كتب الدكتور التقي الشيخ: عن روي التنوين:

2025-05-27 00:28:47

من شرار الغرائز التي ابتلاني بها الله  جهل مطبق بعروض الشعر، وكان أبي رحمه الله ينهانا عن تعلم قواعد الشعر وكثيرا ما أسمعه ينشد في من يقطع الشعر: 

يا من يخطط في التراب الأعفر

        أخشى عليك من الرياح الصرصر

 وقديما نسخ الجاحظ مدحه للعروض بقوله" هو علم مُولّد، وأدب مستَبْرد، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستنكد العقل بمستفعلن وفعول، من غير فائدة ولا محصول" وقال ابن طباطبا:

كل العلوم يزين المرء بهجتُها

         إلا العروض فقد شانت ذوي الأدب

بي الدوائر دارت من دوائرها

           ما لإمرىء أرِبٍ في ذاك من أرب

فاستعمِلِ الذوقَ في شعر تؤلِّفُهُ

        وزِنْ به ما بَنَوا في سالف الحقب

 وفي البيئة التي احتضنتني لم يكن الاشتغال بعلم العروض معروفا وإن وجد فهو نادر  ومحاولة استنبات الموهبة قد يكون ضره أقرب من نفعه، لتشبُّع صاحبه بما لم يعط من السليقة؛  فبين الشعر بالطبع  والشعر بالعروض عند أهل النقد مثل ما بين النقد والعروض عند أهل الدثور، وقد قال الشاعر أحمدو ولد عبد القادر _ أطال الله بقاءه _ 

ولست بنقاط إذا هم خاطري 

                بنفث شعور رنّ بين ضلوعي

 ولكنها الأوتار في القلب نسقت 

               مفاعيله تنساب عبر نجيعي 

أما أنا فقد خرجت من الإعدادية قبل السنة الثالثة التي تدرس فيها قواعد العروض، وكان أول احتكاك لي بذلك العلم عندما ألجأتني الأستذة إلى تدريسه، وما أظن تلامذتي استفادوا كبير فائدة فمع أن مداركهم لا تزال غضة طرية فإني لم أستطع بقواعد ذلك الفن تأثيثها، لانقباضي عن قبضها ولأني لا ألم على شعث تشعيثها، ومما زهدني في العروض أن أهله يبحثون عن الشيء في غير مظانه، وذلك ما تشي به أمثلتهم التطبيقة من مثل قولهم"لم أر على ظهر جبل سمكة" وربما دفعهم ذلك إلى توهم في غير محله، وقد بلغني أن نقاشا دار  على هذه الوسائط شدد علي النكير فيه جماعة لأني عقدت أبياتي في رثاء شيخنا محمدن عبد الرحمن(ولد فتى) على روي التنوين: 

مضى الذي لقبته الأهل نجلَ فتىً 

               وهو الفتى علما وهو الفتى صفةً

وإذا صح النقل فإن ذلك أشبه بمن يسأل عن دم البراغيث ويترك دم الحسين رضي الله هملا أو بمن يحاول دفع العصا والسيف يظلل مفرقه، فقد لعبت قصيدة الشعر الحر وبعدها القصيدة النثرية ب"أسباب" خيمة الشعر و"أوتادها" فوهت أطنابها  ووهى عمودها وخر على أهلها السقف من فوقهم فكان الأولى بالمعترضين على جعل التنوين رويا أن يحركوا ساكنا لرأب ما أثأته الحداثة من عمود الشعر بدعوى التجديد ومواكبة العصر، أما وقد قام الاعتراض على "سبب خفيف" وجرم طفيف هو جعل التنوين رويا فأقول إن هذا طريق لاحب يرجح سالكوه من الشعراء برمل يبرين، وحتى لا نبعد النجعة فسنكتفي بأهل هذا القطر من الشناقطة فهذا محمد ولد ابن وهو من هو يقول في تاجر سينغالي يدعى محمد وَنْ: 

قد ملّأ الأرض وعدا لي مُحمّدُ ونْ

                      وما مواعيده إلا أسىً وجوىً 

قد طال ما كان مناني بنائله 

                 حتى غدت جلهاتي بالرجاء رواً 

ألفيته خُلّبا برقا مسيلمةً

               في وعده بَرما في النائبات دوىً

  قالوا أبوهُ فتى والمكرمات له

                فيها له لواً وله عن ضدهن نوىً

 فقلت أشبهه من باب أن له

                 في كل غدر ومطل راية ولواً 

ومع كثرة خصوم ولد أبن والمتربصين به فلم نعلم أن أحدا منهم خطأه في استخدام هذا الروي، وقد قال جدي الشيخ ولد المنى مستشفيا للعالم محمد النابغة ولد الشيخ محمدو ولد حبيب الرحمن: 

شفى الإله من الأسقام قاطبةً 

                      محمد العلمَ المشهور نابغةً 

بسلاً وحقق ما يرجو وألبسه 

                  درعًا من البرء لا تنفك سابغةً

 أولاه مولاه إحسانا ومنفعة

                 وحكمة من علوم الدين بالغةً 

وفجّر الله من أنهار حكمته

                   عينا له بامتداد العمر نابغةً 

فكُلُّ ما مدحة تأتيه بالغةً 

           في المدح ما بلغت ليست مبالغةً

 ومع أن الأبيات أنشدت في حضرة علمية وأدبية فلم نر من اعترض على رويها، وقل مثل ذلك في أبيات محمد الأمين ولد الشيخ المعلوم السائرة:

 منعمات بني حمدان كلُّ فتًى

                     هالته عينا وجيدًا ثم سالفةً

 تثني الفؤاد على جمر إذا اعتدلت

                    وإن تثنت تثنّى القلب ثانيةً

 وكلهن لها قرن بكل يد

                أفنى القرون التي كانت منعّمةً

 ويقول أحد الشعراء: 

بينا بديجور لُج النيل زاخرةً

           غوارب النيل تفري الفلك ماخرةً 

تنسمت خزرج كخزرج مُزجت

              بما الصفا رصفا صفرا معتقةً

 ومن الأبيات السائرة قول المختار ولد حامدن: 

لقيت الفتى الغوثي بالأمس صدفةً

                      ولو لم أصده صدفة لم أصد فتًى

 فيا ليتني في كل يوم وليلة 

                   أصيد فتى مثل الذي صدت صدفةً

 ومن المعاصرين يقول الأديب الشاعر محمد فاضل ولد الشيخ محمدن ولد الشيخ أحمدو ولد أحمذي في الشيخ ماء العينين بن فتى:

 

الشيخُ ماء العيون القطبُ" نجل فتًى"

                       شيخ مرَبٍّ أديب عالم وفَتًى 

قِيامهُ لليالي فيه أدمعُهُ..

                       من خشيةِ الله لاتنفكُّ واكفةً

والنفس في كل ما تهواه خالفها 

                          وظل لله لم يعرف مُخالفَةً...

نحبه نحمد المولى ونشكره

                          محبة بين الابا قبلُ سالفةً

 عجلْ إلهي إلى الشيخ الشفا فلقد

               أضحت عليه قلوب الناس واجفةً 

ولتستجب للألى جهرا دعوك له

                    ومن له بالدعا قد حركوا شفةً

  وإذا كان الناظم قد قال:

 ومدة الإطلاق لا تكون 

                  رويا البتة والتنوينُ

 ألا يشفع لنا ما سقناه من الأمثلة في كسر الإشارة عند شرطة مرور الشعر؟!

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122