ثالثا: الوعي الاجتماعي
.
الوعي الاجتماعي هو الشعور بالانتماء إلى المجتمع وحمل قضاياه وهمومه والعمل على تحقيق مصالحه. وبالتالي إرادة الحياة والتشبث بالحقوق والدفاع عنها، والقيام بالواجبات الاجتماعية. إنه انتشار فكر وثقافة التغيير بين الناس كي يصبحوا قوة فعل لا تقهر! وبغياب الوعي، تموت الأمم العظمى، وتندثر الممالك والدول، وتركع جموع الرجال صاغرة في انتظار الموت. تماما كما نقل عن زمن انحطاط الدولة العباسية! لذلك حارب المستعمرون والطغاة والمستغلون الوعي، ونشروا الجهل، وزرعوا الضلال، شعارهم قول الرصافي متهكما:
يــا قوم لا تتكلمـــــوا ** إن الكــلام محـــــرم
ناموا ولا تستيقظـــوا ** مـا فـاز إلا النـــــوم
ودعوا التفهـم جانبــا ** فالخيـر ألا تفهمـــوا
أما السياسة فاتركـوا ** أبدا.. وإلا تندمـــــوا
إن السياسة أمرهـــا ** لو تعلمون مطلســم
... " والذاك يوحل فكتابُ...!"(1).
وللوعي أسباب، وقد أخذت مالي بتلك الأسباب. خاصة سبب المساواة بين بني الوطن الواحد، ذلك السبب الذي نفتقده نحن. إذ لا يوجد في مالي عموما، رغم التنوع الفادح، من يشعرون بأنهم فوق - أو دون- الآخرين بسبب المولد أو النسب. والناس سواسية أمام القانون. وفي مالي رأي عام وطني راسخ (طبقة سياسية أصيلة غير مخترقة، وصحافة حرة، ومجتمع مدني صادق ونظيف) فرض التغيير، ويحمي الديمقراطية، ويصون مصالح الشعب والوطن. ومن أنماط الوعي المالي أن الإنسان في مالي ـ وهي بلد فقير ومعزول لم تدللـه الطبيعة ـ يأكل من إنتاجه، ويلبس من إنتاجه، ويستهلك حسب الإمكان، دون جري وراء الكماليات والبذخ الزائف، والموضة.
واحتراما منه لهذا الرأي العام المالي الواعي، وإيمانا منه بعقيدة التناوب، رفض الرئيس ألفا كوناري تعديل الدستور المالي الذي لا يسمح بأكثر من ولايتين، كي يتسنى له التقدم لولاية ثالثة، لما وسوس له بعض شياطين الإنس بذلك، قائلا: أنا مجرد أستاذ! وفي مالي من هم أفضل وأكفأ مني. فإن كنت قد وفقت، فنعما هي، وعلي أن أترك مكاني لمن هو أجدر مني، وإن كنت لم أوفق خلال مأموريتَيَّ، فعلي أن أرحل.
أما شفافية الانتخابات، والوعي الصحي، والغذائي، وحماية المستهلك، وصيانة المال العام.. الخ؛ فهي أمور لا يكلها مالي إلى آخر، لحد أنه إذا وقع حادث مرور بحي من الأحياء يخرج الذين حدث الحادث بساحتهم إلى ميدانه، ويكونون شهداء حتى يتم إعداد الضبطية لمحضر دقيق وصادق يعاين الوقائع بتجرد وحياد.
وفي موريتانيا التي كانت متقدمة جدا في المنطقة قبل حلول الجيش بساحتها، ينعدم اليوم أهم أسباب الوعي: الوعي الوطني، والإيمان بالدولة ـ الوطن. فرغم انتمائنا لبلد واحد، واعتناقنا جميعا لدين كريم واحد، أعلن منذ أربعة عشر قرنا ونيف نهاية التمييز بجميع أنواعه فقال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ورغم وجودنا في عصر قيمه المساواة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، وتبنينا نظريا لتلك المبادئ والقيم في دساتيرنا وقيمنا، نجد مجتمعنا اليوم ما يزال ينقسم إلى قبائل وأجناس وشيع شتى (بيظان، اكور، اعرب، زوايا، حراطين، عبيد، ازناگه، امعلمين.. الخ) تتحدد فيها قيمة الفرد بانتمائه ومولده لا بكفاءاته وملكاته، شيع يأكل بعضها البعض، ولا يربط بينها رابط وطني أو إنساني أو غير ذلك! شيع ترى بعض مكوناتها أنها ـ دون غيرها ـ هي التي نزل فيها {كنتم خير أمة أخرجت للناس} دون أن تتحلى بأبسط قسط من شروط تلك الأمة! أما الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والصحافة التـي يفترض أن تكون قاعدة الوعي وأساسه الثابت، فإنها لم تتعاف بعد من رواسب وأدواء الفترة البائدة التي كانت فيها مخترقة ومغرقة بعشرات - بل مئات- الكيانات المصطنعة، ومفرغة من مضمونها الوطني والاجتماعي ما عدا القليل منها: فالأحزاب تباع وتشترى، وكذلك أعمدة الصحف والصحف، والمنظمات المدنية، والذمم والكرامة والدين.. كل شيء في سبيل المادة! أضف إلى ذلك عجز الأحزاب ذات المصداقية عن التفاهم على هدف أسمى! فليس فيها من يتحمل الآخر ما عدا الرئيسين أحمد ولد داداه ومسعود ولد بولخير اللذين صرح كل منهما بقبوله للآخر، ولا من يعرف قدره وقدر صاحبه، وقدر خصمه.
