السماع والغناء بين التأييد والنقد عند علماء المسلمين عنوان محاضرة بالثقافي المغربي

2016-02-22 23:45:00

احتضن المركز الثقافي المغربي بنواكشوط، بالتعاون مع جمعية الصداقة الموريتانية المغربية، محاضرة بعنوان:  " السماع والغناء بين التأييد والنقد عند علماء المسلمين "،ألقاها الدكتور  محمد المهدي بوزيد .. وذلك مساء أمس الإثنين، بمقر المركز.

.



وقد حضر هذا النشاط الثقافي إلى جانب القائم بالأعمال فى السفارة المفربية السيد محمد بنموساتى جمع كبير من المثقفين والباحثين والمهتمين وجمهور من الطلبة والمواطنين.. وقد ألقى مدير المركز الثقافي المغربي الدكتور محمد القادري  كلمة، شكر خلالها الحاضرين وقدم الدكتور المحاضر قبل أن يحيل الكلمة إلى المحاضر الذى قدم عرضا شيقا ومتوازنا نال استحسان الجمهور وأشفع بنقاش مثمر .

نص المحاضرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع المحاضرة

السماع والغناء بين النقد والتأييد عند علماء الإسلام

السماع والغناء من خلال كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي.

أدلة ابن الجوزي من القرآن:

ـ {ومن الناس من يشتري لهو الحديث...}

ــ {... وأنتم سامدون}.

ــ {واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك}.

الأدلة من السنة:

ــ [حديث ابن عمر أنه أغلق أذنيه عند سماعه لزمارة راع...].

ابن حزم الأندلسي يرد جميع أحاديث الباب لضعف سندها.

القاضي ابن العربي يرى الإباحة المطلقة.

مناقشة حديث الإمام البخاري في المسألة.

رأي مدرسة التصوف في السماع والغناء:

ــ أبو حامد الغزالي.

ــ أبو الفضل المقدسي.

ــ أبو القاسم الجنيد:

ــ العز ابن عبد السلام.

خلاصة البحث.

بسم الله الرحمن الرحيم

السماع والغناء بين النقد والتأييد عند علماء الإسلام

الحمد لله المتجلي لقلوب أوليائه بكمال جماله وبهائه، فتنزهت في رياض ملكوته الأفكار. وأشهد أنه الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له تَولَّى أسرار أنبياءه وأصفياءه، فخاضت في بحار جبروته الأسرار.

وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله بدرة الوجود، ومطلع شمس السعود، الذي ببعثته انشقت الأسرار. وبوجوده انفلقت على وحدانية الله الأنوار؛ فلا يزيغ عنها بعد ذلك إلا هالك ومضار.

فاللهم صل وسلم على الحبيب محمد صلاة تليق بما له عند الله من عظيم جاه ومقدار. ورضي الله عن أصحابه الأبرار، وأهل بيته الأطهار.

أما بعــــــد:

إن مشكلة السماع محل خلاف رئيسي بين المدارس العلمية المختلفة سواء في باب الأحكام الشرعية أو عند رجال التصوف.

فمن الجانب الفقهي هناك تضارب كبير بين السادة العلماء في القبول والكراهة والرفض. فقد جاء الإمام عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي في كتابه المشهور (تلبيس إبليس) بكلام كثير عن الغناء والسماع محاولا الوصول إلى تحريم ذلك؛ فبدأ برواية مذاهب الأئمة الأربع وآرائهم في الموضوع. ثم حاول استنباط ذلك من القرآن الكريم مستندا إلى ثلاث آيات؛ ومن السنة النبوية إلى أحاديث كثيرة. إلا أنه ـ رحمه الله ـ في نقله لآراء المذاهب الأربع لم نلمس حكما بالتحريم أو الكراهة الأصولية وإنما توقف الحكم على رأي الإمام أو أتباعه. فيقول باختصار:

أما مذهب الإمام أحمد رحمه الله.... أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني.

أما مذهب مالك بن أنس رحمه الله.... عن إسحاق بن عيسى الطباع قال سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء. فقال: إنما يفعله الفساق.

