محاضرة حول التواصل الثقافي بين الشناقطة والمغاربة

2017-01-18 16:51:00

احتضنت قاعة المحاضرات بالمركز الثقافي المغربي فى نواكشوط مساء اليوم ندوة ثقافية تضمنت إلقاء محاضرة تحت عنوان: التواصل الثقافي بين الشناقطة والمغاربة

(رحلة محمد أمين الشنقيطي نموذجا) ألقاها د. محمذن بن أحمد بن المحبوبرئيس شعبة اللغة العربية وآدابها بالمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية

.

الندوة افتتحها السيد مدير المركز فيصل فرشادو بكلمة قيمة رحب فى مستهلها بالحضور،مهنئا إياهم  بمناسبة بدء العام الجديد 2017م  ثم تطرق إلى العطاءات العلمية التى ما فتئ المحاضر يقدمها للجمهور من خلال أنشطة المركز السنوية .

بعد ذلك تناول المدير موضوع المحاضرة وأهمية أدب الرحلات نظرا لما يقدمه الرحالة من تعريف  بحياة الشعوب وعاداتها ثم أفسح المجال أمام المحاضر لتقديم عرضه الرائع والذى نال إعجاب الحضور وحظي بنقاش أكاديمي متميز من طرف النخبة التى حضرت الندوة. وهذا نص المحاضرة:

"يسعى هذا الجهد المبارك إلى أن يوصل للناس القول بشأن طرف من الصلات الثقافية بين بلاد شنقيط وبلاد المغرب الأقصى عاملا على تلمس قنوات التحاور والوصال وملامح التقارب والالتقاء، مركزا بشكل خاص على أدب الرحلة بوصفه قناة الربط وجسر العبور بين الأمم والشعوب فمن خلاله يطلع الرحالة على سلوك البشر وطرائق عيشهم.

فالسفر ديوان التجارب والأعاجيب، ومستودع اللطائف والأطاييب، فهو على الحقيقة مدرسة العلم والحياة، التي يتخرج منها الرحالة وقد اقتبس العديد من المعارف والأعراف. وتعرف على  متنوع الشعوب والأعراق.

لذلك أردنا أن نلبث يسيرا مع رحلة محمد أمين الحسني الشنقيطي ت 1351هـ عاملين على التعريف بصاحبها ومقدمين بعض محطاتها العلمية ومستعرضين جملة صالحة من مضامينها. فمتى امتدت ينابيع المعرفة والحكمة بين هذين البلدين، وكيف كانت جهود العلماء في نسج العلاقات الثقافية ثم ماذا عن الشيخ محمد أمين الشنقيطي ورحلته؟، وما أبرز المراكز الثقافية التي مر بها؟، وما ملامح التأثر والتأثير في هذه الرحلة؟ وهل تبادل صاحبها مع علماء تلك المراكز المعارف والعلوم، فتلقى وألقى، واقتبس وأملى،؟ أم أنه آثر الانفراد، فاعتزل انزوى؟

ذلك ما تسعى هذه الورقات إلى الإجابة عنه من خلال المحاور الآتية:


 

المحور الأول: الموضوع منطلق تأسيس

وخلال هذا المحور سنعرض  لمسألتين أولاهما تعمل على تحليل الموضوع واستنطاق وحداته المعجمية وثانيتهما تسعى إلى تأصيله واستنباته.

1- العنوان مناقشة وتحليل:

يقوم عنوان هذا البحث على تركبين أولهما نعتي "التواصل الثقافي" وثانيهما عطفي "الشناقطة والمغاربة" وقد ربط بينهما الظرف المكاني "بين"  الذي أحكم الربط والتنسيق بين الطرفين، فالتركيب الأول: مفتتح بكلمة "التواصل" وهي مصدر تواصل الأمر  تواصلا، إذا امتد واتصل، قال في المعجم الوسيط تواصلا: خلاف تصارما([1])، وتواصل الشخصان وغيرهما تواصلا اجتمعا والتقيا([2])، وتفاعل تدل على المشاركة والمعنى أن هنالك طرفين في هذه المثاقفة يتبادلان الأخذ والعطاء والتأثر والتأثير، أما الصفة "الثقافي" فجاءت لتحدد طبيعة هذا التواصل وتنسبه إلى الثقافة التي هي مصدر ثقف بالكسر ثقفا وثقافة فهو ثقف وثقيف إذا صار حاذقا فطنا، وتطلق في الاصطلاح على المعارف والعلوم والفنون التي يطلب الحذق فيها([3]).

