عندما يثار هذا الإشكال في عنوان المقال، فمن منطلق خلفية" التحيز" المؤسس على الدعوة للرجوع إلى الأصول، والبحث عن الهوية المجتمعية الاخلاقية، والدينية فيما هو وطني، وقومي، والضرورة للدو المؤمل، والتأكيد عليه ، رغم تغييبه في مجال العمل السياسي طيلة فترة الاستقلال الوطني، ونحن نحيي ذكراه الرابعة، والستين..
فالانتماء " التحيز" لا يقدح اظهاره في الرؤية الواضحة، بل العكس هو الصحيح في استخفائه، ذلك أن المطالب، كالحقوق من ضمنها، تأصيلها للواجبات، باعتبار وحدة مرجعياتها في الوعي، والمكثفات في التراث، المبثوثة في مشاهد السلوك، والاجتماع، والثقافة، والسياسة العملية، ونحن في هذا المجال نستند إلى حضور الوعي الجمعي، وموقف المجتمع من السلوك السياسي منذ نشأة النظام الحديث في بلادنا، والمحاولات الأولية التي تواضع عليها السلوك الذرائعي للمحتل الفرنسي قبيل الاستقلال الوطني،،كسياسة المكوس، والطرق التي اتبعت في استدراج "نماذج "من المجتمع، واتخاذها أدوات تنفيذية، بعد استهدافها افرادا، وترعيبهم داخل السجون احيانا، وترغيبهم " رموزا" قبلية لتعزيز"المكانة الاجتماعية"، وبهذا الأسلوب، كان الاحتلال الفرنسي، يفرز قيادات - معظمها نكرة - جديدة للمجتمع، كما أرادهم، لا كما كانوا يشكلون قمما شامخة بشمائلهم في الأخلاق العامة بالنظر إلى مظاهر القيم في السلوك المعياري، كمؤشر " التقوى" الذي غيب حين، كان يتم الكشف عن الممتلكات الشخصية من طرف " شيخ القبيلة" الذي آثر مصالح المحتل على حقوق المواطن المستلبة في الجباية " العشر" التي فرضها المحتل على صاحب الشاة، والبقرة، والناقة، وجامع الصمع العربي، وأخذت تلك الجبايات طريقها لتأسيس واحدة من مصادر النظام المالي تاليا، كرسوم "مشرعنة" - دون أن تكون كذلك قيميا، او تشريعا لمجتمعنا - بمعنى أن المكوس كانت مفروضة الى حد الآن على كل وارد، أو سادر إلى الأسواق العامة للتسوق بيعا من الممتلكات الخاصة…!
أما في مجال الوعي الوطني للحراك السياسي، فقد شهد صراعا بين الأفراد، والقيادات، وقادة الحركات السياسية دون أن يصل الى جماعات المكونة للمجتمع ، لذلك لم تتأثر به الوحدة الاجتماعية العامة، وإن نالت الاخيرة حظها العاهر في تأسيس سياسة الإقصاء، وعدم التأثر بتيارات التغيير..ولم يكن سبب ذلك غياب الولاء الوطني، بل لتدخل المحتل الفرنسي، وانتهاج سياسة " فرق تسد"، لذلك سارع لإطالة احتلاله المباشر، باستبدال حامياته العسكرية بقوى مدنية بديلة لها في التسيير تحت اشرافه، وهي القوى التي تولت عملية الانتخابات الأولى التي سبقت الاستقلال، بدلا من اشراف فريق الاستقلال، وتحسيس الرأي العام لاجراء الاتخابات العامة، إلا ان الأخيرة جاءت نتيجة بمفاعيل غير مقدرة على الاغلب، حين اضحت بمثابة العربة التي وضعت أمام حصان الاستقلال، واستحكمت في قيادته " مجرجرة" إياه في حركة حلزونية، أو شبيهة بذلك نظرا لنسبية المسافة المقطوعة خلال 64 عاما من الاستقلال، ولما يصل بعد مجالات التحديث المجتمعي بنظام الحكم السياسي خلافا للمجتمعات العربية والافريقية المجاورة ..!!
ونظرا لأن خصائص النظم الحديثة مطلوبة لتنظيم المجتمعات العربية، والأفريقية، وما هو على شاكلتها..لذلك فإن مؤسستي الجيش، وقوى الأمن الداخلي، هما المؤهلتان للحكم، ومن السهل استنتاج أن يؤول نظام الحكم لرؤسائهما ما لم ينتظم المجتمع بالوعي السياسي الموجه بهدف التغيير، ليختار الفاعلون بعد ذلك من يسيرنظام الحكم وفقا لقواعد التعاقد الاجتماعي في خطوة، تكون هي الأولى ليؤسس عليها المشروع النهضوي الذي يراهن عليه في التقدم الاجتماعي، والاستقلال الوطني المنشود...
