قصة البلد الذي يحتفل بعيد استقلاله كل عام رغم عدم الاعتراف به دوليا

2020-02-17 06:22:00

عندما أرسلت الشمس شعاعها الأول على مباني المدينة التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، كانت العائلات قد احتشدت بالفعل خلف الحواجز الحديدية، وتكاد الفرحة تقفز من أعينهم في هذا اليوم الدافئ على غير العادة. وقد يشي مظهرهم بأنهم يستعدون لزفاف ملكي.

. .

لكن في ترانسنيستريا (التي تُنطق أيضا ترانس-دنيستر)، ذلك الإقليم الصغير الذي يشغل مساحة 400 كيلومتر على الحدود الفاصلة بين مولدوفا وأوكرانيا، يعد عيد الاستقلال من أهم الاحتفالات التي ينتظرها المواطنون من العام إلى العام، حتى لو كانت هذه الدولة الأوروبية الشرقية، التي كانت تسمى سابقا "جمهورية بريدنستروفيه المولدافية"، غير معترف بها رسميا.

ومع أن ترانسنيستريا أعلنت استقلالها عن مولدوفا في عام 1990، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أنها لم تنل اعترافا رسميا من أي دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهذا ما يجعلها مكانا فريدا من نوعه.

ويغلب على عاصمتها، تيراسبول، التي تبعد 70 كيلومترا عن العاصمة المولدافية كيشيناو، الطابع السوفيتي، إلى درجة أنها كثيرا ما توصف بأنها حبيسة الإرث السوفيتي، الذي يجسده تمثال لينين الضخم أمام مبنى البرلمان المبني على الطراز المعماري السوفيتي، وشوارعها التي تحمل أسماء أقطاب الشيوعية.

ولم يكن مستغربا أن يحمل العرض العسكري، الذي أقيم احتفالا بالذكري التاسعة والعشرين لاستقلال ترانسنيستريا، أيضا سمات الحقبة السوفيتية، بدءا من الحركات التي أداها الجنود في الحفل،ووصولا إلى السيارات العسكرية من الحقبة السوفيتية التي يطل منها قائدو الجيش ويؤدون التحية العسكرية للجنود.

وتقول فيرا غالشينكو، الموظفة الحكومية التي كانت تساعد جنديا متقاعدا في التسعينيات من العمر، كان يحمل وسامين ثقيلين من الحرب العالمية الثانية: "نحن نشعر أننا مستقلون، لكن من المحزن أن استقلالنا غير معترف به رسميا. لدينا دستورنا الخاص وحكومتنا وجيشنا وعملتنا المحلية وحتى جواز سفرنا الخاص"
 

 

 

لكن جواز سفر ترانسنيستريا لا قيمة له فعليا بالنسبة لسكانها، البالغ عددهم 500 ألف نسمة، كونه غير معترف به سوى في أبخازيا وناغورنو كرباخ، وأوسيتيا الجنوبية، وكلها أقاليم متنازع عليها، ولا يمكن الوصول إليها مباشرة. ولهذا يحمل معظم سكانها جنسيتين أو ثلاث، مثل الروسية والمولدافية والأوكرانية

 

 

ومنذ أن أعلنت استقلالها قبل 30 عاما، تراجع عدد سكان العاصمة تيراسبول بمقدار الثلث على الأقل، وأجبر أغلب سكانها على المغادرة بحثا عن فرص عمل في روسيا، إثر تضاؤل الآفاق الاقتصادية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.

ولكن رغم مشقة الحياة في هذه الجمهورية، التي يتقاضى سكانها أجورا زهيدة أقل من معدلات الأجور في مولدوفا (التي تعد أفقر الدول الأوروبية)، إلا أنني اكتشفتُ أن الكثير من أهلها راضون عن حياتهم.

ويقول أندري سمولينسكي، مؤسس شركة "ترانسنيستريا للرحلات السياحية": "ننعم بطقس جيد ولدينا وفرة في المنتجات المحلية كالخضروات والفاكهة، وتتلقى ترانسنيستريا دعما من الخارج". ويلمّح سمولينسكي إلى المساعدات التي تتلقاها ترانسنيستريا من روسيا التي تبني فيها مستشفيات ومدارس وتمدها بالطاقة وتموّل معاشات مواطنيها.

وينقسم سكان ترانسنيستريا إلى ثلاث مجموعات عرقية متساوية حجما، لكن اللغة الروسية هي الأكثر تداولا بين السكان. ويرفرف على مباني المدينة العلم الروسي إلى جانب علم ترانسنيستريا- وهو الوحيد في العالم الذي لا يزال يحمل المطرقة والمنجل.

ويقول أناتولي ديرون، المشرف الأكاديمي بكلية الدراسات السياسية بالعاصمة تيراسبول، إن مواطني ترانسنيستريا يعدون أنفسهم جزءا من الفضاء الثقافي الروسي، ناهيك عن أن روسيا هي الضامن للسلام في ترانسنيستريا.

ورغم أن القوات الروسية تشارك في قوات حفظ السلام مع قوات من مولدوفا وترانسنيستريا، إلا أن وجود القوات العاملة الروسية، التي يبلغ قوامها 1,500 جندي في ترانسنيستريا، أصبح مصدر إزعاج للمسؤولين في مولدوفا وفي الغرب على السواء.

