للصراع في المنتبذ القصي ثلاثة مستويات لا يخرج عنها إلا ليعود إليها، ولأن طبيعتنا عصية علي التغيير، فلم يتغير كبير أمرٍ بعد قيام الدولة، ولم يتخلص منها سوى أفراد قلائل و ما زال الخصام عندنا ، رغم العناوين الحديثة ، كما كان أسلوباو مضمونا ، و هو من يوم تبلور الكيان الهلامي ينمو على ثلاث مراحل ، هي بالعدّ ،تنازليا:
.
1 ـ الشر
2 ـ الشوفه
3 ـ الفقائع
1- يعتبر المستوى الأول مستنقع الشر كما يدل عليه اسمه بالفصحى ، و يصل إليه طرفان (أفرادا أو جماعات) بعد تراكم الثالث وتحوله إلي الثاني ، ويسمَّى المستوى الأول، إذا تعلق بالأفراد(هْجار) أي هجران أو هجر؛ و رغم ادِّعاء الثقافة الدينية التي تحرم هجر المسلمِ أخاه أكثر من ثلاث ليال، فإن هذ المستوى الفردي ، منتشر بين البيضان انتشارا فظيعا بسبب تفشي النميمة و الكذب و الفحش وخفر الذمة و أكل لحم الغائب، لا يسلم منها إلا من رحم ربك ، وهم قلة.
وأفظع ما يكون "الشر" عندما يتحول إلي نكايات ومكر ودسائس وحيل ،يعتبر المجتمع القبلي البيضاني جذيلها المحكك ، وخبيرها المعتمد، ذلك أنهم لسوء حالهم المادي و البشري قليلا ما يلجأون إلي الحلول العسكرية، وإذا فعلوا ،مضطرين ،لم يثخنوا،و كثيرا ما يلتقي الجمعان فتتطاير شظايا و يجرح أفراد ،ونادرا ما يموت أحدٌ، ولكن كل طرف يعود إلي أهله بفوز عظيم ينسج حوله الأبطالُ بالخيال الشعري و النثري ما عجزوا عن فعله بالقنا والقسطل.. يقول المؤرخ الإستعماري بول مارتي: إن البيضان اختصاصيون في الحروب غير المحسومة..
ولكن الضغائن والدسائس تُتَوَارثُ وتعمر القلوب علي مدى التواصل اللغوي داخل المجتمعات كيفما كان مستواها العلمي، كما هو قائم مثلا بين الفرنسيين والإنجليز، وبينهم والألمان، وبينهم والبلجيكيين، ولم تُفِدْ الديمقراطية شيئا في جوهر الأمر، وما زالت الأحكام المسبقة و النعوت المقرفة تغذي المسكوت عنه بينهم، وتلك أمم... أما البيضان فيطبقونها في مجتمعهم المفترض أن يكون واحداً؛
وقد عانت دولتا الإستعمار(!!) والاستقلال الأولى من استشراء مفاعيله السلبية المضادة لهرمية الدولة الحديثة و هيبتها، وروح المواطنة وتأبيدها بديلاً للقبيلة والعشيرة و الجماعة.
ومن غرائب (الشر) أنه يقوم ،أيضا، بين الجسم القبلي الواحد فيقطع الأرحام والأوصال، ولعله أشرس (الشرور) بسبب الصراع (الحميم) على المرجعية الواحدة مما يحوله إلي عملية(كسر عظم) وتلك أفدح موبقات الغرائز..
2-الشوفه
وهي المحطة الثانية فيما يَشْجُر بين بيضانيَّيْن، وسببها غالباً، مستصغر التصرفات المقصودة للإيذاء وإذكاء الحقد والحسد الخبيئ، ويلعب فيها النموم دورا كبيرا..
و النموم(الجاسوس) ، في تاريخ المنكب البرزخي، احتل دائما موقع صانع الأمراء و مشعل الحرائق ومؤسس طابور الفرنسي و الهولندي و البرتقالي الخامس منذ احتل البرتقاليون جزيرة "تيدرة" بحوض "أم أراقن" يطاردون الغرناطيين ،إلي اليوم
وهذه المرحلة من (الشنآن)تنتهي بالتصالح بعد الصرب(جمع صربة وأصلها من السرب) و الترضيات ويلعب فيها الحلفاء و الأقرباء و المنتفعون أدوارا معتبرة.. وقد تنتهي باحتدام "الشر".. وهو الاغلب..
3- الفقائع: وأصلها من فعل (فقع) أي فطر أو تفطر قلبه من فعلة أو قولة أو إيماءة، وقد تسمى(آجلاج) وأصلها من القلق، (وهي من الكلمات الحسانية القليلة التي انقلبت قافها النجدية جيما مصرية/صنعانية ثم تحولت جيما شامية/بيضانية.. والشائع المعروف رغم ندرته وجود الجيم المصرية/الصنعانية في كلمات منها القاشوش:"الجؤشوش" وتجر:"تقر" و أزعج:"زعق"...
وهذه المرحلة الأولى من تنامي القلق البيضاني و"رُبُوِّ" الضغينة بالتراكم أو التلاشي وحظ الحالتين متقارب ،لكنها من ملح التعايش العادي...
ومع تطور وسائل التواصل والإتصال تزايدت في مجتمع البيضان كل هذه المصائب بالتناسب مع سرعة تطور وسائل التزوير و تسخيرها للوقيعة والإيقاع فكأنما خلقنا لنستخدم التطور البناء لهدم مجتمعنا: فكم من بيت تهدم باستخدام الفوتوشوب(الصورالمركبة)وكم من صداقة صافية رائقة تحولت الي عداوة بالهاتف المحمول وفصوص التسجيل المرئي..؟؟
سواء في ذلك الساسة والمتدينون والاقرباء والحلفاء وأصحاب المهن.. من مختلف الشرائح و الأعراق.
وهكذا اختلفنا عن من في الأرض من الناس ،وانفردنا بما لا يخطر علي بال أحد من العالمين: فترانا نفعل بالأجنبي الأفاعيل خلال المعاملات تبادلا وتداينا ودراسة وعملا، ونظن أن وُقوعه في حبائلنا من شطارتنا و ذكائنا متناسين أنه من سوء فهمنا للحاضر وسوء تقديرنا للمستقبل..
إن ممارستنا لما لا يخطر لشريكنا الأجنبي علي بال ، ليس غباءً منه بل تربية مدنية ورثها و عاشها في بلده فهو تحت طائلة القانون إن زوَّر أو كذب أو سرق ،أمَّا نحن ففي حِلٍّ من كل التزامٍ إذا دخلنا الوطن، أليسَت الممارسة التي ترفع و تخفض يعبر عنها بمقولة: "اللِّ مْحالِي ألَّا النفشه"..
إن تقدم العقل البشري بالعلم أوْجدَ صيَّغاً أكثر جدارة بالإنسان إذا أراد أن يمكر بالأخ / العدو، وأبلغ أثراً من "الطرشة" التي اعتبرناها، دائماً، ردة الفعل الأجدر بالرجل الشجاع المقدام ، إنها ما يسميه اللبنانيون" معركة عض الأصابع" التي تستنفد فيها كل اللكمات المادية والمعنوية دون "جرح" أو "دملة" ومن يصرخ الأول مغلوب!!
...