جماليات التصوير في الشعر الحساني (لغنَ) / عبدالله بن بوبوه

2015-04-29 17:53:00

من خلال هذه المقاربة النقدية والتحليلية سنحاول تسليط الضوء على مجموعة من النصوص الشعرية الحسانية القديمة واستنطاقها والغوص في أعماقها وإجبارها على التبرج الإبراز محاسنها وجمالياتها الكامنة خلف الصورة البارزة ؛ ذلك أن الشعر الحساني عموما - كما هو حال الشعر الفصيح - يعتبر مجموعة

.

من اللقطات أو المقاطع الصورية ؛ تصور أو تصف مشهدا أو حادثا ينطبع في ذهن الشاعر واستطاع - حسب قدرته- أن يحوله إلى لوحة فنية وأدبية جميلة تترك أثرا قويا على القارئ أو المتلقي بعض النظر عن مستوى ذلك المتلقي ، بل إن الشاعر القوي والمقتدر هو الذي يستطيع بحسن تصويره وإحكام صنعته أن يؤثر تأثيرا بالغا على كل متلق ، حتى يعيش معه جميع تفاصيل المشهد المصور، و يشاركه في الإطباع والأحاسيس اتجاه تلك اللحظة وذلك المشهد .
ذلك ما لاحظناه من خلال دراستنا واستقرائنا لكثير من النصوص الشعرية ((الحسانية )).
والأدوات المستخدمة في تلك العملية التصويرية عادة ما تكون "طلعة" أو "كاف" .
والطلعة : هي مقطع شعري يتكون من ستة مصاريع ( تفلواتن ) على الأقل ولا حدود لأكثرها
أما الكاف : فهو أقل وحدة شعرية في الشعر الحساني إذ يتكون من أربعة مصاريع ( تفلواتن ) على الأقل ولا حدود لأكثره فإذا طال سمي (كرزة)
وكثير من الشعر الحساني يعتمد في جماله وحسنه على التصوير والإنطباع , بل إن مكمن الجمال فيه قدرة صاحبه على إلتقاط صورة ما لمشهد مر على الشاعر في لحظة معينة لكنه بقي عالقا في ذهنه واستطاع أن يحوله بريشته التصويرية وأسلوبه الأدبي إلى صورة فنية وأدبية رائعة , يستطيع المتلقي أن يتخيلها أو يعتبرها واقعا معاشا مثل قول المغن :
طاحت عيش   **   منت المختار
فوك أحشيش  ** من فوك أحمار
ومثل قول محمد ولد ابن :
وانترت اله هي تظحك ** وان مالاه نستحف
الملحف من هك أو هك ** لين أترخات الملحف
وقول ول سعيد ول عبد الجليل  :
أمنادم مشاف التنشاف **  أعل منت البار أعل نار
أتنشف خلته مشاف **  التنشاف أعل منت البار
وغيره كثير .........
غير أن الشعر الحساني دائما يحاول إبقاء جانب من الصورة الشعرية مخفيا لا تمكن رؤيته بالعين المجردة ، بل لابد من تفكيك النص الشعري وقراءة ما بين سطورة قراءة لغوية ولالية ، وتفكيكه وإعادة تركيبه بصورة جديدية تكشف المستورة وتبرز ( المسكوت عنه ) في النص ، وهذا الجانب المخفي من الصورة هو سر جمال هذه النصوص ومكمن روعتها وحسنها ، ولكن إبرازه يحتاج إلى قارئ متيقظ وذي حس أدبي مرهف ولديه قدرة لا بأس بها على الاستنطاق والاستنباط , وأنا - بطبيعة الحال - لست هذا ولا ذاك ولكن حسبي - وهو جهدي – أن أستطيع إيصال ما مسني وأحسست به من جمال هذه النصوص لغيري من المتلقين وأصحاب الذائقة الأدبية الرفيعة وسأبدأ مع هذه النص :
يامس يغل غيد التشهار اتفشولت انتوم حظار
خظت امن أحذاكم لصفرار شفتك شوف بادت بي
واثري بي كثرت لخبار اغمزتك غمزي حي
وافطنل صيدك فات اشكار وجه واحمار عيني
واهنيت اعل ذاك التطوار واتهم عنه حال فـــــي
أعت ألا كد امنين افيم انشوف ، خوف المشلي
انرمش عيني وانتـــم غمــزي تعكب غمزي
هذا النص الشعري الحساني المكون من "طلعة" مكونة من عشر ( تيفلواتن ) و"كاف" يتألف من أربع ( تيفلواتن ) مع أننا لا نعرف قائله ولا الظروف التي قيل فيها سنحاول تحليله وتسليط الضوء عليه لإبراز بعض الجوانب المسكوت عنها هنا .
فالنص بدأ بكلمة (( يامس )) وهي ظرف زماني محدد لليوم ، بل الوقت الذي تشكلت فيه الصورة التي يريد الشاعر رسمها أو التقاطها وإبرازها من خلال هذا النص ، كما أن (( يامس )) لها دلالة أخري هي أن الشاعر قد أرتجل نصه أو أقترب من الإرتجال ، لقصر الفترة الزمنية الفاصلة بين التجربة والتعبير عنها يدل كذلك على أن الشاعر حريص على وضع المتلقي أمام الحدث أو الصورة بعيد تشكلها بساعات قليلة .
وهذا يمكن تسميته – إن صح التعبير – بالسبق الأدبي.
وبعد الكلمة الأولى في النصوص نلاحظ أن الشاعر بدأ مباشرة في مخاطبة محبوبته بنداء يحمل ما يستطيع حمله من مدلولات ، ومعاني التفضيل ((يغل)) الدالة على المفاضلة إذا أن كلمة (( يغل)) في قاموس الشعراء الحسانيين من العشاق توحى بأفضلية المحبوبة على غيرها من (( غيد الشهار)) وهذا شيء طبيعي أن يفضل الحبيب محبوبته على غيرها من النساء ، مما يمنحها كبرياء تستطيع بسببه التمنع والمماطعة أكثر، وهذا صفات قد تكون منصوبة على المدح أحيانا عند المرأة لا غير.
ونمضي مع الشاعر في سرد عناصر الحدث المكون للصورة عموما حيث يقول :
(( اتفشولت أنتوم حظار ))