أما الطرف الثاني من العنوان، فيتألف من كلمتين أولاهما الشناقطة نسبة إلى شنقيط، وهي مدينة في الشمال الموريتاني، وكانت تطلق في القديم على المجال الجغرافي المعروف اليوم بـ"موريتانيا" ، فهي تسمية أطلقها أبناء المشرق العربي على سكان هذه الأرض فقبلوها عن طيب خاطر ورحابة صدر، وصاروا لا يعرفون خارج بلدهم إلا بها. ولعل الأصل في اعتمادها أن مدينة شنقيط كانت منارة العلم ومرتكز التجارة ومنطلق ركب الحجيج، إذ يؤمها من حولها من أهل القرى، فقد أصبحت منذ أواخر العاشر الهجري ذات شهرة كبيرة وسيرورة بين الناس. فهذه التسمية تحمل دفءا معرفيا وعمقا تاريخيا، لذلك اعتمدت في عناوين عدد من الكتب والدراسات والبحوث المتعلقة بمعارف البلد وتاريخه الثقافي([4]).

أما المغاربة فجمع مفرده مغربي نسبة إلى المغرب، والمغرب في اللغة مكان غروب الشمس والمقصود هنا المنسوب إلى المملكة المغربية، وهي الدولة العربية الواقعة في أقصى بلاد المغرب، يحدها المحيط الأطلسي غربا، والبحر المتوسط شمالا، والجزائر شرقا، والجمهورية الإسلامية الموريتانية جنوبا.

والمقصود من العنوان جملة هو الكشف عن مختلف العلاقات المعرفية التي ربطت بين المنطقتين حيث كانت المؤلفات المغربية من أسس مقررات المحظرة الموريتانية، ثم إن الشناقطة كثيرا ما ارتحلوا نحو المغرب أو مروا به أثناء رحلاتهم إلى الحج، فقد تلبثوا هنالك غير يسير محاورين نظرائهم ومحاولين الإفادة والاستفادة، والتعليم والتعليم، فنشأت عن ذلك ثمرات علمية طيبة، أدرنا في هذا الجهد أن نتعرف على نماذج منها:

2- الموضوع معالجة وتأصيل:

ولا بأس في هذا المقام أن نذكر بأن التواصل الثقافي بين هاتين المنطقتين ترجع بوادره إلى تلك الصرخة المدوية التي أطلقها القائد يحي بن إبراهيم الكدالي، وهو بالقيروان مستنجدا بمعارف أبي عمران الفاسي، وذلك حين قال متحدثا عن قومه: "مالنا علم من العلوم ولا مذهب من المذاهب لأننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض تجار جهال حرفتهم البيع والشراء ولا علم عندهم وفينا قوم يحرصون على تعلم القرآن وطلب العلم ويرغبون في التفقه في الدين، لو وجدوا إلى ذلك سبيلا، فعسى يا سيدي أن تنظر لنا من طلبتك من يتوجه معنا إلى بلادنا، ليعلمنا ديننا"([5]). فاستجاب أبو عمران لهذا النداء وأحال الرجل على تلميذه وجاج بن زللو اللمطي الذي انتدب له الفقيه عبد الله بن ياسين الجزولي (ت451هـ) مؤسس الرباط، ومعلن أول حلقة تدريسية بالبلاد، حسب المعلومات المتوفرة إلى يوم الناس هذا، ولا ننسى أن الأمير أبا بكر بن عمر اصطحب معه في عودته من المغرب الإمام أبا بكر محمد بن الحسن الحضرمي، والفقيه إبراهيم الأموي الذي كان معلما وقاضيا في مجلس الأمير([6])،  وهؤلاء الثلاثة هم أصل انتشار العلوم الدينية في قبائل موريتانيا في ذلك العهد، ثم جاء بعد ذلك الشريف عبد المؤمن مؤسس قرية تيشيت، وجد شرفاءها المعروفين،  ومعه الحاج عثمان أحد مؤسسي قرية وادان، وكانا قرآ على القاضي عياض المتوفى في مراكش سنة 544هـ فانتشر عنهما العلم واتسع نطاقه([7]).

