العروبة كما أفهمها../ الدكتور : محمد ولد الراظي

2016-09-08 14:58:00

مثل وعد بلفور  الذي أوصي بوطن قومي لليهود علي أرضنا المقدسة في فلسطين وما لحق ذلك من موجات هجرة متتالية ومنسقة لشتات صهاينة العالم , الزر الضاغط لبعث الروح القومية واستجماع كل الموارد وعوامل القوة لتوحيد الأمة  في مواجهة هذا الكيان المراد زرعه في قلبها.

.

هذه كانت الحاضنة التاريخية للنشأة الأولي للفكر العروبي مع  وجود أسباب أخري  من إستعمار وتخلف وفرقة بل و ضياع  هوية وهي أسباب رغم وجاهتها وأهميتها كانت بحاجة لهذا التحدي الوجودي المستجد المتمثل في قرار القوي الإستعمارية زرع هذا الكيان الغريب في جسم الأمة من أجل أن ينتقل المزاج القومي من حالة  الوعي   السلبي لواقع  الأمة إلي  مرحلة الإيمان بوجوب الثورة عليه.

و بالرغم من أنه لم تسلم منطقة عربية علي امتداد جغرافيا الأمة من الإستعمار و آثاره من تخلف وسلب للموارد و الأعراض ودوس للكرامة وإمعان في المهانة و المذلة  إلا أن منطقة الشام حيث يراد للمشروع الصهيوني أن ينشأ انفردت بأن تنفست الفكر العروبي الوحدوي الثائربعناوينه المختلفة.

المغرب العربي مثلا عاش تحت نير استعمار فاق بطشه قدرة الخيال علي الوصف وشهد ثورة عالمية بكل المعاني والمقاييس لكن الهم عندنا في منكب الأمة الغربي ظل محليا لأننا لم نكن نواجه التحدي الوجودي الذي تمثله إسرائيل والحال كذلك بالنسبة لإخواننا في الجزيرة العربية.

وهذا ما يفسر السرعة التي انتشر بها هذا الفكر في الحاضنة الشامية ومن بعدها المشرقية بصفة عامة لأنها ببساطة هي  الأكثر تماسا مع القضية الفلسطينية في بعدها البشري و الجغرافي و بالتالي لن نبالغ إن قلنا إن الفكر العروبي في عصرنا الحديث هو ابن القضية  الفلسطينية التي ستظل بارومتر صدقية أي مشروع قومي مهما كان.

وقد ظل الفكر القومي يفيض ويبدع علي وقع اتساع الجرح العربي في فلسطين فكان قبل النكبة خطابا سياسيا ثوريا تبشر به نخب من أهل الثقافة و الأدب ويصدح به شباب الأمة وطلبتها  في النوادي والجامعات وأصبح بعدها أكثر جسارة ليفجر ثورات هنا وهناك ويتحول إلي طور الفعل لأن المواجهة أصبحت حتمية ولابد لها من كيانات داعمة....فكانت ثورة مصر وثورات العراق وسوريا و اليمن وليبيا والسودان.

وتميز الفكر القومي بقدر كبير من المرونة فكان طورا يظهر كما لو أنه بعيد كل البعد عن الإشتراكية يوم كانت هذه السمة توحي أكثر بالمرجعية الشيوعية ذات القوة الدافعة الكبيرة التي يمثلها المعسكر الإشتراكي ساعتها وطورا يخيل  للبعض - خطأ - أن العلمانية عنده تبعده عن الدين في حين أن كبار المفكرين القوميين أجمعوا بمسلميهم و مسيحييهم علي أن العروبة جسم روحه الإسلام.

كما أنه ظل دوما يراجع المنطلقات النظرية من خلال المؤتمرات القومية فيحيل بعضها للتقاعد ويجدد البعض الآخر ويأتي بما لم يكن موجودا حسب ما تمليه المرحلة  أو تأسيسا علي ما كان من إخفاقات الماضي وما استجد من تطورات محلية ودولية لا بد من التفاعل معها تفاعلا حيا ومؤثرا .

لما انهار الإتحاد السوفيتي أصبحت أمريكا سيدة العالم بلا منازع ردحا من الزمن وسارعت – وهي المدركة أن التوازن لا بد أن يعود لأنه ببساطة سنة كونية-  لتحييد العرب من المعادلة السياسية في العالم كي تنعم ربيبتها بالأمن والأمان فكانت حربها علي العراق الناهض القوي بعلمائه وموارده و ثورته ولما أتمت تدميره بدأت في مسلسل كارثي من تأليب هذا علي ذاك وذاك علي هذا لتقتل فينا الأمل بعد قتل البشر وتدمير البيوت  واقتلاع الشجر .