وهذا التعبير في غاية الدقة عن حالة الإنهيار التي أصابت الشاعر (( واتفشويل )) عبارة عن حالة نفسية أو إنهيار عصبي يصيب الإنسان عادة إذا وقع في محظور ما، خاصة أمام أصهاره أو أهل محبوبته ولا شك أن الشاعر بين لنا سبب هذا (( اتفشويل )) حيث قال :
(( خظت من احذاكم لصفرار شفتك شوف بادت بي
وأثر بي كثرت لخبار أغمزنك غمزي حي
فهذه "الغمزي" الحيه كما وصفها الشاعر هي السبت المباشر لما أصاب الشاعر من إنهيار ونصرف غير مرتب بل إن الشاعر على ما يبدو فعل هذه الغمزي بغير وعي منه، بل غير مدرك لخطورتها بدليل قوله (( وأثري بي كثرت لخيار ))

والغريب في الأمر أن الشاعر بعد أن عاد إليه وعيه وتركيزه، أدرك بأن هذا التصرف الذي قام به تصرف جنوبي ومجازفة لا يمكن صدورها عن عاقل مدرك لما سيفعله ، وأعترف بأن هذا التصرف الطائش ناتج عن "كثرة الأخبار" لكن هذه العبارة جاء بها الشاعر ليعبر بها عن درجة عالية من الحب عبر عنها بكثرة الأخبار بدليل أنه بسبب ولوعه الشديد بمحبوبته لم يستطيع أن يتمالك نفسه عندما رآها حتى ولو كانت بين أهلها أو بحضرة زوجها (( أنتوم حظار ))، بل لم يعبأ بكل ذلك وتصرف هذا التصرف الذي أوقعه في محظور - ولم يستطيع لسوء حظه – أن يخفيه عن زوج محبوبته الذي فطن للحالة التي أصابت الشاعر :


(( وافطنل صيدك فات اشكار--  وجه واحمار عيني))


والتي بدت واضحة في ملامح وجهه ونظرات عينيه وانصب كل اهتمامه في إزالة الوهم والشك الذي خالج الزوج بإيهامه أن تلك الحالة صفة ثابتة فيه، وأنه تصرف طبيعي وسلوك إعتيادي لا هدف له من ورائه، ولذلك ثبت على تلك الحالة من تكرار ((الغمزي)) وتتابع رموش العينين حتى أوهم (( الصيد )) أنها حالة ثابتة ، وصفه قارة من صفاته اللازمة له حيث يقول :


((واهنيت اعل ذاك التطوار--  واتهم عنه حال في ))


فقد استطاع الشاعر لسرعة بديهته وقدرته على الارتجال أن يرتجل هذا المخرج الذي أنقذه من المأزق الصعب ، وإن كان المخرج أشد صعوبة من المأزق نفسه.
غير أنه من الواضح جدا أن الشاعر وزوج المغزل عليها ( محبوبة الشاعر ) لا تربطها معرفة سابقة إذ لو كانت هناك معرفة سابقة لما استطاع الشاعر الخروج من هذا المأزق ، ولما حاول أن يوهم الزوج أن هذه الصفات ثابتة ، وتابع تكرارها لتأكيد ذلك، وإن كان المخرج الذي أرتجله الشاعر صعبا ومتعبا؛ حيث أنه سيظل يفتعل "غمزية" بعد أخري بتصنع ، حتى يفارق عيني الزوج ، وهذا - لعمري ـ متعب ومضحك في الآن ذاته ، ولكن ليس له بد من ذلك .
هذا النص الشعري إذا استطاع الشاعر من خلاله التقاط صورة مفصلة لأدق تفاصيل الحدث الذي مربه ، وقد حاولنا فى هذه العجالة أن نبين بعص الجوانب المسكوت عنها في هذا النص وإبراز بعض الجوانب الجمالية والفنية فيه ، ولكن تبقى لكل شخص قراءاته وانطباعاته الشخصية حول كل نص أدبي مما يجعل هذه المحاولة مجرد أو انطباع .

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122