وأما مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه.... عن أبي الطيب الطبري قال كان أبو حنيفة يكره الغناء مع إباحته شرب النبيذ ويجعل سماع الغناء من الذنوب.

أما مذهب الشافعي رحمة الله عليه.... حدثنا محمد بن عبد العزيز الحروري قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول خلفت بالعراق شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغيير يشغلون به الناس عن القرآن. وكلام الإمام الشافعي رحمه الله هذا لا يوضح فيه أي شيء يقصد؟

والملاحظ في ذلك أنها مجرد أراء للسادة الأئمة بدون حكم قطعي، وبدون استناد إلى نص قرآني أو حديثي، ولا يمكن بأي حال أن نقول قد غابت عنهم النصوص بكاملهم.

 

 

أدلة ابن الجوزي من القرآن الكريم:

ومن الجانب القرآني فقد استدل ابن الجوزي على كراهية الغناء بثلاث آيات: الأولى: قوله عز وجل: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (لقمان 6)فقد جاء بحديث مروي عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود قال: ((هو والله الغناء))وقال ابن عباس ((هو الغناء وأشباهه)).

الآية الثانية: قوله عز وجل: {أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون}.(س. النجم 61).

فعن ابن عباس قال {وأنتم سامدون} قال هو الغناء بالحميرية، سمد لنا أي غنى لنا. وقال مجاهد هو الغناء. يقول أهل اليمن سمد فلان إذا غنى.

الآية الثالثة: قوله عز وجل: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك} (الإسراء 64).عن مجاهد: ((واستفزز من استطعت منهم بصوتك)) قال هو الغناء والمزامير.

الأدلة من السنة والتعليق عليها:

وفي جانب السنة فقد استدل ابن الجوزي بأحاديث كثيرة سيأتي الكلام عنها بعد حين؛ وعلى رأسها: ((عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه. أنه سمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق، وهو يقول يا نافع أتسمع، أقول نعم فيمضي حتى قلت لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا)).

وهذا الحديث فيه مسالتان منتبه إليها: المسألة الأولى كون ابن عمر رضي الله عنه أغلق أذنيه ولم يأمر نافع بذلك بل ظل يسأله إن وقف الصوت أم لا، فلو كان منهى عنه ما كان ينبغي للصحابي الجليل أن يتركه يسمع بل ينبغي أن يمنعه.

 والمسألة الثانية هي أكبر من الأولى وهي قول ابن عمر رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا. أي وضع أصبعيه في أذنيه وهو يقول لابن عمر أتسمع حتى إذا انتهى الصوت أزال أصبعيه من أذنيه.

إن ابن تيمية قد علق على هذا في (الفتاوى ج 11 ص 567) بقوله: (من الناس من يقول إن الرسول لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه فيجاب بأنه كان صغيرا أو يجاب بأنه لم يكن يستمع بل كان يسمع، وهذا لا إثم فيه). فلعل هذا هو ما يقال عنه في المثل (العذر أقبح من الزلة) وذلك لأن ابن عمر حين اعتنق الإسلام كان في عمره ثلاث عشرة سنة، أي لم يكن صغيرا لأن هذا السن يكون فيه الشاب عندهم بالغا مكلفا. والأخرى فإن كان الأمر محظورا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بإغلاق أذنيه وإنما كان سيأمر وينهى. وما دام الأمر مشاعا ومعروفا وهو حرام فكان لابد أن يصدر فيه حكما قطعيا من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فلنحذر فقد نمسه صلى الله عليه وسلم بالتقصير، وحشا وكلا. فقد أدى صلى الله عليه وسلم الأمانة وبلغ الرسالة وترك الناس على الهدى والاستقامة.     