لم يكن الخطاب القومي موفقا هذه المرة في مواجهة المشروع المعادي – وقد يكون وقع الصدمة سببا في ذلك - فبدل أن يتعامل مع الظرف و إكراهاته ويتجاوز ما كان مضرا وهامشيا من الخلافات البينية نري الكثير من القوميين العرب انغمسوا في أدلجة الصراعات بين الأشقاء والتنظير لها لتصبح ثقافة متوارثة في مشروع يبدو أنه بدأ مختلا لأن مآلاته لم تكن مدروسة أبدا و أصبحنا كمن يفكر بلسانه بعيدا عن حساب السالب والموجب والسهل والصعب و ما هو ممكن و ما هو أقرب للإستحالة.

فالنظرية القومية ليست عنصرية  ولم تكن يوما إقصائية ولا يمكن أن تكون كذلك لأن الأمة العربية تكاد تكون الوحيدة من بين كل الأمم التي انصهرت فيها لغات وثقافات حية فزادتها قوة علي قوة وأعطتها دفعا قويا في كل المجالات ولا يقبل منها أن تكون إلا كما كانت أو أحسن منه.

أما أن تصل المرارة –وهي موجودة و عميقة جدا – بالبعض إلي أن يصبح موقفه السياسي مرتبطا بهذا الطرف أو ذاك حيث كان يكون هو في الطرف الآخر دون مراعاة لما قد ينتج جراء ذلك من مخاطر علي حاضر الأمة و مستقبلها فذلك موقف غير رشيد , فجميل جدا أن يكون بمقدور المرء أن يفعل ما يريد و لكن إن تعذر ذلك يكون حري به أن لا يستجير من الرمضاء  بالنار.

فهل - علي سبيل المثال - أدرك القوميون العرب ممن منعهم موقفهم السلبي من إيران - ولديهم ما يقولون كثير- من الوقوف ضد تمزيق سوريا العروبة أنهم يخاطرون بانهيار ما تبقي من قلاع الصمود العربي في وجه الكيان الغاصب؟!

وهل يعي القوميون العرب أن الإنتصار لفتح عباس أو دحلان ضد أبطال غزة  لا لسبب سوي أن الإقليم تحت سلطة  الإخوان المسلمين الذين كنا وإياهم يوما في مناكفات فكرية وسياسية , إنما يساعدون العدو أن ينعم بالأمن و الاستقرار في أرضنا المغتصبة؟!

وهل يعقل أن نختزل قضية بحجم القضية الفلسطينية في الموقف ممن يحكم في غزة  وهل أفرغنا كل شيء من معناه حتى أصبح الحزن الغزاوي اليومي خبرا عاديا في وجداننا لا يحرك ساكنا ولا يستحق مدادا لأن الذين يموتون هناك هم من الفسطاط الآخر؟ !.

وهل نعي أن هذه الحروب التي نخوضها ضد بعضنا البعض لم تأت علي أرواحنا فقط ودورنا وحقولنا وما بنته الأجيال من قبلنا ولم يقتصر ضررها علي تعطيل مشاريع التنمية في بلادنا وإنما أيضا وفرت إمكانات هائلة لتنمية العدو الغاصب كان أصلا سينفقها لمواجهتنا واليوم بعد أن أشغلنا في أنفسنا ولم يعد يشعر بمخاطر كبيرة منا سيوجه تلك الإمكانات  لتطوير التعليم والصحة ومحاربة البطالة وتطوير الصناعة والزراعة ؟! 

وهل يدرك الذين يشحذون همم الماضين في هذه الحروب أنها فور انتهائها - وستنتهي حتما - سنوجه ما تبقي من مواردنا لإعادة إعمار ما كنا بنيناه سابقا  ودمرناه لاحقا وستتجه هذه الموارد إلي خزائن الشركات الغربية أو الروسية  التي ستستحوذ علي عقود إعادة الإعمار؟!

وهل أدركوا أن تلك الحروب تؤثر جدا علي قدرة الدول التي تخوضها في  مواجهات محتملة مع من يرونه عدوا  وتعطل البرامج التنموية وتخلق الكثير من الأزمات الداخلية ؟ !