وهذا ما جعل الذين قتلونا ألف مرة، وباعونا، ونهبوا أرزاقنا، ومرغوا كرامتنا في الوحل، يتبجحون اليوم أمامنا، ويتطاولون بدون خجل، طالبين منا أن نمنحهم ثقتنا، كي يواصلوا مخططهم الإجرامي؛ ونحن نرقص عند أقدامهم، ونترنح كالديك المذبوح، بدلا من أن نصفعهم، ونمسك بتلابيبهم، ونحاسبهم حسابا عسيرا، حتى ولو كان معنويا، فنحكم عليهم بالإعدام السياسي!
وللتذكير فقط؛ كان من مآخذ معارضي سياسة الجبهة الوطنية، التي دعا إليها "الكادحون" في بداية السبعينيات، على تلك السياسة، أن الموريتانيين لا يمكن أن يكونوا أبعد نظرا، وأقوم قيلا، من شعوب المنطقة؛ بينما الواقع أنهم كانوا كذلك في جميع المجالات قبل "غزوة قرمل" وابتلائهم بالحكم العسكري. ومن هنا جاءت لازمة النظام البائد "نحن أحسن حالا من الدول المجاورة".
ورغم ما في هذه النظرة من استكانة وقناعة بائسة بالدونية فإنها لم تعد صحيحة ولا تمتُّ للواقع بأية صلة؛ ذلك أن الدول المجاورة – دون استثناء- أحسن وضعا منا بكثير.. وفي جميع المجالات. فمتى سنسترجع دورنا الريادي، أو نكون مثل الدول المجاورة على الأقل؟
رابعا: طبيعة الجيش
لا أريد الخوض كثيرا في هذا الموضوع، ولذلك سوف أكتفي فيه برؤوس أقلام؛ فالجيش المالي جيش جمهوري، يدين بالولاء لدولة الوطن المالي التي هو درعها. لا يتبع فردا، ولا قبيلة، أو عنصرا، أو جهة. وقد برهن على جمهوريته في ثلاثة مواقف جليلة هي:
ـ رفضه تنفيذ أوامر قادته الهادفة إلى الزج به في مواجهة الشعب يوم الثورة.
ـ نزوله عند رغبة شعبه، ووضعه خارطة للانتقال السلمي للسلطة إلى المدنيين.
ـ تنفيذه لوعوده بصدق، وعودته إلى ثكناته بصورة نهائية وجدية، وخلع قائده توماني توري لبزته العسكرية الشريفة ليصبح بذلك أشرف رجل في مالي. وما زال ذلك الجيش يحرس الجمهورية.
أما جيشنا الذي أنهكته 28 سنة من الحكم والانغماس في السياسة والفساد، وكبدته خسائر فادحة في العدد والعدة والروح المعنوية، فاقت بكثير ما كبدته إياه الحرب (جميع ضباطه الكبار إما قتلوا في ظروف غامضة، أو أعدموا، أو سرحوا، أو حيدوا لأسباب "سياسية"؛ كثير من الضباط وضباط الصف والجنود سجنوا أو سرحوا إثر محاولات انقلابية أو انقلابات؛ ومئات تمت تصفيتهم جسديا، وآخرون سرحوا أو هربوا من الخدمة)! فإنه رغم وقوفه مع الأمة، وإطاحته برأس الفساد، يوجد اليوم في وضع صعب للغاية، سواء من حيث وحدته، أو من حيث قدراته القتالية وروحه المعنوية ووعيه، ورعايته وحمايته وجعله في منأى عن الحاجة حتى يكون ولاؤه للدولة، وانتماؤه للبزة العسكرية، لا لعنصر أو قبيلة أو جهة أو فرد أو مجموعة. لذا فإن دوره في تحقيق أهداف المرحلة، وفي حماية الجمهورية، منوط بإعطائه عناية خاصة وعاجلة، تتمثل في إعادة بنائه وتثقيفه، وتحسين أحواله المادية والمعنوية حتى يكون في منأى عن المؤثرات السلبية. إنه بحاجة إلى عناية الأمة واستثمارها فيه، كي يكون درعا للأمة، وحاميا للوطن.
الخلاصة: وخلاصة القول إن العهد الجديد الأغر الذي تضافرت عوامل بزوغه الموضوعية والذاتية في بلادنا، قد لا يتمخض عما نصبو إليه، وما حققته في ظروف مشابهة شعوب شقيقة مجاورة وأقل إمكانيات منا. وقد تضيع الفرصة، ما لم ننتبه، بصورة جدية، إلى عوامل ضعفنا، ونسع جاهدين، يدا في يد، إلى علاجها، والتغلب عليها، كي نتمكن، بصورة أكيدة، من التقدم والرقي، والوصول بشعبنا الكريم إلى بر الأمان! ذلك هو الهدف المنشود من وراء هذا المقال، وليس التثبيط، وجلد الذات، والتعريض بمن لست خيرا منهم.
______________
1. لازمة "نشيد الكتاب" الذي أطلقه النظام البائد في أواخر أيامه لإلهاء الشعب عن همومه الجدية.
(نشر في جريدة "السفير" الأعداد 402 – 416 من 22/ 11 إلى 13 /12/ 2006)