وبذلك نعلم أن الفضل في التئام الحصص الدراسية الأولى بالربوع الشنقيطية يرجع إلى أهل المغرب، الذين ظلوا على مر الأيام يمدون هذه البلاد بنافع العلم ونادر الحكمة، فقد وصلت المؤلفات المغربية إلى الساحة الشنقيطية في وقت مبكر، وفي مقدمتها رسالة الآجرومية، وإن كنا لا نعلم بالتحديد تاريخ وصولها إلى البلاد إلا أن المعلومات المتوفرة ترجع حضور هذا النص في هذه الربوع إلى أواسط العقد الرابع من العاشر الهجري، حيث ذكر البرتلي في كتابه فتح الشكور، أن عبد الله بن محمد الغيث المحجوبي ت 937 هـ قد شرح الآجرومية([8]).  ومعنى ذلك أن هذه الرسالة النحوية كانت حاضرة في الدرس الشنقيطي منذ فترة سابقة على هذا التاريخ، إذ من المفترض أن لا يتم شرحها إلا بعد التمكن منها وتقبل الناس لها، فعلها وصلت البلاد في حدود التاسع الهجري فبقيت على مستوى المقررات والدروس ولم تمتد إليها أنامل العلماء بالشرح والتوضيح إلا مع التاريخ المذكور والعلم عند الله.

ومن كتب النحاة المغاربة التي بلغت البلاد في تلك الفترة كتب المكودي، ت 807هـ، خاصة شرحه على الألفية، وكتابه التبسيط والتعريف في فن التصريف، اللذين قدم بهما إلى منطقة الجنوب الموريتاني محمد سعيد بن تكدي اليدالي، في رحلة عودته من المغرب، خلال العاشر الهجري.

وقد كان شرح المكودي على الألفية من مراجع المختار بن بونه  في كتابه الجامع بين التسهيل والخلاصة المانع من الحشو والخصاصة، وهو يقول في طرته ناقلا عن المكودي قوله: "ورد علينا تلميذ من أهل العراق ينشد بيتا ثامنا للخطبة وهو قوله([9]):

فما لعبد وجل من ربه
 

 

غير دعاء ورجاء ربه
 

 

أما كتاب التبسيط والتعريف في فن التصريف، فتوجد منه نسخة بقسم المخطوطات في دار الثقافة حسب ما أخبرني به بعض الثقات.

وبعد هذه الانطلاقة الأولية انهمر غيث المؤلفات المغربية على الساحة الشنقيطية بعد أن بدأ قطرا فكثرت المنظومات والمؤلفات فمن ذلك منظومة ابن عاشر، والنهاية والتمام في معرفة الأحكام للمتيطي، وشفاء الغليل في حل مقفل خليل، لابن غازي والطرر أبي الحسن الطنجي، ونوازل الهلالي. وذلك ما أوضحه النابغة الغلاوي عبر منظومته المعروفة بـ"بوطليحية" التي طبعت لأول مرة بالمطبعة الملكية بفاس سنة 1282هـ 1865م حيث يقول([10]):

ورجحوا ما شهر المغاربة
 

 

والشمس بالمشرق ليست غاربة
 

واعتمدوا المتيطي والزواوي
 

 

كذا ابن سهل عند كل راو
 

واعتمدوا الطرر لابن الاعرج
 

 

وطرر الطنجي غير بهرج
 

واعتمدوا نوازل الهلالي
 

 

ودره النثير كاللآلي
 

واعتمدوا المعيار لكن فيه
 

 

أجوبة ضعفها بفيه
 

ولا يتم نظر الزرقاني
 

 

إلا مع التودي أو البناني
 

وجمعهم أجوبة بن ناصر
 

 

لم يكن الشيخ له بناصر
 

وهكذا نوازل الورزازي
 

 

لم تخل من قول بلا إعزاز
 

 

