أن يطلق عليه (رهيبا) فإن المتفرج سينتابه الخوف ، لأن الرهبة لا محل لها غير القلب ، وعندما تضطرب نبضات القلب بفعل مثير مفارق للجسد فذلك هو الخوف ، والواقع أن الخوف ينتاب كل فرد يقف علي آثار أي حادث إرهابي مباشرة أو من أمام الشاشات الصغيرة . ربما لا أوفق في التعبير عما أريد أن أقول لكن سأحاول أختصاره فيما يلي: أري بأن كلمتي: عنيف ،ورهيب تطلقان علي الفعل الشديد ، لكن عندما يكون هذا الفعل الشديد يولد في النفوس البعيدة عنه نفس الأثر النفسي الذي يخلفه عند ضحاياه ، يصبح الأنسب أن نصفه ب(الرهيب ) إذ لا تفي كلمة عنيف بالدلالات العميقة لهذا الفعل وآثاره.
لهذا فضلت عبارة التطرف الرهيب ، بدل التطرف العنيف ، ومهما كان هذا التطرف عنيفا أو رهيبا ، فقد أجمع العالم علي ضرورة موجهته ، والقضاء عليه ، وقد كان لبلادنا في هذه الأيام الدور الريادي في مواجهة مده في منطقة الساحل ، علي مختلف الأصعدة : المواجهة الأمنية ، والدبلوماسية ، والثقافية، والفكرية ، وتتنزل هذه الندوة الدولية التي انعقدت مؤخرا في انواكشوط حول الإرهاب ، في إطار هذه المواجهة والسياسة الإستراتيجية التي تنتهجها الدولة للحد من التطرف وآثاره في العالم عموما ،وفي منطقة الساحل خصوصا .
وقد أظهرت محاضرة العلامة شيخنا الشيخ عبد الله بن بيه الدراية الكاملة بحيثيات الموضوع ،حيث ولدت لدي قراءة أخري لمفهوم التطرف (أسبابه وسبل مواجهته) وهي ما سأعرضه في حلقتي هذا المقال ، ولاشك أن الورقات التي قدمت في هذه الندوة قد وفق أصابها في فهم وتحليل هذه الظاهرة واستقصاء أسبابها المباشرة، واستشراف آفاق مواجهتها طبقا لذلك، وهذا هو ما تعكسه الكتابات الرائعة التي نشرت بعد اختتام المؤتمر .حيث نشر كل من الدكتور بلال ولد حمزة ، و الدكتور البكاي ولد عبد المالك ، مقالات رائعة بحق .
لكن كما أسلفت ألهمتني محاضرة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه ،وأنا أتابعها من خلال الشاشة الصغيرة ، فهما آخر،ولد لدي قراءة أخري في الموضوع تأخذ من العامل النفسي محورا لها ، مبرزا دور العامل النفسي وأثره في نشأة ظاهرة الإرهاب والتطرف ، ثم أهمية أعتباره في تقصي سبل مواجهتها ،وكيف أن للتصوف دور كبير في تحصين الشباب عن التطرف ، ومن ثمة مواجهة الظاهرة بحصرها وقطع إمداداتها البشرية.وهو ما سبق أن تم التنبيه إليه في المؤتمر الدولي الأول لتخليد الذكري المئوية الخامسة لوفاة الشيخ سيد احمد البكاي الكنتي (بودمعة) ،وسنخصص الحلقة الأولي لأهمية العامل النفسي في الميل إلي التطرف والإرهاب، مبرزين احتمال إصابة المتطرفين ببعض الإختلالات النفسية التي يستبب أصحابها في إحداث أضرار جسيمة، وغير المبررة، عقليا ولا شرعيا، ومن هذه الحالات ما يلي:
1 ـ الدوافع التدميرية (غريزة العدوان):