وقبل الإشارة إلى ما ورثه الوارثون من رؤساء الجيش الوطني، والأمن الداخلي من غيرهم، ولنظام الحكم كتوجيه مباشر من طرف المحتل الفرنسي،، ومن هنا يلقى على كاهل أولى التجارب لقادة نظام الحكم، العديد من الأوزار، ومنها إقصاء رموز حزب النهضة، كابعاد الراحل ولد حرمة رحمه الله تعالى من الجمعية الفرنسية في خطوة أولية لما بعدها، واحلال محله، من استجاب عن قناعة وطنية بالاستقلال المشروط باسم "الحماية الفرنسية"، ربما انها كانت خطوة أولية لتتبعها ألف خطوة، ولعلها تغير الأهداف التي وراء الاقتراح، الذي استحال إلى قرار صدر عن الجمعية الفرنسية، وكان ممثلو المجتمعات تحت الاحتلال في تلك الجمعية، هم الرموز السياسية التي تولت قيادة الأنظمة التي استقلت في غضون الشهور الثلاثة الأخيرة لسنة ١٩٦٠م.
وخلال الإعداد للانتخابات، حصل هرج ومرج، ترجم مخاضا غير عسير لما نتج عنه من موقف سياسي دافعه الاستفراد بالحكم، و اقصاء تعسفي، كان مبرره إعطاء فرصة لانتخاب الراحل الرئيس المختار ولد داداه رئيسا للبلاد رحمه الله تعالى، وقد جسد الوطنية، والنموذج الذي شكل الوعي لدى أجيال المجتمع إلى أن انتهت فترة حكمه سنة 1978م.
وبقى للتاريخ نتائج ينبغي دراستها لاتخاذ العبر منها منها، كالموقف المدان الذي جوبه به الدور الذي كان سيطلع به الراحل " بوياكي ولد عابدين" رحمه الله تعالى، ورفاقه، كسابقة، أثرت، ولا زال تأثيرها يلقي الضوء الكاشف على اخفاق السلوك الذرائعي في السياسة من جهة حبس" بوياكي" مؤقتا مع زملائه خارج العاصمة في السجن، ثم الرجوع بهم بعد الانتخابات، وكان ذلك بداية لتجريد السياسة من القيم الاجتماعية العامة، واخضاعها للإملاآت الفرنسية التي بحثت عن مصالحها مع قادة الاستقلال، و مع كل من استجاب للتجارب السياسية لنظم الحكم بالنظر للشروط المذكورة في الاستقلال الوطني ..!
ولربما كان حضور بوياكي ولد عابدين و مشاركته في التصويت، كحق من حقوقه الوطنية، سببا في الحد من اطماع السياسة الفرنسية ونفوذها السرطاني، لو انه حصل اجماع بين عناصر الطيف السياسي الرافض للإستقبال المشروط، وبلورة قوى وطنية مناهضة، و عابرة للإثنيتين الملونتين في سبيل الاستقلال غير المشروط، كما حصل مع قادة الجمهوريات الناشئة في كل من: مالي، وغينيا، وغانا..
وإذا أضيف أيضا إلى اقصاء الراحل "بوياكي" من الانتخابات الرئاسية، مأسسة السياسة على الحزب الواحد، وإسقاط التعددية الحزبية في التشريع الدستوري لصالح العمل السياسي الذرائعي، وتفرد قادته بالحكم..
فلعل الحادثين أسسا لما حصل من أحداث مشابهة لبعضها البعض، كما في مظاهرها، وموحدة في أهدافها، ولم يسلم من تأثيرها الاستقرار السياسي، ومصير الرؤساء، و حاضر المجتمع المجهول،، ذلك أن الأحداث السياسية، كانت موجهة بعقل سياسي مدجن للقيم في لأخلاق العامة، ومفكك للعلاقات الاجتماعية، والروابط الأسرية، وهو تفكك يقابله التشظي المجتمعي جراء سنوات الجفاف التي أدت الى الهجرات المفتوحة بين القرى، والمدن، دون احتساب للمخاطر الناجمة عن هدم التأقلم خلافا لما كان متواضع عليه في مرحلة ما قبيل الصراع السياسي المعبر عن فشل التجارب السياسية غير أن ذلك لم يؤثر في التخطيط داخل الغرف المظلمة لإخراج المؤامرات السياسية التي وظفت القانون بدلا من أن يكون كابحا لها، مثل التحريف، والطعن في الدستور الأول الذي حصل التصويت عليه قبلئذ، ولو بقي العمل به، لأسس لنظام التناوب للحكم السياسي، ولحد من التدخل بعنف السياسة "المعسكرة " تاليا، كأداة لتغير الوجوه - لا تغيير النظام - وإقصاء الرؤساء، وإيداعهم في السجون، واتباع رموز الحزب الواحد فى أنظمة الحكم، جريا على سياسة أول تجربة سياسية مدنية لم تؤسس للأستقلال كما ذكر سابقا..!