فكل هذه المؤلفات المغربية كانت ذات حضور في الساحة الشنقيطية، زد على ذلك ما وقع من تبادل للألغاز العلمية بين أبناء شنقيط وعلماء فاس([11])، من ذلك تلك الأبيات التي وجه محمد مولود بن أغشممت المجلسي إلى أهل فاس مخاطبا طلبة العلم ملتمسا منهم الإجابة عنها يقول([12]):

إلى مدارس فاس الغر أسئلة
 

 

عيالم العلم أهل الحفظ والملكة
 

عن حاضر قسم متروك لوالده
 

 

صار البكاء له حظا من التركة
 

وما به مانع في القسم يمنعه
 

 

وحاز الابعد عنه كل ما تركه
 

وعن طوامث لا يمنعن أو جنب
 

 

من مسجد وفروع العلم مشتبكة
 

واسم في الإفراد والتذكير تذكره
 

 

وفرع ذين بنوع واحد سلكة
 

 

 المحور الثاني: الشيخ محمد أمين الشنقيطي ترجمة وتعريف:

تجدر الإشارة إلى أن هذا الرجل ظل فترة من الزمن مغمور الذكر مغبونا، إذ لم تنصفه المراجع وتعرض له بالبحث والدراسة إلا في وقت متأخر([13]). وتجمع المصادر على أنه محمدو فال الخير بن الأمين السالم بن عبدي بن فال الخير الحسني، الشنقيطي، ولد سنة 1293هـ، 1876م بمنهل يسمى المسومية، في منطقة الترارزة بالجنوب الغربي من موريتانيا، وكان الابن الأول لوالديه. وأمه عائشة بنت عبيد الله، نشأ في بيت علم وفضل ومعرفة بالشعر والقريض، فرأى النور في ذلك البيت الحسني ذي الملامح المعرفية المتميزة.

فوالده  كان مشاركا في العلوم محسنا إلى الأقارب مقبلا على الأذكار يقول: «وكان والدي تشبث بطلب العلم ولكنه لم يحصل كثيرا، وكان رحمه الله شديد البر بوالديه وصولا للأرحام محسنا إلى أقاربه، وكان مولعا بالأذكار الواردة كثير المطالعة للحصن الحصين للجزري، يحفظ جل ما فيه من الأذكار»([14]).

ووالدته كانت ذات مكانة علمية يقول عنها: «وأمي عائشة بنت عبيد الله (...) وكانت تحفظ القرآن عن ظهر قلب ولها انشغال بالعلم باغتتها المنية في حداثة سنها وأنا لا أعرفها لأنها ماتت وأنا صغير لا أعقل وإنما أخبرت عنها»([15]).

ثم يأخذ في الحديث عن عشيرته مفصلا القول في أجداده وأعمامه، على نحو من الدقة والموضوعية، دعته إلى أن يصف أحد أبناء عمومته بأنه كان علامة سيدا رئيسا، وشعره وسطي»([16])، ثم يتحدث عن جداته منوها بمكانة المرأة الحسنية وجهودها العلمية يقول: ومن النوادر أنني أدركت جدتي لأمي وجدة أمي وجدة جدتي، وكل واحدة منهن من البيوتات الكبار في القبيلة»([17]).

ثم يأخذ في تسطير سيرته الذاتية معرفا بنفسه ومحددا نسبه يقول: «أنا الفقير إلى الله أبو عائشة محمد فال الخير بن أمين ويقال الأمين السالم بن عبدي بن فال الخير الحسني»([18]).

وتشير المصادر إلى أنه حفظ القرآن في سن مبكرة من حياته، وذلك قبل أن يبلغ الحلم، وقد بدت عليه بوادر النجابة وسرعة الحفظ وقوة الشخصية إذ كان يخاطب أترابه قائلا "سأطأ برجيلتي هذه بلاد الحرمين"([19])، فكأن هاجس الرحلة حاضر في ذهنه يلح عليه إلحاحا، وذلك ما عبر عنه بقوله: "ولم أزل منذ بلغت عازما على التغرب، لطلب العلم في الأمصار"([20]).