تعتبر الدوافع النفسية التدميرية من بين العوامل اليسكولوجية التي تمهد للحرب وتيسر الانزلاق إليها وتزينه ،وتستبعد في الوقت نفسه الحل السلمي لما يجابهنا من مشكلات ،وينظر إلي هذه الدوافع أحيانا ـ كما هو الحال عند معظم المحللين النفسيين ـ علي أنها دوافع فطرية غريزية في الإنسان تدفعه للقيام بسلوك مدمر سواء عليه أم علي غيره، فمثلا لا يستطيع الفرد إذا كانت نظرته موضوعية ونزيهة أن يقبل مبرر من يقتلون أنفسهم وأنفسا أخري كثيرة وبريئة ، بأبشع طريقة (الحرق ، والذبح ،والتفجير) بأنهم إنما يريدون بذلك وجه الله ورضوانه عليهم ، ومغفرته ، في الوقت الذي تؤكد فيه كل الشرائع علي أهمية مقصد الحياة وضرورة الحفاظ عليها، فكيف يبيح هؤلاء لأنفسهم قتل الأبرياء ويتفرجون علي أرواحهم تفارق الأجساد دون أن يرف لهم جفن ، كيف يفعلون ذلك بكل بساطة إذا لم تكن لديهم دوافع غريزية تدفعهم للعدوان ، صحيح أن هذه الدوافع ليست ظاهرة ولا واضحة حتي لهم هم أنفسهم ، فهذه الدوافع متخفية تحت أغطية كثيرة: سياسية واجتماعية واقتصادية وعقدية أو دينية بصفة عامة ـ قد تكون هي السبب في إثارتها ـ وهي الأغطية التي ينشغل المحللون بها لحصر أسباب ظاهرة التطرف الرهيب (العنيف) .ذلك هو رأي بعض المحللين النفسانيين ، ويميل بعضهم الأخر إلي القول بأن غريزة العدوان هذه ليست حالة مرضية بل طبيعية في حياة البشر منذ حادث أبناء آدم عليه السلام ، حيث قتل أحدهما الآخر ـ لكنها تصبح حالة مرضية في المستويات القصوي ـ وهي موجودة لدي جميع الناس لكنها تكون شديدة كلما تم تحفيزها مع وجود حالات أختلالات نفسية ، والبعض يري أن درجتها تختلف عند الأفراد، (من حالة الإنعدام إلي حالة العنف الرهيب ).
2 ـ الميول السادومازوخية :
هي عامل نفسي آخر متخفي من العوامل التي تيسر التورط في خلق الأزمات والحروب وتقاوم تحقيق السلام ، وتعتبر هذه الميول عرضا مرضيا نفسيا يمكن ملاحظته في بناء الشخصية عند بعض الأفراد ، ومن ارتكابهم للأفعال العدوانية والوحشية ، وفي نفس الوقت ـ أيضا ـ يمكن اكتشافه من وضع أنفسهم في موضع الإهانة والتحقير والإيذاء والعقاب ، ففي مثل هذه الحالة تكون الأعمال التدميرية التي يقوم بها المتطرفون مصدرا لإشباع ميولهم تلك ، إنهم وقت اختيارهم طريق التطرف يعيشون اختلالات نفسية ويحتاجون لعناية ورعاية طبية قبل أن ينخرطوا في صفوف الإرهابيين .
3 ـ الميول السيكوباتية:
هذا النوع من الميول يكون مسؤولا عن التورط في الحرب وممهداتها ، إنها اضطراب في الشخصية لا يحترم فيه الفرد معايير المجتمع ويكرر فيه تصرفاته اللا أخلاقية وأفعاله المضادة للمجتمع دون إحساس بالذنب أو تعلم من خبرات سابقة ، وبالتالي فإن السيكوباتية يمكن أن تؤدي إلي القيام باعتداءات وتصرفات شاذة ، أو إلي القيام بتصرفات خطيرة تتصف بعدم تقدير المسؤولية ، فإذا كان هناك قائد من هذا النوع علي قمة السلطة ، فسوف يصبح الأمر مأساة ليس فقط لمجتمعه بل وأيضا لغيره من المجتمعات ، ولازال الكثير منا يذكر ما فعل أدولف هتلز في الحرب العالمية الثانية حيث تسبب في قتل أعداد هائلة من البشر ،وتدمير عدد كبير من المدن ، وقد أشار العلامة بن بيه إلي ذالك في محاضرته القيمة.
