تعرف الرواية عموما بأنها " سوسيولوجيا الأدب"، نظرا لما تكشف عنه من مظاهر الحياة الاجتماعية، والثقافية في سلوك الافراد المعروض في العمل الفني، كما في مظاهرهم، وتفكيرهم، وقل الشيء ذاته بالنسبة لمستوى الوعي الذي يستنطق به الراوي ابطاله، باعتبارهم عينات ممثلة لفئات المجتمع، أو اجياله، في الحاضر، أو الماضي فيما يظهر خلال تسلسل الحوادث، وعرض المشاكل الاجتماعية واقعيا، او توقعا، كما تتوالى الصور الفنية عارضة لمظاهر المدنية، في مجاليها القروي، والمديني، ومن المعلوم أن المجالين الجغرافي، والمناخي، يلعبان دورا مبررا في أنسنتهما في العمل الروائي، كما لتوظيف الأزمنة دوره هو الآخر، كمقرب للصور، ومكبرها، فإذا حصل التفاعل، وقدمت القضايا المصيرية للمجتمع عاكسة الأفراح، والآمال العريضة، أو الاتراح، والمعاناة الدامية للقلوب المكلومة، كان الابداع مستنيرا بضياء الاستحقاقات التي يطالب كل صوت وطني في مجتمع الروائي المبدع، وسيواجه الاخيربالتالي آخرين من ذات المجتمع، أو من المدافعين عن سلطة الحقوق الخاصة ، وهذه المستويات تفرض الالتزام، أو عدمه في العمل الابداعي، الأمر الذي سيتحكم في نجاح، أو فشل المنتج الفكري، نظرا لأن الأدب الروائي، أرقى من التأطير في مجال "الفن للفن"، مهما كان للأسلوب طلاوته، وللوصف زخرفه القولي، وللتحليل تشويقه في الأعترافات الوجدانية،، فهي مجتمعة، لا تتقاطع مع المطالب العامة التي تستنير بها العقول المتفكرة، والمدافعة من اجل العدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق السياسية الأمر الذي يتطلب "معادلا موضوعيا" في التفكير الوطني، والنضال العملي،، وليس بعيدا عن ذلك التطلع الى غايات القارئ العربي في السرد الأدبي الواعد بنهضة أدبية،، غير أن من معيقات ذلك الأبتعاد عن معارك المجتمع في الحاضر، والكتابة الرمادية للنأي بالنفس، ومن ذلك الاستغراق في قراءة التاريخ الاجتماعي، لأن استرجاع الظواهر الاجتماعية المتوارية في احقاب التاريخ، لا تقل استعصاء عن استعادة الحالات النفسية بعد نسيانها، بله الاحداث التاريخية
..........
وتجدر الاشارة الى الاختلافات العميقة في الرؤى بين الروائيين العرب في تقديم الظواهر الاجتماعية، وتحليلها، وحتى محاكمة مجتمعات الرواية العربية في الأزمنة المختلفة،، وبينما رأى النقاد، أن " غسان كنفاني" في روايته " عائد الى حيفا" أدان والدي " خلدون" بطل الرواية الذي تركه والداه في منزلهما في مدينة" حيفا"، حيث اخرجا منها تحت تهديد العصابات الصهيونية في حرب 48، وعند عودتهما الى المدينة بعد نكسة 67، ليتفقدا منزلهما، ويبحثا عن ابنهما الذي ترك في عمر الرضاعة على الفراش..
فنجد على العكس منه، أن عبد الكريم غلاب الذي أطر رواياته برؤى مغايرة، وخاصة في روايته الأولى"دفنا الماضي"، حيث تحاشى إدانة المجتمع، واكتفى بتقديم الظواهر، وتوظيف الأزمنة معلقا عليها آماله، فالماضي بجاذبيته، استعصى عليه وضع قطيعة معه، لذلك اعترف على لسان بطله، أن الماضي لم يدفن، واستسهل توظيفه: كما الحاضر للتغيير البطيء، وذلك للعبور بهما معا نحو المستقبل، دون ان يعترف باستحالة التغيير الاجتماعي المنتظر الذي علق عليه آماله في كتاباته الروائية...!
........... .........
وتأتي رواية" مدينة الرياح" للتعبير عن الأبعاد النفسية، والاجتماعية، والفكرية وصفا، وتحليلا، وفي توظيف الزمنين:الحاضر، والماضي..
