أَهـجْرةٌ بعد الخمسيـن…. يا وطنـي !!!!/ د.. ناجى محمد الامام

2013-02-13 06:47:00

كان شديد الرقة و العذوبة عبقريا منذ أن أذن المرابط في مسمعيه يو م مولده في بيت عز من وسط هذه الأرض الطيبة، مرت سنوات دراسته كالبرق ، وعاد يحمل من المؤهلات ماتنوء به الجبال ومن الحماس للعطاء ما تنهد أمامه

.

.فتلقفه اثنان يمتلكان زمام المبادرة في كل أرض لا هاديَّ لها : الحاسدُ والوَاشي، فما استطاع أن يبرح مكان تصنيفه في الوظيفة العمومية…

..فهـاجر..بعد سانحة، أهتبلتُها ورَشَّحتُهُ لها بإذنِ شيخنا،و من المنظمات الدولية العفنة المافيوية، حيثُ تعرض لكيد الأقربين(نعم هناك أيضاً) ، وكنتُ قد عُزلتُ عن التأثير،جـرَّ حقيبته إلي الجامعات المحدثة ، وعوالم محدثي النعمة ، هذه المرة عاتبته فقال بلسانه الذرب الذي لا يوفرني عندما نكون في نجوي اثنين :

هل تريد مني أن أقبل حالتك؟ يقاتلونك في قوت عيالك ويحاربونك في قناعاتك وتصبر، أنا لست سياسيا، و قصيدتك رحيل مواسم الفرح لن أشهد علي مثل ألمها ، يكفيني أنك تتألم ،ولا أستطيع فعل شيء، وتابع ضاحكا.. سأقوم بدوري.. سأقرأ عنك هناك…و حزم حقائبه..

في آخر لقاء ،و قد شرقنا بالدموع ،قال لي  :صويحبي عندك معارف ومعجبون هناك ،تعال نهاجر مع بعض…نؤنس غربة بعضنا البعض ..لا مقام لك  هنا..

كانت الساعة التاسعة والنصف من ليل مغادرته، أنزلته في الحي الشعبي المكتظ المعتم حيث بيت أهله و تعانقنا طويلا، قبل أن أعود إلي حي أكثر منه اكتظاظا..وقال  :                                                                                                                          فكر فالشباب ذاهب و العمر قليل أنتظر منك جوابا…

لم أكن لفرط حبي له أظنه خطا ب مُوَّدِّعٍ، إلي أن وصل النعي ؛ و لم أستوعب الدرس بعد ذالك، فاكتفيت بمضغ الحسرة عليه والصبر علي الرزء الجلل الذي أصابني و البلد بفقده .

وتمر الأيام حُبْلي تَلدُ كل عجيب ونتلهي رغم همومنا بموالدها ومواليدها، و العمرُ يسيلُ بين أصابعنا، ولا نُحسُّ إلا بما كان من مشيب و بقع و ندوب علي أجسادنا،ففي الرضوض و الكدمات و الجراح الغائرة التي تثخن جسم الوطن ما يكفي المصابين بفيروس الوطنية و الثوابت و ما شاكلهما من موانع النوم ومكدرات المتعة و الثروة؛ويشغل عن التفكير في النفس و النفيس …

صحيح أن اقتناء الثروة في هذا البلد، بأي ثمن، و بأية وسيلة أغري الكثيرين ، وجعل العديد من أصحاب المباد ئ و القيم يتلطخون بتلوث الكسب الحرام، و يصلون إلي درك العفونة، ولكن المجتمع كان لهم من الشاكرين،ولنا من اللائمين، إذ أضحتْ قيمةُ المال مقياسَ الوجاهة و الوسيلة الأنجع للإقناع ..و انتشرَ التطبيع مع كل شيء، ولأَيِّ شيء و مُقابل كل شيء:من التطبيع مع الصهيونية إلي الزبونية و الرشوة و اختلاس المال العام و.. حتي الخاص،وانفلت الناس من كل القيود والضوابط ، وبَدَتْ حُمَّي الكسب و رجفتها والتياع و لُهاث المصاب بها وهذيانه بكل ما يلقن له، و ظهرت أشكال و ألوان من الميوعة و التحلل من أي رادع و بدلت الأرض غير الأرض ، وأصبحتْ موريتانيا فسطاطين : فسطاط المترفين إلي حدد التخمة من جميع الفئات و العناصروهم حفنة المنتفعين من كل العهود وسمتهم البارزة التوادد و التعاضد بينهم ، وفسطاط المعوزين إلي حدود الإملاق، من كل فئة وعنصر،وسمتهم البارزة خنوع العامة وحركية الطليعة من الفئة المتعلمة و العاملة وهم ال99بالمئة من الشعب الموريتاني الذين يشكلون بحرا هائما هادئا هاربا من الهيجان …إلي حين.

صحيح،كذلك، أن بين أصحاب المبادئ، وهم قلة، أفرادا،غرفوا من ثروات خارج الحدود، ودخلوا سجل الأملاك العقارية ،والثروة الحيوانية ، والحفلات الترفيهية، لكن الأكثرية الساحقة ظلت وفية لما هو في صميم إيمانها ، وهي التي دفعت الثمن الأول بالتوقيف و الطرد والسجون والإعتقالات…

وستبلغ التراجيديا ذروتها ، لأن هذه الأكثرية النخبوية ، بفعل عامل السن، ستدفع ، خلال الخمس سنوات القادمة، آخر سلفة من عمرها عجزا ومرضا و شيخوخة وتقاعدا مبكرا في وطن يتنازل عن أبنائه في مقتبل العمر و الإقتدار الجسمي و العقلي و المعرفي، فكيف لا يتجاهلهم وهم في طور الشيخوخة والإنحدار…

تلك من غرائب وطــن يموت في كل يوم مائة مرة ، و طلائعه تشيخ وهي تحمل أحلامها إلي المدافن..شيبا و شبابا…

… قمة المأساة/ الملهاة أن تهجُر و طنك ,و تُهاجرعنه بعد الخمسين بحثا عن كأس كرامة ولقمة عيش نظيفة و ساعة اعتراف بقدرات يعلمها القاصي والداني ، ولحظة عرفان بالجميل…

إن وطنا لا يحفظ إلّاًّ و لا ذمةً، لبنيه ،ليس وطنا ، بلْ ليس جُحْرَ ضبٍّ و لا تامورة ضبع ولا عُش طائر.. فهولاء  يُحسون في أماكنهم بالأمان…

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122