4 ـ هذاءات العظمة (جنون العظمة)
تعتبر هذاءات العظمة عاملا نفسيا آخر يمكن أن ييسر التورط في الحروب المدمرة ويؤدي إليها ، فهذاء العظمة هو عرض مرضي عقلي ، ويعني اعتقاد الفرد بأنه شخص عظيم دون أن يستند هذا الاعتقاد إلي واقع أو يدعمه منطق ، ويمكن أن نقول بأن هذاءات العظمة ، والميول السيكوباتية ، قد أصيب بها أدلف هتلر فدفعته إلي أن يحارب الإتحاد السوفياتي والولايات الأمريكية المتحدة ،وابريطانيا وفرنسا في وقت واحد فأدي ذلك إلي ما حصل من خراب ودمار للأمة الألمانية في الأنفس والممتلكات ، وقسمت إلي قسمين متضادين ، ألمانيا (شرقية وغربية ) .
5 ـ هذاءات الاضطهاد:
هذاءات الاضطهاد هي أيضا عرض مرضي عقلي يمكن أن يحفزالفرد علي التمهيد للحرب أو الإضرار بالآخر ففي هذاء الاضطهاد يعتقد الفرد أنه مضطهد أو مظلوم أو أن أمته مهانة ومضطهدة ، وقد ترافق هذاءات الإضطهاد هذاءات العظمة فيشعر الفرد أنه أكبر من يتعرض للأذي والإهانات ، وإذا تعلق الأمر بأمته أو وطنه يظن أنه المعني أولا بأمره يتعين عليه دون غيره النهوض بمهمة الدفاع عنه ضد أي اعتداء أو إهانة ، فيتبع سبيلا يقتنع به للقيام بذلك ،ولو جره إلي أن يسلك سبيل الإرهاب .
إن المسلم عندما يكون مصابا بهذه الهذاءات والأمراض النفسية ، أو بأحدها ، ويميل إلي العنف ، وبث الرعب في نفوس الناس بالتدمير الهائل وقتل الأنفس ، فإنه لا يجد مندوحة من أن يبحث عن مبرر يتلائم وطبيعة الدين الإسلامي الحنيف ، وبما أنه دين رحمة ومودة وتعاطف ورفق دين الحياة بعبارة شاملة ، وهي أمور تتنافي مع الأعمال التخريبية التدميرية التي يقوم بها تحت غطاء الدين الإسلامي ، لابد من أن يصور أنه يهدف من وراء كل مايقوم به إلي تحقيق مرضاة الله سبحانه تعالي الذي هو جوهر المقصد الأسمي والوحيد للحياة الدنيوية (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني)، فيعتبر الموت مظهرا من مظاهر استسلام الناس لرب العالمين ، وأنها هي الحل حيث لاحل ، كما أنها هي البوابة الوحيدة للحياة السرمدية الباقية ، ومهما تفاوت الناس فإنهم أمام الموت سواء ، ومهما طابت الحياة أو قست ، فإن الموت ستضع حدا لها ، أما المؤمنون فتقرب إليهم الجنة (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد) ، وأما الكافرون فيساقون إلي النار(...) ، ويعتبرون أن من مات منهم وقتل كثيرا من الناس حتى ولو كانوا مسلمين وفي بلاد الاسلام ، أنه شهيد ، هذه المبررات التي تتلاءم مع اعتبار ما يقومون به أنه جهاد في سبيل الله ، لا يدركون أنهم فقط يتوهمن ذلك تماما كما أنهم لا يدركون أن ما يقومون به من قتل وتدمير يتنافي مع روح الإسلام السمحة ، ولايدركون أن الإسلام عندما يتعين القيام بالقتل ، يحيط الأمر بضوابط كثيرة حتى لا يزيد عن القدر المطلوب ، ففي الحالات الفردية ، نجد حالات تفادي القتل حتي في الحدود(...) ، وفي حالات الجهاد نجد أن الدولة الإسلامية بلغت ذروة انتشارها شرقا وغربا بأقل الخسائر البشرية......وذلك بعد أن كانت الحرب هي الخيار الأخير ، وفي الحرب لا يتبع الفار، ولا يجز علي الجريح ، ولا يقتل الأطفال ،ولا النساء ، ولا الشيوخ.