وكان من خصوصيتها ـ مدينة الرياح ـ أن مواقعها المصرح بها عديدة، فمنها: الغلاوية في شمال البلاد، وبعض المدن باسمائها، والقروى بأوصافها، وناسها، كالقرية التي استقبل نساؤها القافلة، وقد " أخرجن من البيوت، القصعات الملأى باللبن الرائب، الحبوب، الدجاج، والفصوليا،، ". أما اوصاف القرى الخارجية، ك"بيوت الحشيش تتطاير اشلاؤه في الهواء" جراء الرياح، والامطار، وهناك تعريف عام للمدينة، وتكرر بصيغ مختلفة، لكنها لم تخرج عن التعريف المتداول للبلاد في منشورات بعض الكتاب، وهو: " المنكب البرزخي"، وهو تعريف يتقاسم التوصيف العضوي مع الديني في قوله تعالى " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ "، وكأن هذه المنطقة العازلة، عزلت بعض العقول المستنيرة عن التفكير مليا في دلالة هذا التعريف، وعدم قيمة مصادرته من المؤرخ في زمانه،،، ومن تعاريف المكان في الرواية، انها منطقة:"ما قبل الموت" و" منطقة التخوم"، و" سكان بلاد الذهب ذات الاسواق"، فضلا عن أسماء مدن تاريخية، كأودغست، وأخرى غير مذكورة في كتب التاريخ، كمدينة " أودافوست..
وقدم والراوي " مدينة الرياح"، لقرائه بناء على خواصها المميزة في إطار التصور الذهني لواقع البيئة الاجتماعية التاريخية على وجه الخصوص، بالنظر الى الواقع المعيش، وتأثيره على " وعي" الراوي الخاص، غير أنه لم يتجاوز حدود السرد التاريخي الوصفي الممتع خاصة لمناظر الطبيعة،، والاستغراق في الجزئيات التي خلد الذاكرة الشعبية لاجيال المستقبل، واخرى حديثة عهد من مواليد ما بعد السبعينات، ولم تعرف الحياة القروية في البادية الموريتانية التي كانت، تستقبل قوافل الملح من شمال البلاد، وليس من خارجها، كما في الرواية التي وحدت بين الزمنين: الماضي، والحاضر عن طريق توظيف اسماء الابطال في النص الروائي، ما نتج منه وحدة لمجتمعي الرواية اللذين سيأتي الحديث عنهما لاحقا..
والرمزية الدالة، لاسم "مدينة الرياح"، يقرأ بها الواقع العام للمدن الموريتانية التي تعاني من التصحر الى حد الآن، نظرا لعدم تشجيرها، وتسكين التربة من حولها، وقد حولها ذلك الى مدن للرياح، والعواصف الرملية طيلة فصول السنة، ومن هنا لم يكن الترميز غامضا في توجيه القارئ نحو الواقع الخارجي في المدن الشاطئية، والداخلية على حد سواء، أو تمويهها بغامق اللون عن الوصف الداخلي للمدن المتربة بشوارعها، وحيطانها، ومظاهر ناسها الملثمين رجالا، ونساء من المارة في الخارج، وفي داخل الأسوار، والمنازل،، وكل ذلك جراء الريح بالزوابع، والعواصف العاتية، وبحرارتها، ورمالها المتناثرة، وجفافها غدوا، ورواحا، وذلك كلما تحركت تيارات الطقس، أو المناخ على روابى الصحراء الكبرى، إلا وتدافعت كثبان الرمال من مناطق التصحر التي اتسعت طولا، وعرضا منذ أحرقت الغابات، كاحدى جرائم المستعمر الغربي: الاغريقي، والروماني، ثم البيزنطي، وذلك في إطار نهبه مصادر الثروات الطبيعية، ومنها الاخشاب، للتدفئة الضرورية لسكان مدن الغرب، كأثينا، و وروما، ثم القسطنطينية ـ استانبول ـ، وعلى ذلك الأساس، لم يبق عنصرا مجهولا في المعادلة، إذ أن مطالب التمدين في الغرب القديم، فرضت التصحر في بلاد المغرب العربي، كما نهبت ـ وتنهب ـ خيراته الطبيعية بعد احتلاله منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي الى الآن..