وقد تواضعت أنظمة الحكم فيما جرى من انقلابات، على الأنقلابيين، ومنها اسقاط طائرة الراحل ولد بوسيف رحمه الله تعالى، وإن كان من اسهل التفسيرات ارجاع سقوط الطاىرة إلى " سوء الأحوال الجوية"، ولكن لا تفسيرا مغايرا غير لوجهة النظر الاحادية للانقلاب على محمد خونا ولد هيدالة غير التدخل الفرنسي، رغم أن حكمه، كان مقادا بالوعي المناطقي، والقبلي، والتنفذ المؤسس على الجهل، واستراد حزب" تهذيب الجماهير: الهياكل"، كتنظيم سياسي، محاكاة لنموذج " اللجان الثورية" في ليبيا دون تبني لمضون تغييري...
كما أن الانقلاب على معاوية، جرى بتحالف قبلي لرئاستي: الأمن الوطني، والجيش، واستنادا إلى الاستشارة الفرنسية، وإعطاء الاخيرة الضوء الأخضر للانقلابيين…
وقل الشيء نفسه بمباركة فرنسا للانقلاب على سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمه الله تعالى، وتقييم تجربة حكمه، أقل ما يقال بصددها، انه رئيس مديني، تفرد انصاره بجشع أطروه بمظاهر الولاء لرموز ثقافية تكان تكون مندثرة في المعتقد على حساب التجربة السياسية، وبذلك تعددت رؤوس الحكم، وبعضها كان مفقوء النظر والبصيرة، وربما كان تدافع المتنفذين في الحلقات بمثابة الخيوط المهترئة التي لم يحسن استخدامها الراتق، فزادت من مجال الفتق، وكان ذلك مسئولا عن تصور أولي، استند إلى المتداول في الاعلام ووسال التصواصل عن فحش الاطماع الخاصة ابتداء من الصندوق المالي للسيدة الأولى، ومن حولها من الأطر القبلية، والرموز المخضرمة لتيار "التصوف" السياسي العابر للحدود المصطنعة بين الاقطار الافريقية ..!
وكانت تلك الأحداث، حاضرة في الوعي، وتمظهرها في الصراع السياسي الذي ما إن يطفو في الوجهات، حتى يختفي، لتظهر مشاهده الدالة على أن الأزمة في النظام السياسي بنيوية، ولا ترجع للافراد إلا، كمملين عابرين على خشبة المسرح السياسي، إن شاركوا عن وعي، فهم ليسوا من أدوات الغيير الاجتماعي الذي طالما سمع عنه من شفاه رؤساء انظمة الحكم، دون أن يشاهد، إلا كما يشاهد الموقوف على عتبة الباب، لا ليدخل، أو يخرج، وإنما ليبقي حبيسا في الظل..
لذلك لم ير التحديث النور إلى حد الآن بسبب الأنانية المتآكلة بين رموز العسكر من جهة، وبين المدنيين من الرؤساء، ومن سدنة الحكم من النخب الوظيفية التي تستجدي الحثالة..!
كما بقيت الأخلاق السياسية مغيبة كالمحتشم من السلوك المجتمعي، غير أنها مهددة بقيم تيار الثقافة الاستهلاكية، والسياسة الاسنتفاعية في التسيير، كمعطيين لحاصل النفوذ الفرنسي الذي لم يعدم من يخطب وده، أويستحضر( ترشيده) حتى من طرف رئيس البرلمان الموريتاني السابق، وذلك لمنع العهدة الثالثة عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بعد أن روج لها انصاره في "الحزب الجمهوري" الذين كانت عندهم الأغلبية في البرلمان، واصطفوا، كما يصطف البرلمانيون لتأييد ممثل شركة استثمار، أراد التمديد لها لإكتمال مشروعها الاستثماري، ولما ينته بعد..!
وقد يستغرب القارئ في زمن غير هذا، ما لم يعرف خلفية الصراع بين الرموز السياسية لأنظمة الحكم، لأن المنقلب، والمنقلب عليه، كانا يتقاسمان الحكم، والتنفذ، كما الذي كان يجرى بين الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، والرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني على رئاسة الحزب، وليس على دفة الحكم..!