وقد لاحت عليه كذلك علامات الجد والاجتهاد منذ أيامه الأولى فكان مولعا بالمناظرة والجدل شغوفا بالقراءة والتكرار صبورا على المطالعة والتحصيل. ولما بلغ الثانية عشرة من عمره أخذ يختلف إلى المحاظر في منطقته فسمع من خاله محمد بن عبيد الله الحسني أساسيات المتون المحظرية، خاصة تلك المتعلقة بالمبتدئين، ثم انتقل إلى محظرة الشيخ محمدو بن بنيامين، الذي أخذ عنه جزءا من مختصر خليل ولامية الأفعال، وطرفا من ألفية بن مالك، كما جلس إلى دروس عبد الله بن حمين، والمختار بن المعلى آخذا عنهما دواوين الشعراء الستة الجاهلين، والمقصور والممدود ليتصل بعد ذلك بمحظرة آل محمد سالم متلقيا عن شيخها عبد القادر بن محمد سالم الآجرومية، وأبوابا من الألفية مع توشيح المختار بن بونه لها، وطرته عليها، كما قرأ عليه منظومة بن عاشر، وبعضا من رسالة بن أبي زيد القيرواني وأبوابا من مختصر خليل. ليدرس العروض على خاله المتقدم، معتمدا في دراسته الطرق التطبيقية، القائمة على تكثيف المحفوظات الشعرية تنمية للسليقة ورغبة في تأسيس ملَكَةٍ إيقاعية وأذن موسيقية تميز بين المنكسر والمستقيم بشكل عفوي تلقائي، على نحو ما هو شائع عند الشناقطة.

أما علم الحديث فلم يعن به في بلده، لأنه من العلوم القليلة التداول في الساحة الشنقيطية وذلك ما عبر عنه بمرارة قائلا: "أما علم الحديث فإني لم أشتغل به في بلادي ولا دراية لي به، ولم أر من يشتغل به عندنا اشتغالا يذكر، وهو في الجملة من أضعف العلوم عندنا"([21]).

ولا تظهر سيرة الشيخ أن له مدرسة فقهية ينفرد بها عمن سواه في عصره بقدر ما كان مدرسا وواعظا مستنيرا، ووسطيا في نهجه منصرفا إلى الدعوة مستفيدا من أساتذة متعددين يؤلفون مدرسة إسلامية رصينة تتناول الفكر الإسلامي من أصوله، وقد تخرج منها بعلم صحيح وفكر شامل يعتمد آراء أكابر الأئمة والمفكرين([22]).

ولم نقف للرجل على مؤلفات سوى هذه المذكرات التي كتب عن سيرته الذاتية ورحلته العلمية، ولعل جانب الدعوة والإرشاد والتدريس والإلقاء أخذ على الرجل وقته فصرفه عن التأليف والتدوين.

المحور الثالث: الرحلة عرض وتقديم

لم يدون الشيخ محمد الأمين رحلته العلمية بشكل موسع وإنما اكتفى بتسجيل بعض المذكرات المتعلقة بسيرته الذاتية، فكانت نواة ومنطلقا للتعرف على الكثير من حياته. والجدير بالذكر أن هذه المذكرات كانت ضائعة حتى لقيت عناية من أحد الباحثين المعاصرين([23]).

وهذه المذكرات متوسطة الحجم تقع ضمن النسخة المحققة في أربع ومائة من الصفحات، وقد استفتحتها المؤلف في تواضع معرفي كبير مبينا بعض الدوافع التي دعته إلى تسطيرها مصرحا ما اكتنف تأليفها من التردد والتأمل وإعادة النظر في العواقب، يقول: «وبعد قد سألني الولد العزيز عبد الله بن عبد الرحمن البسام أن أكتب له ترجمة لنفسي فتوقفت في بدء الأمر لكوني لا أرى نفسي أهلا لأن أذكر على صفحات التاريخ فأمعنت النظر فظهر لي أنها غير ضارة بل نافعة لي وله، ولغيرنا»([24]).

وإثر ذلك يقدم عدة مسوغات تبرز أهمية تسجيل المذكرات وكتابة السير الذاتية، يقول: «إني كلما أجلت النظر في التواريخ أرى المتقدمين لا يحتقرون أحدا من أن يترجموه (...) فنجدهم يترجمون الأعراب الجفاة والحمقى والأغبياء والمجانين والمجان والطفيليين وغير ذلك من أصناف الناس، وبذلك حفظ ما حفظ من التاريخ والأنساب»([25]).

