د. إشيب ولد أباتي
تمر بالأمة العربية أحداث جسام في فلسطين، ولبنان، تهدد حياة ملايين العرب في حرب إبادة جماعية، لم يشهد التاريخ الحديث، والمعاصر مثلها في التدمير بسلاح أمريكي، كان معدا للحرب الكونية بين الدول العظمى، غير أنه الآن يجرب على أهل غزة، ولبنان، وهذه الماساة شغلت الرأي العام العربي، والإسلامي، والعالمي،،
ومن غرائب الأمور تناسي ذلك كله، أوالهروب منه، وذلك لتصفية الحسابات مع الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله في ذكرى رحيله ٥٤ بعد أزيد من نصف قرن..
إن أمتنا إزاء هذه الحرب في حالة يرثى لها، إذ يصدق عليها التوصيف المتداول منسوبا لخبير سويدي عن أننا : " أمة أبطالها في القبور، ومصلحوها في السجون، وخونتها في القصور".
ويأتي هذا التعقيب مني، تنبيها للقراء في الوطن العربي على ما نشر عبد الله صرصور في موقع " رأي اليوم"، الذي يهتم كتابه بتشكيل وعي قومي، عابر للوطنيات الضيقة، وذلك في مواجهة التحديات التي تواجه أمتنا لصد هذه الإبادة الجماعية التي يشارك فيها كل عميل عربي متواطئ، سواء أكان من أنظمة الحكم التابعة لأمريكا، أم من النخب " السدنة" للأنظمة، كذلك غياب دور المثقفين، وقادة الحراكات السياسية التي تتحمل وزر عدم مشاركة المواطن في المظاهرات المنددة بهذا الصمت الخياني لمجتمعاتنا في الوطن العربي، والعالم الإسلامي…
وهذا التخوين موجه بعضه لابراهيم عبد الله صرصور، وهو رئيس سابق للحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة، وهي الحركة التي تراوح في توجهاتها السياسية بين رؤية الإخوان المسلمين، والحركة السلفية، وعلى الهامش منهما حركة "التبليغ"..
وكان مقاله ناقدا لكل من القائد المعلم جمال عبد الناصر، و للكتاب القوميين، والعروبين الذين أشادوا بالأدوار التي قام بها القائد خلال فترة حكمه لمصر منذ قيام الثورة سنة ١٩٥٢- ١٩٧٠م.
وبعض الكتاب نعى الأمة برحيل قائدها، لأن زمنه، تميز بمواجهة الكيان الصهيوني، والنهوض بالأمة، وعصر الأستقلالات الوطنية، وقيام الثورات العظيمة، وتنامي الوعي الحداثي، والمعاصر، وتجاوز أشكال الوعي الذي كان - ولا زال - متخلفا عن مواجهة التحديات الداخلية، والخارجية ، وفي مقدمة تلك التحديات احتلال فلسطين، وما يتطلبه تحريرها من تكاتف القوى البشرية، والعسكرية، والمادية، ولن يتأتى ذلك إلا بوحدة أمتنا..
بينما ركز بعض الكتاب على الفكر المقاوم لجمال عبد الناصر على أساس أنه فكر جعل لصاحبه حضورا، يتجاوز غيابه لرحيله في ال٢٨ / سبتمبر ١٩٧٠، لأن مقولة "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها "، تقطع الطريق على الحلول الاستسلامية، طالما فيه صراع مع الكيان الصهيوني المحتل الذي نصب الأفخاخ لأصحاب الرؤية المتأمركة التي سادت منذ السبعينات إلى الآن، ومن نتائجها هذا التدمير لحاضر الأمة، وتمزيق وحداتها الاجتماعية حاضرا، وهو الحاضر المخضب بدماء الابرياء في غزة هاشم، ومدن الضفة، ولبنان، واليمن، وسورية، لأن هذا التوغل الأمريكي الصهيوني، يسانده العملاء الذين خدروا وعي الأمة بامكانية حل الصراع العربي مع الصهيونية العالمية، واسناده إلى الصهاينة الأمريكيين في البيت الأبيض، وراحوا يدمرون الأمة بالوعود المعسولة،، وهكذا تردى حال الأمة إلى ما هي عليه …!
إن رؤية ابراهيم عبد الله صرصور في مقاله المذكور، كانت خارج عصره، لدرجة أن البعض، يمكن أن يجزم بأن مضمون المقال يؤكد، أن كاتبه كان نائما في "كهفه" منذ خمسينيات القرن الماضي، ذلك أن المسائل التي أثار، هي غائبة عن وعي القراء في مصر، مركز التجربة الناصرية، أحرى عن وعي المواطن العربي في فلسطين، وباقي الوطن العربي …!