أما الأن فإننا نجد أن القتل في دار الإسلام أصبح شريعة أوعقيدة يعتنقها من يدعون الانتصار للإسلام والدفاع عنه، إن هذه الحالات النفسية الآنفة الذكر في تصوري هي العامل الأول والأساسي الذي يدفع إلي التطرف والإرهاب ، وبما أن الباحثين في ظاهرة التطرف أو الإرهاب ، يتقصرون في البحث عن أسباب الظاهرة علي حصر الفعل الإرهابي (مفهوم الإرهاب) دون العودة إلي أصله العام الذي هو مفهوم الجريمة ،الأمر الذي دفع بهم إلي تقصي العوامل المباشرة: السياسية ،والاقتصادية ،والاجتماعية ،والدينية دون أدني اعتبار للعامل النفسي،فإني رغم ذلك أري أن هذا العامل النفسي هو ـ حسب نظرنا ـ أهم العوامل المؤدية إلي التطرف ، وأن إقصاءه من تلك العوامل سينعكس سلبيا علي التصورات أو الحلول المقدمة للحد من الظاهرة أو القضاء عليها ، لتصبح فقط آليات مواجهة ،والمواجهة لا تفرض التفوق أو الانتصار . لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو :متي و كيف يصبح العامل النفسي هو العامل الأساسي الخفي الذي يدفع إلي التطرف والإرهاب؟.
إن الإرهاب يعود بالأساس إلي الحالة النفسية للفرد ، لكن هذا الأمر خفي جدا إما لكون تأثيره غير مباشر ، وإما لشدة ظهور العوامل الأخرى وطغيانها علي واجهة البحث العلمي لارتباطها المباشر بالظاهرة، لكن مهما كانت درجة خفاء العامل النفسي في التأثيرعلي الفرد بصرفه إلي التطرف ـ حسب نظرنا ـ يظل باديا للمتمعن ،خصوصا عندما نري حيرة الباحثين في أسباب الإرهاب والتطرف الديني علي وجه الخصوص ، وفي التناقض والغموض الذي يكتنف الظاهرة عموما :أسبابها والأهداف المتوخاة منها ، مع درجة القناعة لدي أصحابها بجدوائية وشرعية مايقومون به من قتل وتخريب، وهذه الحيرة ـ حسب رأينا ـ تدفع إلي ضرورة البحث عن أسباب أخري أكثر إقناعا ، وانسجاما مع الظاهرة تماما كما يفعل الفقهاء عند تخريج المناط : من تحقيق (حصر) وتنقيح (جرد المحصور لأخذ العلة المناسبة) ،عند ذاك سنجد أن العمل النفسي كما رأينا سابقا هو الأنسب فعلا لأن يكون أساس وأصل كل العوامل والمؤثرات الأخرى ،ويعود تأثير العامل النفسي ..إلي مثيرين : مثيرعام ، ومثير خاص .