واعتمادا على هذه المسوغات صرح أنه سيقدم لنفسه تعريفا كاملا، يقول: «لهذا رأيت أن أكتب عن نفسي تعريفا فيه كفاية في الوقت الراهن لمن أحب الاطلاع على ذلك ولذريتي إن رزقني الله ذرية وإن كان دون الذي في خاطري بكثير»([26]). ثم يلتمس العذر من القارئ منبها إلى أنه بدأ رحلته في سن مبكرة من حياته، ولم يخطر بباله أن يقيد بعض الأمور التي تساعده على تسجيل هذه المذكرات، «فقد خرجت من وطني وأنا حديث السن، ولم تكن المسألة لي على بال، حتى أستعد وأقيد ما أخاف نسيانه، وليس معي الآن أحد أرجع إليه، في ما اشتبه علي ولا كتابا أقتبس منه والحفظ خوان»([27]).

ثم يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى أن يعصمه من الخطأ ويحفظه من الضلال، يقول: «والله أسأل أن يعصمني من أبطل حقا أو أحق باطلا»([28]).

وسنعرض لأبرز محطات هذه الرحلة حسب ما ورد في عدد من المراجع مركزين بشكل خاص على النسخة المحققة والمدروسة من هذه المذكرات.

المحطة المغربية:

لقد بدأ الرجل رحلته من بلاده سنة 1318هـ فاستقر رأيه على التوجه نحو المغرب، متوقفا ببعض مدنه الكبرى، كالصويرة وفاس ومراكش ورباط الفتح وطنجة. ويبدو أن رحلته كانت بقصد الاستزادة من العلم والإقامة بفاس عاصمة الثقافة العربية الإسلامية بالغرب الإسلامي يومئذ، غير أنه تعطل برباط الفتح سنة إذ أصيب هناك بمرض الجدري، فعاقه ذلك عن المسير وحمله على الإقامة والثواء. مصرحا أنه تأثر بذلك المناخ البارد المغاير لمناخ الصحراء. يقول: «وكنت أولا قاصدا فاس لأنها مدينة العلم في المغرب الأقصى، ثم بدا لي أن أحج، فأصبني الجدري في رمضان وأنا في رباط الفتح وتأخر برئي لبرودة الوقت والقطر فعاقني ذلك عن الحج تلك السنة»([29]).

وفي هذه المحطة المغربية يلتقي الرجل في مراكش بالشاعر المغربي الشاب النشني، ويحاوره في بعض المسائل الأدبية. وقد ودار بينهما لقاء شعري خلف ثلاثة أبيات أحدها للشاعر المغربي والآخر لهذا الشنقيطي، فقد كان الشاب النشني مقيما بمراكش فضاق بها ذرعا فسأل صديقه الحسني ملتمسا رأيه في الغربة فخاطبه قائلا([30]):

ما الرأي عندك في فتى تباعد عن
 

 

أوطانه لمكان ليس فيه فتى
 

 

فأجابه الحسني ببيتين أوضح ضمنهما رأيه المغري بالعودة إلى الأهل والوطن يقول([31]):

ما الرأي عندي له غير الرجوع إلى
 

 

بلاده وإلى من حيث كان أتى
 

ولا يكن لسوى الرجعى وإن ظفرت
 

 

يداه بالفوز بالمطلوب ملتفتا
 

 

وأثناء مرور هذا الشيخ بالمغرب اتصل بالشيخ ماء العينيين ومدحه بأبيات أوضح ضمنها عجزه عن استيفاء هذا الممدوح حقه من الثناء مؤكدا أن التعبير لا يسعفه حتى يكشف عما بقلبه من تقدير ذلك الشيخ، وعندئذ لاذ بالمبالغة مشيرا إلى أن أقدر الشعراء قد لا يجد إلى هذا الأمر سبيلا يقول([32]):

إني ثناني عن إطالتي الثنا
 

 

ومورثي عن مدحك التقصيرا
 

أني إذا حاولت مدحك لم أطق
 

 

عن بعض ما حاولته التعبيرا
 

يا من لو أن جريرا أصبح رائما
 

 

من مدحه المعشار فات جريرا

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122
جميع الحقوق محفوظة لـ وكالة الرائد © 2009-2024