لذلك نتساءل عما هي قيمة ما كتب عن الصراع السياسي بين تيارات تبادلت الأدوار في حكم مصر، وثبت، أن الخلافات كانت موجهة، وكان المناهض منهما لاتفاقية " الجلاء" سنة ١٩٥٤، هو ذاته الذي تبنى اتفاقية "كامب ديفيد"، و أرسل رسائل التهنئة لقادة الصاهينة في الذكرى المشئومة لاغتصاب فلسطين..!
فكيف، أن عبد الله صرصور، لم يوفق بين انتمائه لهذا التيار" المطبع" في مصر محمد مرسي، وفي مواجهة الواقع الاحتلالي الذي يرزح تحته، وفي تهجمه غير المبرر على جمال عبد الناصر الذي صارع الصهاينة، وعاداه الإخوان.. ؟
إن الكاتب كان رئيسا سابقا للحركة الإسلامية في فلسطين في الخط الأخضر، ورؤيته موجهة بالأحقاد المطمورة في اللاوعي المتخلف الذي عبر عنه بأسلوب سياسي في الثارات المتخلفة، كالتي ظهرت أول ما ظهرت في الصراع العقائدي إبان البعثة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام - لترسيخ رسالة الإسلام..
ولعل الكاتب في المقال، كان يستحضر سيرة " هند"، والثأر لأبيها من" حمزة"، ليكون عبدها" وحشي" الأداة، لتمكينها من قطع كبد أول الشهداء في الإسلام..
ولعل هذا الثأر،هو المرجعية التي حفزت على كتابة المقال الذي جمع الدعاية التي شكلت وعي الكاتب منذ أن كان شابا، حيث كانت الإذاعة العربية الصهيونية، تبث تلك الدعايات المعادية لمصر جمال عبد الناصر، ولحركات التحرر العربي،، فزيفت الوعي الذي استساغه القليل من الشبيبة العربية من مستمعي "إذاعة" الكيان الصهيوني طيلة الساعة الرابعة في مساء كل يوم…!
وهكذا كان من نتائج غسل أدمغة بعض الشبيبة العربية، معاداتها لقادة الأمة، وتوجهاتها التحررية، وإن علل بعضهم ذلك بتبني رؤية لواحد من الاتجاهات في الصراع الداخلي بين التيارات السياسية في مصر على عهد جمال عبد الناصر …!
ومهما يكن موقف عبد الله صرصور، فهو صوت من الوطن العربي عبر عن أنشطار في الوعي لدى قلة من النخب المثقفة، حتى لتحسب الواحد مغيب الوعي، ولا يختلف تصوره عن رؤية العامة، وتأثرها بالرأي الموجه الذي يسعى الصهاينة، وتيارات الإسلام السياسي لغسل الأدمغة عن طريق الإعلام الذي فرخ أشكالا من الوعي العدمي الذي يذكر بالمفارقات في الوعي في مقولة أحد الأوروبيين الذي اعتنق الإسلام، ثم زار واحدا من الأقطار العربية، فقال: " الحمد لله الذي عرفت الإسلام، قبل أن أتعرف على المسلمين"…!
فلن يقول القوميون قطعا نيابة عن جمال عبد الناصر ما قال هذا المسلم،، لأن الوحدويين على درب جمال عبد الناصر الذي تطوع مع مجموعة من الضباط الصغار، وقدم استقالته من الجيش المصري، قبل ان يقتنع الملك فاروق بالمشاركة في حرب ٤٨، وأرسل هؤلاء المتطوعيين إلى فلسطين لمواجهة المغتصبين الصهاينة، حيث قاتل جمال عبد الناصر، وجرح، وحوصر مع كتيبته في" الفالوجة" لمدة ستة أشهر،، وأثناء ذلك الحصار المميت، قرر مع زملائه - كما ورد في مذكراته في يوميات الحرب في فلسطين سنة ٤٨ - أن تحرير فلسطين، يتطلب منهم تحرير مصر، وبعد الهدنة التي كانت خدعة للأنظمة العربية يومها، عاد جمال عبد الناصر، ورفاقه، وبدأ يستقطب أعضاء حركة الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة في ٢٣ من تموز/ يوليو سنة ١٩٥٢ ..
إن مبادئ القوميين في التحرر والتقدم، والوحدة العربية، جعلت إيماننا بتحرير فلسطين، جزءا من رؤيتنا الاستراتيجية بغض النظر عن نضج الوعي لدى المواطن، أو القطر الذي ينتمي له سواء ، أكان محررا ، أم تحت الاحتلال…
ولله في خلقه شؤون.