في مفارقة ملفتة للانتباه وبالتزامن مع طفرة التفاعل العالمي مع العدوان على غزة المحاصِرة للجانب الصهيوني والمساءِلة لسرديته ليس لأحداث السابع من أكتوبر وما بعده فحسب وإنما لمجمل الصراع من بدايته اشتدت الحملات التي تشنها مؤسسات إعلامية عربية كبرى على المقاومة الفلسطينية وصمود شعبها وصولا إلى تبنيها الخطاب الصهيوني بحذافيره وفي أقصى حالات تطرفه وعدوانيته ما جعلها تتفوق على الإعلام العبري، والذي شهد تنوعا على مستوى تقديمه للمعلومات الواردة عليه وتحليله لها رغم حالة التعبئة الشاملة في صفوفه خلافا للأحادية التي ميزت الصهاينة العرب على اختلاف مشاربهم، والذين ينسخون كلام نتنياهو والدوائر المرتبطة به مباشرة دون تنقيح أو تعديل.
محاولات تمرير الدعاية الصهيونية ليست جديدة وقد كانت بداياتها محتشمة، ولعل أول من تجرأ على التغريد خارج الإجماع العربي والإسلامي هي الأحزاب الشيوعية التقليدية التي شذت على باقي النخب في المنطقة باعترافها المبكر بالكيان الإسرائيلي، ففي الداخل المحتل عمل نشطاء هذا التوجه على محاولة أسرلة مجتمع 48 معتبرة أن جوهر الصراع ليس مع المحتل وإنما مع العدو الطبقي، وهكذا تم إحداث توليف هجين بوضع العمال والمزارعين الغاصبين في نفس الخندق مع أبناء البلد المشردين في الخيام.
أما على مستوى الجوار العربي فقد اتُخِذَ شعار الحرص على المصلحة الفلسطينية للتغطية على شرعنة الوجود الصهيوني، حيث كان خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الشهير بأريحا في 1965 سابقة من نوعه في دعوته الصادمة للتسليم بالأمر الواقع، وفي ذات الوقت ظهرت القومية العلمانية المتطرفة في تركيا وإيران المرحبة بالكيان الوليد والتي نسجت معه علاقات معمقة، غير أن الخريطة العربية التي سيطرت عليها النخب العروبية والإسلامية احتفظت بمناعتها وفرضت على أنظمتها مجاراة المزاج الشعبي العام ولو بالشجب والاستنكار لعدوها الجديد.
وظلت العلاقات سرية مع الكيان كما في حالات أنظمة عربية معروفة، اعترف مسؤولوها مؤخرا بتلك العلاقة بعد عقود من الإنكار أو جزئية كما في حالة الأحزاب اليمينية اللبنانية التي بلغ المطاف بها أن استخدمها العدو الصهيوني في مهامه القذرة كما في مجزرة صبرا وشاتيلا، إلى أن حدث الاختراق الكبير والذي لم يكن ليتم لولا أنه صدر من طرف شخصيتين راكمتا رصيدا جماهيريا معتبرا في أوساط عموم الأمة العربية هما أنور السادات وياسر عرفات. ولئن قاومت النخب والجماهير هذا التوجه فإنه لأول مرة أصبح للموقف المعاكس من يسنده ثقافيا وسياسيا على الأقل من طرف الدوائر الخاضعة لنفوذهما أو من دوائر القطاع الأكبر من النظام الرسمي العربي الذي نسج على منوالها، ولم تثقل من إيقاع تطبيعه إلا الانتفاضة الثانية التي ناصبها العداء بالتآمر السياسي المبطن على رموزها وبالتشكيك في قدرتها على تحقيق طموح الفلسطينيين في التحرر، دون القدرة على إشهار العلاقة مع الطرف العبري.
على أن كل المحاولات السابقة لشرعنة الوجود الصهيوني لم تبلغ حد الإساءة المباشرة للفلسطينيين، لكن مع الاضطرابات التي شهدتها المنطقة العربية بعد إجهاض طموح شعوبها في الانعتاق من ربقة حكامها وُجِدَتْ الأرضية المناسبة لبث كل ما اختزنته الأنظمة العربية من مواقف عدائية للفلسطينيين طيلة عقود الصراع، حيث ارتفعت جزية حماية الحكام فانتقلت أوراق اعتمادها من واشنطن إلى تل أبيب، ولم يعد التطبيع كافيا وأضحى الانخراط في محور معاد للمقاومة الفلسطينية شرطا لتجنب نقمة لوبيات النفوذ العالمي، وهو ما فرض على النخب الثقافية والسياسية تبرير هذا التحول بكل طاقاتها مستغلة تغييب الأصوات الحرة كما في مصر والسعودية ومستثمرة الفضاء الإلكتروني لبرمجة أطياف من مجتمعاتها التي عانت من نوبات إحباط كبيرة بعد حالة التشظي الذي أصبح واقعا في الخريطة العربية والإسلامية.
لقد عملت الدعاية المكثفة على تصعيد العداوات الداخلية في المنطقة وخلق عدو مركزي بدلا عن إسرائيل، وهو عين ما تم تجريبه في السابق مع جمهور الكتائب اللبنانية وهذه المرة تم تعميم هذا الأسلوب، فمثلما كانت إسرائيل في عرف الجمهور اليميني المسيحي اللبناني، المسكون بكابوس الديمغرافيا، أرحم من الفلسطينيين فإسرائيل أيضا أرحم من إيران عند طيف من الخليجيين وهي أرحم من الجزائر عند النظام المغربي ومن العرب عند نخب كردية وأمازيغية.
في معركة طوفان الأقصى لم يدفع التوحش الصهيوني النخب الرسمية العربية للتراجع عن نهجها المهاجم لكل ما هو فلسطيني، فعلى العكس من ذلك زادت شراستها وانتقلت إلى السرعة القصوى كأنها مقبلة على معركة حياة أو موت، والحقيقة أن الأمر كذلك بالنسبة لهم، فهم قبل أن يدافعوا على من يمولهم هم يدافعون عن مواقعهم التي احتلوها دون وجه حق، وهم يعرفون أن عودة القضية الفلسطينية لعنفوانها بما تحمله من قيم الصمود والاعتداد بالنفس ينسف ما راكموه من تأثير عند الشعوب العربية والإسلامية، حين كانوا يروجون لخطاب الهزيمة والانسحاق أمام قيم الآخر الغربي.
بلا مبالغة، فإن كل من يصطف ضد مقاومة الشعب الفلسطيني ويعترف بأحقية اليهود في أرض فلسطين كلها أو جزء منها هو عمليا ينتمي للحركة الصهيونية سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما أو غير ذلك، لا سيما أن منهم من بات يروج لكل أساطيرها وخرافاتها في إنكار تام لذاته ولخصوصيته ما يجعلنا أمام قوم طارئين على أمتنا، ولعل من حسنات عملية طوفان الأقصى أنها عرت شعاراتهم البراقة حول الحقوق والحريات والانفتاح، حيث تبخرت ولم يتبق منها إلا شماتة مَرَضِية بالشهداء وبتضحياتهم والتي تظهر معدنهم الساقط، الشيء الذي يعجل بإعادتهم إلى هامش الهامش بعد هذه دالأحداث الجسام.
............
كاتب مغربي