وقد يكون الراوي قصد من تقديم الرسالة الفكرية للبعثة الاستكشافية للمقابر الثماني عشرة في بداية الرواية ـ مدينة الرياح ـ ما ترمز اليه الاعداد في جزئية، كتلك السنوات الاولى(18) للاستقلال السياسي المشروط بالحماية الفرنسية، قبل الانقلاب العسكري في العام 1978م، ولعل الاحداث الصادمة للعمال في مدينة " ازويرات"، شكلت تحديا للوعي السياسي المتنامي، بالقتل الجسدي الذي أعطى نتيجة عكسية، ومنها استبعاث الوعي بالتاريخ في حدود هذا المنتج الروائي، ـ قبل الوعي بتغيير الواقع الى حد الآن ـ في العام 1996م، وهو تاريخ نشر الرواية، وهي قراءة استحضرت الوجود الفرنسي، لا كنفوذ احتلال منذ أواخر القرن التاسع عشر، وخلال استخراج الحديد من جبل الحديد ـ هذا هو االاسم في المصادر التاريخية ـ في خمسينيات القرن العشرين،
ولعل استحضار الراوي لمفهوم" الحديد" يحيل الى هذا الفهم سيما انه في الفقرة الأولى من الفصل الأول في الرواية، وإن في سياق آخر، كذلك استحضاره للقطار الطويل لوجه الشبه بينه، وبين طول القافلة على مسافة فرسخ، مما يعتبر مؤشرا لحضور الظواهر الحالية..
بينما تفسر الإشارة الى البعثة الاستكشافية في العمل الروائي على أنها إظهار للجانب الإيجابي للاحتلال الفرنسي، كباعث الوعي النهضوي، ومصدر لتحديث المجتمع الموريتاني، وهي ذات المغالطة السابقة التي فسر بها دور الاحتلال الفرنسي لمصر، واعطائه مضمونا مغايرا تحت عنوان "حملة نابليون" الاستكشافية للآثار التاريخية، وهو التفسير الذي أرخ لبداية النهضة المصرية، والعربية عموما بالاحتلال الغربي باعتباره" استعمارا" بينما هو " استدمار" ـ على حد قول مالك بن نبي ـ وهذا التفسير من الكتاب، والروائيين المبدعين، فيه تشويه لوعيهم الفكري، لما فيه من تجاوز لحقائق التاريخ العربي الحديث، وتجاهل للبداية الصحيحة للنهضة العربية قبل الاحتلال الذي اعاقها، ووجهها في اتجاه آخر، قضى على عوامها ماديا، وبشريا، وفكريا،وذلك أن الحركة الصناعية في فلسطين، وسورية، ظهرت، كمصانع للنسيج، وعصير الفواكه، والخضروات، والحبوب في مدينتي حيفا، وحلب ..
وقد تجاهل الروائي المبدع موسى ولد ابنو، دور النهضة الأدبية التي ظهرت في بلاده في القرن الثامن عشر قبل الاحتلال الفرنسي،، وهي البداية المنسية في نصه الروائي، وكان الأولى به ان يستحضر الوعي الذي كان سباقا لمناقشة بعض المشاكل الاجتماعية من منظور الاجتهاد الرائد الذي كان خارج النص الشرعي، كالمطالبة بتحرير العبيد، استنادا الى فتوى أحمد بابا التنبكتي (1672 ـ 1556م)،، كما غاب في النص الروائي الوعي السياسي والديني المقاوم في المواجهة العسكرية للمحتل الفرنسي خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الاولى، وبعدها، كما بعد الحرب العالمية الثانية، كما استؤنفت المواجهة بعد الاستقلال في العام 1961 بما عرف باسم " عمارة النعمة"، ثم الاقتحامات الشجاعة لافراد المقاومة المسلحة التي تحصنت في جبل قرب مدينة " أطار" قبل انسحاب أفرادها إثر حصارهم من طرف جيش الاحتلال الفرنسي الذي اضطرهم للنزوح خارج البلاد.
والسؤال الذي أنهى به هذا الجزء من القراءة، هو: هل الوعي السياسي لدى الراوي في تعريفاته في الصفحة الافتتاحية الاولى، كان مطابقا له الوعي في النص الروائي؟
(يتبع)