الأمر الذي يؤكد، أن هناك متلازمة بين مشروعية الحكم - في ذهن رؤساء المؤسسة العسكرية - وبين الانقلاب، وحبس الرئيس السابق إثر انقلاب، وهذه المرة بعد انتهاء مأموريته، وإلا فما أسهل فك العقدة بترخيص وزارة الداخلية لحزب آخر، فيكون لكل من الرئيسين حزبه، بدلا من قدح شرارة الصراع على رئاسة الحزب الواحد..
ولعل حلا يلتمس لهذا الصراع بين المتخاصمين، لا بين التفضيل بين التجربتين، ولما تنتهيان، وتصبحان في السجلات لتقييم المؤرخين والباحثين..
بينما الصراع يمكن حله بالرجوع إلى الأخلاق الاجتماعية التي تراعي القيم العامة، وتستحضر تأثير الرموز الاجتماعية في المجتمع العام، والرموز في المكونات القبلية ..
وليس من المستغرب، أن تلك الأحداث العديدة، وتمثيلها على مسرح السياسة، واختلاف ابطالها منذ الاستقلال، أبان تفردا له تأثير يغري، لاخراجها عن الأضاءة الباهتة لسياسة التبعية لفرنسا في فرض مصالحها لاختيار الرؤساء المطواعين، وحيانا المنصاعين..!
وطالما أن هذا الدور مرفوض، فلا مندوحة من خروج المجتمع عن الحيادية السلبية التي أظهرت عدم تورطه عمليا في الصراع السياسي خلافا لرموز النخب الوظيفية، وكان المفترض فيها وعيا وطنيا، توجه به قادة الحكم، لكن ذلك لم يحصل، بل العكس حين تضاءل تاثيرها، وغابت عن الأدوار المتوقعة منها في إحداث التغيير الاجتماعي المسنود للمثقفين، غير انها باعت بثمن بخس مشايعتها لكل انقلاب، فتوجت كل قائد للجيش على " التفرعن"، والإذعان للانقلابات المفروضة، كالأنقلاب المنسوب زورا، وبهتانا لمعاوية ولد سيدي احمد ولد الطايع بدلا من نسبته لقائد الجيوش الفرنسية في زيارته لعاصامة البلاد لذات الهدف..!!
وهو تغيير شكل تحديا للضمير الجمعي، ومثالا صارخا للمعنى الغامض ( لحماية) الاستقلال الوطني من التدخل الخارجي، وإن كان لصالح فرنسا " مؤقتا" ولطابورها الخامس في الداخل والمنفى الذي استقدمته لدفة الحكم طيلة حكم معاوية الذي كان قبل الانقلاب رجل الحكم الثاني بعد ولد هيدالة، الأمر الذي أكد أن التغيير الذي حصل كان استجابة لبواعث خارجية، لا بدوافع ذاتية حتى..!!
وقد تتكرر التجربة، إذا كانت الظروف مشابهة لبعضها،
لإعادة التجربة الفرنسية الانقلابية السيئة، وويكون باعثها حماية مصالحها بتمكين حلفائها من رؤساء الاقطار المجاورة لبلادنا، أو اتباعها في الوطن..!!
لقد كان من المفترض، أن يكون تداول السلطة وفقا للانتخابات الرئاسية، وأن تعدد الأحزاب كمظهر للحقوق المدنية، وإيجاد صيغة جامعة للعمل المشترك بين السياسي، والقانوني، والرئيس المنتخب لتعزيز سلطة آليات التعاقد الاجتماعي..
غير أن الصراع السياسي المحبط للآمال الكبرى لمجتمعنا جعل هذه كلها أقل رمزية من صوريتها بدليل توظيفها الذي انتزع عنها الشرعية عبر مراحل الصراع، وآخرها حاضرا يمكن اعتباره نموذجا للتساؤل عن الصراع، وتهافت حجج المترافعين أمام المحاكم، وعدم انتظار نتائج لها قيمة ..
كالصراع بين المحمدين، وكيف تطور من تنافس على رئاسة حزب، إلى تظلمات، إلى مرافعات، والى محاكمات، و إلى غياب الحس الأمني بين المتصارعين، واحتمال تجاوز الصراع الحدود المتحكم فيها قانونيا بعدئذ..
وهل سيضطر المتخاصمان إلى أخلاقيات المجتمع يوما ما، لإطفاء جمرة الأحقاد المتقدة بالنفخ فيها بافواه العامة، والحثالات المستجدية، و المسترزقة من المدافعين في المحاكم..؟!