على كل حال فابن الجوزي رحمه الله من خلال كتابه (تلبيس إبليس) قد لخص المواقف المختلفة من الغناء وهو يقول: ((تكلم الناس في الغناء فأطالوا، فمنهم من حرمه، ومنهم من أباحه من غير كراهة، ومنهم من كرهه مع الإباحة)). مع العلم أنه يرى تحريم الغناء بكل أنواعه ويستدل على ذلك كما سبق القول بثلاث آيات وأحاديث كثيرة، كلها ردها الإمام الظاهري (ابن حزم الأندلسي) رحمه الله بعلة من خلال (رسالة في الغناء الملهي) وهو يرى أن الغناء حلالا بكل أنواعه ومراحله.

رأي القاضي أبوبكر ابن العربي في المسألة:

وأَخْتَصِرُ هذا الكلامَ من عند الإمام الفقيه القاضي أبي بكر بن العربي المعافري من خلال كتاب (أحكام القرآن) وهو يشرح قول الله تعالى في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهِوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُؤاً أولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}. فقال رحمه الله: فيها ثلاث مسائل:

ـ المسالة الأولى: (تعريف لَهْوَ الحديث):

(التعريف الأول): هو الغناء وما اتصل به. فروى الترمذي والطبري وغيرهما عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، ولا التجارة فيهن، ولا أثمانهن؛ وفيهن أنزل الله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم....} الآية.

وروى عبد الله بن المبارك عن مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من جلس إلى قَيْنَةٍ يسمع منها صُبَّ في أذنيه الآنك يوم القيامة.

وروى ابن وهب عن مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر أن الله يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أدخلوهم في رياض المسك. ثم يقول للملائكة: أسمعوهم حمدي وشكري، وثنائي عليهم، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ومن رواية مكحول، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه.

(التعريف الثاني للهو الحديث): أنه الباطل.

(التعريف الثالث) أنه الطبل؛ قاله الطبري.

ـ المسألة الثانية: في سبب نزولها: وفيه قولان:

أحدهما: ـ أنها نزلت في النضر بن الحارث، كان يجلس بمكة، فإذا قالت قريش: إن محمدا قال كذا وكذا ضحك منه، وحدثهم بأحاديثِ ملوك الفرس، ويقول: حديثي هذا أحسن من قرآن محمد.

الثاني: ـ أنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية، فشغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم.

ـ المسألة الثالثة: هذه الأحاديث التي أوردناها لا يصح منها شيء بحال، لعدم ثقة ناقليها إلى من ذكر من الأعيان فيها.

وأصح ما فيه قول من قال: إنه الباطل (يعني لهو الحديث المذكور في الآية) فأما قول الطبري: إنه الطبل فهو على قسمين: طبل حرب، وطبل لهو؛ فأما طبل الحرب فلا حرج فيه؛ لأنه يقيم النفوس، ويرهب على العدو. وأما طبل اللهو فهو كالدف. وكذلك آلات اللهو المشهورة للنكاح بجواز استعمالها فيه، لما يحسن من الكلام، ويسلم من الرفث.

وأما سماع القَيْنَات فقد بينا أنه يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته، إذ لا شيء منها عليه حراما، لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ ولم يجز الدف في العرس لعينه، وإنما جاز لأنه يشهره، فكل ما أشهره جاز.

وقد بينا جواز المزمار في العرس بما تقدم من قول أبي بكر: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنه يوم عيد.

 ولكن لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار، ولا سماع الرفث، فإذا خرج ذلك إلى ما لا يجوز منع من أوله، واجتُنب من أصله. (انتهى كلام القاضي ابن العربي؛ أحكام القرآن ج3 سورة لقمان أ6).

حديث الإمام البخاري في المسألة:        

وبعد كل هذا يصبح أمامنا حديث الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الأشربة: عن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:[ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف].

هذا الحديث قال فيه الإمام بن حزم أن الإمام البخاري لم يأت به مسندا.

وقد انتقد ابن قيم الجوزية موقف ابن حزم هذا من خلال كتابه (روضة المحبين) فقال: ((وخفي عليه أن البخاري لقي من علقه عنه وسمع منه وهو هشام بن عمار، وخفي عليه أن الحديث قد أسنده غير واحد من أئمة الحديث غير هشام بن عمار، فأبطل سنة صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مطعن فيها بوجه)).