أولا : المثير العام
يتمثل هذا المثير في الحالة العنف الكلي التي شهدتها الحضارة الحديثة عموما، وبالأخص في القرن المنصرم ، حيث وصلت البشرية إلي درجة عالية من التقدم العلمي والتقني ، وفي المقابل لم تصل إلي ما يقتضيه ذلك من الأمن والرخاء والاستقرار ، بل علي العكس من ذلك كثرت الحروب والنزاعات والأزمات ، وانتشر الموت الرهيب في كل أنحاء العالم ، وسلب الإنسان قيمة الإنسانية وحلت الآلة محل الإنسان ، وساد الرعب والخوف حياة الناس وسكن القلوب ، لدرجة يمكن أن نقول معها أن هذه الحضارة الغربية حضارة عنف ، وأن التقدم العلمي قد أعطي بيده اليمني وأخذ باليسري كل ما أعطي وزيادة حتي الأمل في العيش بأمان في هذا الزمان سلبه ، وإن كانت القنبلة الذرية التي أسقطت علي اليابان (هيروشيما) هي أول دليل فظيع علي ذلك فإنها ليست الأخيرة والأكثر فظاعة ، فالحروب الكثيرة التي حدثت في القرن المنصرم والنزاعات التي تستخدم فيها كل الأسلحة الحديثة لا تقل ضررا عن ما خلفت قنبلة هيروشيما ، ولقد عبر الكثير من الفلاسفة والمفكرين عن هذه الحالة التي سادت العالم في العصر الحديث ، فهذا آنتوني ستور كتب علي غلاف كتابه المعنون (العدوان البشري ) :"إن الحقيقة الكئيبة هي أننا أقسي المخلوقات علي الأرض وحشية وأبعدها عن الرحمة"، أما داروين في نظريته أن المجتمع الإنساني والطبيعة البيلوجية شيء واحد ، وذلك يرتب أن تحكم هذا المجتمع الإنسان القوانين نفسها : قوانين المنافسة والصراع والعدوان ، بين الأمم من أجل البقاء، أما نيتشه فيري في مبادي الأخلاق ،أن الخير هو كل ما يعلو في الإنسان بالشعور بالقوة ، وإرادة القوة ، والقوة نفسها ، أما الشر فهو كل ما يصدر عن الضعيف ، ولا يختلف سبنسر كثيرا في هذه المسألة عن مفهوم نيتشه حول الصراع وإرادة القوة إذ يري أن الوضعية الحضارية العام القائمة علي تضخيم المكاسب والتمدد باستمرار تشجيع التنافس والتصارع وتجاوز الضعفاء والمساكين ، إن كل هذه المعاني تفيد ظغيان العنف والرغبة في التفوق والسيطرة و البقاء.
إن انتشار العنف في هذا الزمان في كل بقاع العالم ، والذي أسهمت القنوات التلفزيونية في جعله ظاهرة عادية طبيعية ، حتي أن البعض أصبح يلقب قناة الجزيرة (بقناة الموت) لفرط ما تقدم يوميا من مشاهد القتل البشع ، وصنوف الدمار الهائل في كل أنحاء العالم ويشاهده الناس كما يشاهدون الأفلام الترفيهية، قد خلف هذا الواقع أثرا نفسيا سيئا لدي من يعانون من اختلالات نفسية كتلك التي ذكرنا آنفا ،مما أدي إلي فتفجر غريزة العدوانية عندهم ،فهان القتل لهذا السبب أو ذاك ، وأكثر الأسباب التي يجد فيها الفرد إشباع غريزته العدوانية هي النزاعات والحروب العقدية والدينية لما يجد فيها مما يغطي علي تلك الرغبة غير المحببة من أمور: كالتعصب الديني المتولد والمنجر أصلا عن طبيعة الإيمان والعقيدة المتمثلة في التسليم ...وكسمو الهدف المنشود الذي يستحق من المرء أن يدفع نفسه وحياته ثمنا رخيصا له ، وكعدم القدرة علي التحقق فيما بعد الموت من أن الموت في سبيل ذلك الهدف وبهذه الطريقة ، ليست هي الموت المنشودة عند المؤمنين(الشهادة)التي تعني حياة أخري سعيدة وسرمدية.وكما يدفع واقع العنف هذا والاعتداد بالقوة والرغبة في السيطرة إلي التطرف الديني ،يدفع أيضا إلي شتي أشكال الجرائم ، سواء صنفت علي أنها إرهابا أو بقيت جرائما عادية ، وسواء كانت دوافعها اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك.