لا يجوز أبدا أن ننسي أو نتناسي أن نظامنا العربي الرسمي هو المسؤول الأول عن محنة العراق و ليبيا و سوريا و اليمن و أنه بتحييده لهذه القوي المحورية في الصراع العربي الإسرائيلي إنما يهدي انتصارا لإسرائيل من دون أن تطلق رصاصة واحدة أو تنفق دولارا واحدا و دون أن تسيل منها قطرة دم واحدة.

من يمكنه أن ينسي من أين كانت تنطلق الطائرات الأمريكية  وتزحف القوات الغازية لتنهي تجربة قومية فريدة من نوعها بنت الحضارة والإنسان والقوة والأمان وأعادت للإنسان العربي ثقته في القدرة علي رفع التحدي وتطهير الأرض من الغرباء؟! وهل فهمنا لماذا استهدف العراق أولا  وهل تساءلنا لماذا كان الذي كان ؟!

وهل سألنا أنفسنا أين الجماهيرية العربية الليبية و لماذا لم تعد وكيف حال الشعب الليبي بعدها ومن فعلها بنا هناك ومن طبل للعدوان و مول المعتدي وهلل لنزيف الدم المسلم ؟!

ومن فعلها بنا في اليمن السعيد حيث شلال دم يومي مستمر و دمار بالعشي و الإبكار من أجل إعادة شرعية هادي و أي شرعية تعدل هذا السيل من الدماء و هي أول ما يقضي فيه بين الناس يوم القيامة......

انهار كل شيء حتى  أصبحت فلسطين  شأنا فنزويليا و كوبيا أكثر منه عربيا  وانهار كل شيء حتى أصبح قتل العربي للعربي أمرا عاديا كأخبار المطر والرصد الجوي وسباق الخيول !  وانهار كل شئ  حتى وصل البعض إلي  درجة الحديث عن المفاضلة بين حزب الله وإسرائيل  ......  فلم يعد فينا رجل رشيد.

 هل يدرك القوميون العرب أن تأليب هذا الطرف علي ذاك وترديد الخطابات التفتيتية إنما يساعد في مجهود إطالة أمد هذه الحروب الطائشة بل والمجنونة ؟!.

أصبح الخطاب القومي العربي عند الكثير منا مشوشا إلي حد بعيد حتى اختلط المحلي بالقومي والمرحلي بالمبدئي وضاعت الكثير من الأركان الضابطة التي تحول دون سيطرة العواطف المنفعلة علي كيمياء الفكر والموقف والفعل.

ما معني أن نصف إيران بالفرس المجوس ؟ وما معني أن نختزل التشيع الإيراني في الدولة الصفوية ؟ وهل الصفوية فوق التشيع في هرم الصفات المراد إدانة إيران بها ؟ وهل نعلم متى ولماذا تشيع الصفو يون وهل نعلم أن إيران قبل ذلك كانت شافعية المذهب وماذا يعنينا  أصلا في سنيتهم وشيعيتهم؟!

أن نصف الإيرانيين بالفرس المجوس يعني أن نقبل منهم أن يصفونا بالعرب الجاهليين لأن الفرس أمة كما العرب أمة والمجوس ديانة زرادشتية قديمة جبها الإسلام أن هدي أهلها للدين الخاتم تماما كما هدي عتاة جاهلية قريش فانتقلوا من عبادة اللات والعزي ومناة إلي عبادة خالق الأكوان الواحد الأحد.

ولو تدبرنا قليلا فيما يمكن أ ن تفعله إيران في العراق باسم التشيع لوجدناه قليلا وعلي المدي البعيد يكاد يكون معدوما لأن الوطنية العراقية ظلت عبر التاريخ عصية علي التطويع كما أن شيعة العراق أثبتوا تشبثهم بالمرجعية التاريخية والروحية للنجف رغم محاولات إيران وإغراءاتها وترهيب ميليشياتها العاملة في العراق لتحويل قبلة التشيع شطر مدينة قم.

ولنا أن نعلم أن الصراع الحوزوي عند الشيعة أقوي بكثير من الخلافات المذهبية عند أهل السنة الذين تصل خلافاتهم درجة تكفير بعضهم بعضا فلا داعي إذن للتهويل من خطر إيراني مزعوم علي هوية العراق الوطنية والقومية وسيكون شيعة العراق العرب هم أول وأقوي من سيواجه محاولات طمس الهوية العربية للعراق كما كانوا في الماضي وكما أثبتت حرب الثماني سنوات.