كما أن الحافظ ابن حجر العسقلاني من خلال كتابه (فتح الباري ج 10 ص51) قد رد على ابن حزم؛ مدافعا أولا على معلقات الإمام البخاري بأنها صحيحة ولا غبار عليها، ودافع ثانيا وبشدة على الحديث المذكور ووصل سنده، وقد استشهد الحافظ ابن حجر بروايات أخرى متصلة على رأسها رواية الإمام أبي داود إلا أن لفظ هذا الحديث عند هذا الأخير كما يقول ابن حجر: [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر] ولم يذكر فيه [المعازف].

 فهذا كلام أهل العلم من الفقهاء فيما اختلفوا فيه في باب السماع والغناء من حيث أهو حلال أم حرام، أم مكروه؟ وتبين أن السبل المؤدية للمسألة جميعها اجتهادية، فيها أخذ ورد.

رأي مدرسة التصوف في المسألة:

  إلا ان أهل مدرسة التصوف والسلوك فلهم رأي آخر في الموضوع، ولربما كانوا يعتبرونه أشهر تعبير عن الحياة الصوفية.

وإنَّ كتب الصوفية لتمتلئ بالحوارات التي تتساءل عن جواز السماع من عدمه، وتختلف النتيجة حسب موقف الصوفي أو الطريقة أيضا. ولم يجهلوا أو يتجاهلوا أبدا أراء الفقهاء في الموضوع.

أبو حامد الغزالي والسماع:

 ففي كتاب (مكاشفة القلوب) يسرد ابو حامد الغزالي رحمه الله في الباب الثامن والتسعين؛ في بيان السماع أَوَّلاً ما جاء من كلام عن الأئمة الأربع نقلا عن القاضي أبي الطيب الطبري؛ وهو ما ذكر سابقا؛ ثم بعد ذلك قال: ((ونقل أبو طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وغيرهم.

وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان قال: ولم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق؛ ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يُسمعن الناس التلحينَ قد أعدهن لذلك...).

ومن خلال كتاب (إحياء علوم الدين) يقول إمام العارفين أبو حامد الغزالي: ((اعلم أن السماع قد اختلف الناس فيه، فمنهم من حرمه، ومنهم من أباحه، ونحن نبين حقيقة السماع وإباحته، فنقول: السماع هو استماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب، وليس في جملة ذلك إلا التذاذ حاسة السمع والقلب، فهو كالتذاذ حاسة النظر إلى الخضرة والتذاذ القلب به، وقد قال الله تعالى: {يَزِيدُ في الخَلْقِ ما يشاء} (فاطر 1) فسَّروهُ بالصوت الحسن. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري: [لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود]. أي صوتا حسنا مطربا.

وفي الحديث: [ما بعث الله نبيا إلا وهو حسن الصوت] (النسائي).

 ولا يمكن القول: أن الصوت الحسن مباح وخاص بكتاب الله وتلاوته فقط. فإن سماع صوت العندليب هو الآخر مباح دون أن يتعلق الأمر بتلاوة كتاب الله.

 فإذا كان استماع الصوت الطيب مباحا، فبأن يكون موزونا فلا يمكن أن يحرم.

 وإذا كانت أصوات العنادل موزونة نوعا من الوزن، لها مقاطع ومبادئ متناسبة، تروق بجمالها السامع. فكيف يمنع أن يكون خروج هذا الصوت الطيب من آدمي يطرب ويروق السماع، ولعل هذا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع لأبي موسى الأشعري حتى قال له [لقد أوتيت مزمارا من مزامير داود]. أي صوتا حسنا مطربا.

كما ينبغي أن يقاس على أصوات الطيور ما يخرج من الأجسام كالطبل والقضيب والدُّن، والقصب، فلا يستثنى من جملتها إلا ما ورد النص في تحريمه، ولم يرد في ذلك نص. (مستفاد من كلام الغزالي في فصل السماع بكتاب الإحياء).