غير أن القوات الروسية، بوجودها في ترانسنيستريا، تحمي أيضا واحدا من أكبر مستودعات الذخيرة السوفيتية في أوروبا، على بعد كيلومترين من الحدود الأوكرانية، ولذا ليس من المستغرب أن تتجاهل روسيا دعاوى الأمم المتحدة بسحب قواتها من البلاد، لا سيما وأنها تحظى بتأييد حكومة ترانسنيستريا الموالية لروسيا، التي ترى أن القوات الروسية هي دعامة الاستقرار والأمن في البلاد.

 

 

 

 

وقد يرجع ذلك إلى العثرات التي واجهتها ترانسنيستريا في طريقها نحو الاستقلال. ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، تنامت المشاعر القومية في جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفيتية، التي تسمى الآن بجمهورية مولدوفا، إلى حد قض مضاجع الأقليات الإثنية الناطقة بالروسية في ترانسنيستريا، التي كانت آنذاك جزءا من مولدوفا.

ثم كان قرار حظر التحدث باللغة الروسية كالقشة التي قصمت ظهر البعير، ودفع ترانسنيستريا إلى إعلان استقلالها عن مولدوفا لحماية إرثها الثقافي، لتصبح جمهورية بريدنستروفيه المولدافية السوفيتية الاشتراكية في سبتمبر/أيلول 1990.

لكن الرئيس ميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي، أبطل قرار استقلال ترانسنيستريا؛ حرصا على رأب الصدع في الاتحاد السوفيتي والحفاظ على وحدته، ممهدا الطريق لاستقلال مولدوفا، التي تضم ترانسنيستريا، في عام 1991.

وتصاعدت حدة التوتر بين مولدوفا وترانسنيستريا، وتحولت إلى صراع عسكري في مارس/آذار عام 1992 أودى بحياة 1000 شخص على الأقل، حتى أُعلن وقف إطلاق النار في يوليو/تموز من العام نفسه. وباستثناء بعض الخروقات الطفيفة لوقف إطلاق النار، فإن ترانسنيستريا تنعم بالسلام منذ ذلك الحين.

ورغم أن التوتر لا يزال مخيما على العلاقات بين البلدين، إلا أنني لم أشعر في أي عاصمة أوروبية بهذا القدر من الأمان الذي شعرت به في تيراسبول، حيث كانت احتفالات يوم الاستقلال تسودها أجواء عائلية مفعمة بالحفاوة.

وبعد خروج الجنود من ميدان سوفوروف، أكبر ميادين العاصمة، تجولت بين أكشاك البيع المرصوصة في الشارع، التي كان بعضها يبيع الحلي التذكارية وبعضها يبيع الخبز المزين برموز الشيوعية، واستوقفتني مجموعة من الجدّات يرتدين الشال الروسي الجذاب ويتراقصن على أنغام الموسيقى الصادرة من مكبرات الصوت، ووقف الأطفال للتصوير بسيف الشاشكا الروسي، الذي كان يستخدمه القازاقيون.

وانتقل الاحتفال إلى متنزه بين الميدان وبين نهر دنيستر، الذي يمثل الحدود الفاصلة بين مولدوفا وبين ترانسنيستريا، وهناك نُصبت حلبات متنقلة أقيمت فيها مباريات للملاكمة بين الصبيان والمراهقين، بينما اصطفت العائلات أمام الشوايات المتنقلة للحصول على أطباق من اللحم المشوي.

وشاهدت الأطفال تغمرهم السعادة وهم يتسلقون الدبابات السوفيتية والأسلحة المضادة للطائرات وغيرها من المدافع التي عُرضت في المتنزه لتشهد على القوة العسكرية لترانسنيستريا.

وحين آذنت الشمس بالمغيب، بدأ الحفل الغنائي على المسرح الذي نُصب خصيصا لكلمة الرئيس في الصباح، وبعدها انطلقت الألعاب النارية في التاسعة مساء. وسرعان ما عادت المدينة إلى هدوئها المعتاد، باستثناء ضجيج الحافلات من مخلفات الحقبة السوفيتية على الأسفلت المتشقق.

ونظرا لقلة معالمها السياحية وأيضا نقص المرافق السياحية، يقدّر عدد سياح ترانسنيستريا بنحو 20 ألف سائح سنويا أكثرهم يأتون في رحلات ليوم واحد من مولدوفا. ولا يُشترط الحصول على تأشيرة لدخول ترانسنيستريا من العاصمة كيشيناو للبقاء ليوم واحد، وإن كان من الصعب ممارسة الحياة اليومية في هذا البلد إن لم تكن تتحدث الروسية.

لكن ترانسنيستريا تستحق البقاء فيها لأكثر من يوم واحد، لمشاهدة حصن بيندر، الذي يعود للقرن الخامس عشر، بالقرب من الحدود المولدوفية، والنُصُب التذكارية السوفيتية في شوارع العواصمة تيراسبول.

صحيح أن انتعاش السياحة سيعطي دفعة قوية لاقتصاد ترانسنيستريا الهزيل، لكن من الممتع استكشاف هذا البلد الأوروبي الحدودي المنسي قبل أن يعرف طريقه إلى الخريطة، أو على الأقل خريطة السياحة العالمية. وفي الوقت الراهن، سيظل حلم استقلال ترانسنيستريا معلقا بين مطرقة مولدوفا التي تأبى التنازل عنها، وبين سندان روسيا التي ترفض الخروج منها.

 

 

 

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122