ثانيا : المثير الخاص
لقد ربطت نظريات القرن التاسع عشر الخاصة بالتقدم بين شرور البشر وبين حالة التخلف والتطور الاجتماعي ، ولما وقعت الحرب العالمية الأولي والحرب الثانية ، وألقيت القنابل الذرية علي البشر في اليابان ، وارتكبت أبشع الفظائع تجاه الضعفاء،من أطفال ،ونساء ،وشيوخ، نشأ إحساس قوي بأن التطور الاقتصادي ، وانتشار التعليم ، واغتناء الثقافات ، أمور غير كافية للحد من الجرائم والتدهور الخلقي، فولدت ذلك لدي الإنسان الغربي الشعور باليأس وخيبة الأمل ، والتشاؤم .وفي الغرب نفسه يمكن القول إن الحضارة الحديثة ، نزعت من الإنسان قلبه ، فأصبح بغير مشاعر ، وأضعفت لديه سلطان الضمير، وهذه الحضارة بمميزاتها التي ذكرناها سابقا قد فرضت علي بلدان العالم الأخرى ، وإن عالمنا الإسلامي لم ولن يستطيع أن يفلت من روح التشاؤم هذه التي ولدت في بلاد الغرب ، وأخذت تتسلل في كل شبر في العالم ، حيث ساد الشعور باليأس، والضجر، والعدمية ، وفقد كثير من الناس القدرةعلي الصبر، والتحمل ،والتسامح ، وصار العبوس ،والتجهم هو الحالة الطبيعية للكثيرين في تلك البلدان،خصوصا بلدان العالم الإسلامي ، وأصبحت صورة الغرب في ذهنية بعض المسلمين يغلب عليها شعورهم باحتقار كل ما ينتمي إلي الحضارة الغربية ، إلي جانب الاعتقاد بأن العالم الغربي يتآمر علي المسلمين ،وأنه هو أكبر مصدر لشقائهم وتخلفهم .
إن الشعور بأن أفضل أيام البشرية قد ولي ،وأن صنوفا من الألأم والإخفاقات الهائلة تنتظر الأجيال القادمة ، والإحساس الأليم بالوضعية المزرية والانحطاط الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم،ولد ردة فعل لدي بعض أبناء أمتنا لكنها غير محسوبة العواقب ...مما يعني أن حالات نفسية معينة كتلك الأنفة الذكر، خصوصا (الميول السيكوباتية، وهذاءات العظمة ،وهذاءات الاضطهاد) هي التي تسببت فيها ، تحت غطاء من الجدية ،وتحمل مسؤولية الأمة بأكملها ،والرغبة في مرضاة الله سبحانه تعالي.وليس الجهل بالدين ومقتضيات الشرع هو السبب الأساسي في الميل إلي التطرف كما يتصور البعض ، إذ لا يعقل أن يكون هذا الكم الكثير ممن تربو في بيئات إسلامية وعلمية مميزة، أن يكون الجهل هو ما جرهم إلي التطرف ، كما أن أوضاع بعضهم الاقتصادية والاجتماعية ليست بالسيئة مما ينفي القول بأن العوامل الاقتصادية والاجتماعية هي السبب في انحرافهم ، وتطرفهم ،وهذا يؤكد الفرضية التي ذهبنا إلي التعبير عنها في هذا المقال ،والتي تري أن العامل النفسي هو السبب الرئيس والفاعل الذي أدي إلي نشأة ظاهرة التطرف وتطورها ، كما يؤكد ذلك عدم شعورالمتطرفين بفظاعة ما يقومون به ومخالفته لشرع الله تعالي، وقناعتهم بأنهم من وراء أعمال التقتيل والتخريب التي يقومون بها في أنحاء العالم دون تمييز بين دار الإسلام وغيرها أنهم إنما يقومون بواجباتهم كمسلمين ، وأن غيرهم من المسلمين متقاعسون عن دورهم ، ومهادنون للكفار ، أو متعاونون معهم ، الأمر الذي يشرع قتلهم وتخريب بلدانهم !!.
لقد أردنا أن نتوصل في هذه الحلقة إلي تأكيد أن العامل النفسي هو الأصل الفاعل الذي تتسبب في ظهور (التطرف الرهيب) ويترتب علي هذا التصور أن تكون الحلول المقترحة لمواجهة التطرف والقضاء عليه ، تأخذ بعين الاعتبار هذا العامل علي محمل الجد ، والنظر إلي المتطرفين علي أنهم ضحايا حالات نفسية لم يتم اكتشافها ولا تقديرها في الوقت المناسب، وليسوا مجرمين فطروا علي حب العنف والتدمير، واختاروا سبيله بمحض إرادتهم ، لكن السؤال المطروح هو كيف نواجه ظاهرة التطرف الرهيب التي أعيت جيوش العالم المدججة بالأسلحة بمجرد سلاح المحلل والعالم النفسي؟ ذلك هو ما سنراه إن شاء الله في الحلقة القادمة بحول الله.