وفي الفصل الثاني من الباب يقول أبو حامد الغزالي:

"" نقول إن لله سرًّا في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح فيؤثر فيها تأثيرا غريبًا فيورثها الحزن مرة، والفرح أخرى، والبكاء مرة، والفرح أخرى. ويوجب حركات في الأعضاء عجيبة غريبة، لا تظن أن ذلك لفهم المعنى فحسب، فإن ذلك مشاهد في الحيوانات خصوصا في الإبل، ومشاهد في الطفل الذي لم يتكلم ولا يفهم. ومشاهد في أصوات الأوتار التي لا تفهم. وعلى الخصوص في الإبل، فإنه كلما طالت عليها البراري وأعيت تحت المحامل فسمعت الحُداء (وهو سوق الإبل والغناء لها) مدت أعناقها وطوت المراحل.... فإذا للسماع تأثير غريب ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، وكان الطير يقف على رأس دَوُد عليه السلام لاستماع صوته.

قال أبو سليمان (هو عبد الرحمن بن أحمد، وقيل عبد الرحمن بن عطية): السماع لا يحصل في القلب ما ليس فيه، ولكن يحرك ما هو فيه، فيكره أصوات النياحة؛ لأنه يحرك ما هو مذموم وهو التأسف على الفائت، قال تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} (الحديد 23). وقد ورد فيه أخبار كثيرة. ولا يكره السماع عند العرس والوليمة والعقيقة وغيرها فإن فيها تحريك لزيادة سرور مباح أو مندوب، ويدل عليه ما روي من إنشاد النساء بالدف والألحان عند قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهو:

(طلع البدر علينا من ثانيات الوداع         وجب الشكر علينا ما دعا لله داع).

ويدل عليه ما روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عنه صلى الله عليه وسلم قالت: [رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه].ويدل عليه ما روى مسلم والبخاري أيضا في صحيحيهما من حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منًى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متغش بثوبه، فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه فكشف النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه فقال: [دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد]. وفي حديث آخر نحوه وفيه: [يغنيان ويضربان]. فهذه الأمور دلت قطعا على إباحة السماع. ودلت على إباحة صوت النساء إذا لم يكن بحيث يخاف الفتنة.

وعلى الجملة فالسماع مهيج لما في القلب، فإن كان في قلبه عشق مباح فتهييجه مباح. وإن كان حراما فتهييجه غير جائز فيه. هذا في سماع أهل الغفلة.

أما سماع أرباب القلوب الذين اشتهروا بحب الله تعالى، والشوق إليه، وهم الذين لا ينظرون إلى شيء إلا ويرونه فيه. ولا يقرع سمعهم شيء إلا سمعوا منه أو فيه. فسماعهم مولد للحب، والعشق مهيج للشوق، ومستخرج لضروب من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها. يعرفها مَنْ ذاقها، وينكرها مَنْ كَلَّ حِسُّهُ عن دركها. ويسمى في لسان الصوفية وَجْدًا. وما يزيد في حب الله تعالى والشوق إليه، إِنْ لَمْ يُعَد مِنَ الفرائض فلا أقل من أن يكون من المباحات. كيف وهو مثير لما استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: [اللهم ارزقني حبك، وحب من يقربني إلى حبك]. (الترمذي).

فاعلم الآن أن السماع محرك للباطن، فمن الناس من قويت مِنَّتُه وكمل أمره فلا يحتاج إلى محرك من خارج. "" (انتهى الفصل الثاني في الباب عند الإمام الغزالي).

أبو الفضل المقدسي والسماع:

ويوافق (أبو الفضل المقدسي المتوفى في 507 هـ / 1113 م) الإمام الغزالي في رأيه بل ويشدد في جعل السماع والغناء من الطيبات التي لا يجوز لأحد تحريمها مادام لم يحرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة وهم وحدهم الذين أعطي لهم حق التشريع.

وقد استدل على إباحة الغناء والسماع بآيات قرآنية وأحاديث نبوية؛ قد ذكرت في نفس البحث فلا داع لإعادتها تفاديا للتكرار والتطويل.