أما في الأقطار العربية الأخري فلا أجد إطلاقا مبررا لهذا الخوف المفتعل من المد الإيراني في المنطقة العربية إلا إذا ظل العرب مشغولين في ملهاتهم المفضلة في قتل بعضهم بعضا فهناك سيحصل فراغ كبير وستملأه إيران أو تركيا  وقد يملأه من هو أخطر  من ذلك بكثير أمريكا و إسرائيل..

علينا إذن أن نرجع إلي فكرنا القومي العربي بعيدا عن المؤثرات الجمة التي تلاحقنا هنا وهناك لتوظيف مرارات كبيرة تركتها فينا حرب الثماني سنوات لخدمة مشروع بعيد كل البعد عن أهداف الأمة في الرقي و الإزدهار.

فعروبتنا عروبة جامعة  لأمة استوعبت غير العرب عطاء وثقافة وانصهرت فيها الأقوام من كل الملل و النحل يجد الكل فيها نفسه بدون تمييز ولا إقصاء.وهي ليست شعارا فارغا بل أهدافا إنسانية نبيلة وسلوكا قويما متصالحا مع المبادئ والأسس ..فلم يعد يهم   أن أكون بعثيا أو ناصريا بقدر ما  يهم أن أعيش في نفسي هم الأمة  كما كان عبد الناصر وكما كان صدام حسين .

نحن بحاجة لصقل الخطاب القومي لتعود العروبة كما كانت أول مرة جسما روحه الإسلام , الإسلام الجامع المتعدد المذ اهب والطوائف المستوعب للظاهرية والباطنية و لمن تصوف ولمن لم يفعل , الإسلام الذي جمع أبا حنيفة النعمان فارسيا كان أو نبطيا ومالك بن أنس  الحميري والشافعي  الهاشمي و أحمد بن حنبل  البكري  والبخاري و مسلم وطارق ويوسف و أهل السند و أهل الهند , وعاء المؤمنين الذين في تعاضدهم و تراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر و الحمي سواء كان عربيا أو عجميا من شرق الأرض أو من غربها من جنوبها أو من شمالها.

الحمد لله أن فشل الانقلاب الدموي في تركيا  فسلمت دولة إسلامية كبيرة من اقتتال داخلي كان سيؤدي بها إلي ما هو أخطر مما حصل لسوريا, والحمد لله أن فشل الانقلاب ليدرك إخوان تركيا أن الغرب لن يرضي طواعية  بتجربة إسلامية ناجحة مهما صور عكس ذلك والحمد لله أن فشل الإنقلاب ليري البعض أن ما كان بالأمس يصور في الإعلام أنه حرب شيعية سنية إنما هي لغة مصالح ما إن تتغير مفرداتها حتى تصبح من الماضي.

شكرا للأتراك وقواهم الحية أن أظهروا للعالم أن المسلمين قادرون علي حماية مكاسبهم والحمد لله أنهم  أدركوا  أن مصالحهم ليست في إذكاء الفتن الطائفية بين المسلمين والحمد لله أن بشائر نهاية  نزيف الدم العربي السوري  والدم المسلم علي الأرض السورية قد بدأت تلوح في الأفق.

نرجو أن يبادر النظام الرسمي العربي أو ما تبقي منه  ليلتحق بمحور دمشق أنقرة طهران  الآخذ في التشكل من أجل تأسيس قوة إسلامية قوية بتنوعها وبمواردها وموقعها وهي قوة لاغني عنها لتحرير فلسطين كاملة , قضية العرب المركزية , ساعتها سيكون الطريق سالكا لبناء دولة عربية موحدة وقوية.

يملك العرب من القوة ما يمكنهم من القيام بدور ريادي في هذا المحور الإقليمي الجديد الذي يبدو أنه قد يكون بداية لحلف من نوع آخر يكون المشرق ذراعه الغربية ويمتد إلي الصين شرقا ولا خوف علي العرب إلا من أنفسهم إن هم أدركوا مكامن القوة عندهم وصوبوا النصال نحو الهدف الصحيح.

وسيكون من الفطنة أن يشارك العرب في بناء هذا المحور وصياغة أهدافه وآليات عمله – وهم قادرون علي ذلك - بدل أن يحاولوا اللحاق به وقد انطلقت قاطرته الأولي فالتاريخ لا ينتظر من به كسل.

 

الدكتور : محمد ولد الراظي

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122