ثم روى عن بعض الأئمة سماعهم للغناء من أمثال الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما من أصحابهما.

فقد روى المقدسي بسنده إلى المريسي قال: مررنا مع الشافعي وإبراهيم بن إسماعيل على دار قوم وجارية تغنيهم. فقال الشافعي ميلوا بنا نسمع، فلما فرغت، قال الشافعي لإبراهيم: أيطربك هذا؟ قال: لا، قال: فما لك حس.

وفي رواية أسندها إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت أدعوا ابن الخباز وكان أبي ينهانا عن الغناء، وكنت إذا كان عندي كتمته عن أبي لئلا يسمع، فكان ذات ليلة عندي وهو يقول (أي يغني). فَعَرَضَتْ لأبي عندنا حاجة وكانوا في زقاق، فجاء وسمعه يقول؛ فوقع في سمعه شيء من قوله، فخرجت لأنظر فإذا بأبي يترنح ذاهبا وجائيا، فرددت الباب ودخلت، فلما كان من الغد قال أبي: يا بني، إذا كان مثل هذا فنعم الكلام.

وقال المقدسي: (وابن الخباز هذا هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يحيى بن زكريا الشاعر، وقد عاصر الإمام أحمد ورثاه حين مات).

فالمقدسي (ت 507 هـ) قد أباح السماع على الإطلاق، بل كان يعتبر الغناء والسماع أمرا مرغوبا فيه دينيا أو مأمورا به لا يسع المسلم تركه، بل يدخل ضمن إتباع السنة. فوافق بذلك غيره من الفقهاء والأدباء الذين أباحوه في عصره، من بينهم الإمام الغزالي (ت 505 هـ) الذي وافقه في كثير من آراءه في الباب رغم أنه عاصره ولم يلتق به.

وهذه الآراء لا تختلف عما جمعه سلطان العلماء (العز بن عبد السلام: ولد 599 هـ، وتوفي 660 هـ) في كتابه (زبد خلاصة التصوف) وهو يقول: ((واعلم أنه تحتم هاهنا ذكر السماع وما هو منه محظور وما هو مباح وما هو مستحب مستحسن، فإن كثيرا من المتعمقين والمتقشفين كرهوه وأنكروه أصلا وفرعا وحقيقة وشرعا، وهذا غلط منهم لأن ذلك يفضي إلى تخطئة كثير من أولياء الله وتفسيق كثير من العلماء إذ لا خلاف أنهم سمعوا الغناء وتواجدوا وأفضى إلى الصراخ والغشية والصعق، فكيف ينسب إليهم نقص وهم سالكون أتم الأحوال، وإنما يحتاج ذلك إلى تفصيل ونظر في أهل السماع واختلاف طبقاتهم، فمن صح فهمه وحسن قصده، وصقلت الرياضة مرآة قلبه، وحلت نسمات العزيمة فضاء سره، وصفا مِنْ تصاعد أكدار أرض طبعه وبخار بشريته وخيالات مقابلة وساوسه، وعَـرَى عن حظوظ الشهوات، وتطهر عن دنس الشبهات؛ فلا تقل: إن سماعه حرام وفعله ذلك خطأ. قال أبو طالب المكي فقد طَعَنَّا على سبعين صديقا.

وسئل الشبلي عن السماع فقال: ظاهره فتنة وباطنه عبرة، فمن عرف الإشارة حل له السماع وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية، ومعلوم أن السماع مهيج ما في القلوب محرك لما فيها فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى صافية من كدر الشهوات محترقة بحب الله سبحانه وتعالى ليس فيها سوى الله، فالشوق والهيجان والقلق والوجد والصيحان كامن في قلوبهم ككمون النار في الزناد فلا يظهر إلا بمصادمة ما يشاكلها، فمراد القوم فيما يسمعونه إنما هو مصادف ما في قلوبهم فتستنيره بصدمة طروقه وقوة سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عند اصطلامه، فتنبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصَّعقَات لثورانها في القلوب لا لأنه ي

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122