يذهب علماء النفس إلى أن الضحية والجلاد قد تقوم بينهما علاقة حميمة حين يمتزج لدى الضحية شعور الخوف من الجلاد بشعور الإعجاب به فتتخذه مثالا تتماهى معه، فينقلب شعور الكره إلى حب جارف...
.ذاك ما حدث بين الإخوان المسلمين ومدير أمن ولد الطايع الذي طاردهم عقودا! فقد أصبح العقيد ضيفا شبه دائم على وسائل إعلامهم تلمع صورته، وتحاول خلق دور سياسي له. كانت الأخبار أَتْفُو آخر ضحايا العقيد المعجبة به. جلس العقيد إليها يروي قصص عسكري متقاعد، فتنصت إليه إنصات المستجد في الكتيبة إلى رئيس العرفاء... بدأ العقيد بكائيته بنحت مصطلح جديد.." التمرد العسكري الفردي"! لا بد أن المصطلح ترجمة ركيكة من أهل الأخبار، لجملة من فرنسية "اصنادره"؛ فالعقيد لا يكاد يبين بلغة الضاد، وينطق الحسانية بلكنة "بيوان" الضفة الأخرى... كل ذلك يعفينا من البحث العميق في دلالة "التمرد العسكري الفردي"، فهو "كوكتيل" من الآمال والآلام انتهت صلاحيته، وعندمَّا أراد العقيد التخلص منه في حاوية الإخوان غلفه ليتناسب مع نفايات القوم المصنفة بدقة ليعاد استعمالها...
تستمر معاناة العقيد مع الحموضة فيكتشف أن "الطبيعة لا تقبل الفراغ"! يقول بيظان هذه الضفة: "ألِّ فالقلب إهدرز بيه الْسان". فالعقيد يشعر أن الطبيعة السياسية في المعارضة تعاني فراغا في الزعامة؛ فقد خرج مسعود من الحلبة السياسية بعد هزيمة حزبه المنكرة في الانتخابات الأخيرة، ولم يشأ تعميق الجرح بالترشح للانتخابات الرئاسية، فرضي بأن يعود، كما كان، موظفا عند النظام يتقاضى راتبا شهريا مزجيا ويناضل ضد الإقطاع في تيفريت حيث يملك إقطاعا!!! أما الرئيس أحمد فهو شيخ كُبَّار له بنون وبنات تقاسموا إرثه في حياته وتركوه في دار "العجز السياسي" ليتفرقوا في الآفاق الحزبية، وله جيران سوء استبطئوا "موته" فزوروا عقد ملكية الدار ليخرجوه منها. أطل العقيد المتقاعد على خرائب المعارضة فقرر أن يبحث عن الكنز فيها، فعل المغامرين اليائسين. ولكي يعطي لفعله مبررا "علميا" اكتشف أن "الطبيعة لا تقبل الفراغ"، فقرر أن يجهز على عجائز المعارضة ليكون هناك فراغ يملؤه بالبيانات والتصريحات والمقابلات... ملأ العقيد الفراغ فسألته "الأخبار أَتْفُو": وما هو الحل من وجهة نظركم؟ فانقلب ناطقا باسم النظام! "... الحل لا بد أن يأتي بإرادة النظام، أو بدون إرادته..." يعترف العقيد بأسبقية إرادة النظام، وبقدرته على إيجاد ما يسميه العقيد "الحل"، ولا يطرح الاحتمال الآخر إلا بصفته تابعا للاحتمال الأول.." وإذا قبل النظام والأطراف السياسية الحل فبها ونعمت..." بذلك ينتقل العقيد من لغة الوعيد إلى لغة لعلها الوحيدة التي يتقنها. لكن الأخبار أتفو تحاصره حين تذكره بعنترياته..." أطلقتم عدة تهديدات خلال الفترة الأخيرة، وأعلنتم بعد الانتخابات استحالة الحل السياسي معه، ما هي آليتكم لتنفيذ هذه التهديدات؟" أحس العقيد بالحرج.. حملق في السقف، ثم طأطأ رأسه..
تحسس شنبه بيده اليسرى... وجد حلا "علميا" لفخ الإخوان الذين طالما أوقعهم في فخاخه.." الوضعية التي وصل إليها النظام الحالي تؤدي به إلى القضاء على نفسه، وهو ما وقع لعدة أنظمة أخرى..." (وكفى الله المؤمنين القتال). تنفس الصعداء ونظر في عيني الغلام متحديا. وظف العقيد انتصاره سريعا، فأجاب على سؤال تمنى أن يطرح عليه.."...
و هنا أعود لقضية كنت قد تحدثت عنها... وهي قضية قطع العلاقات مع إسرائيل،..." يسمي بيظان هذه الضفة فعل العقيد "لكلام فلمبيطيح"، أو "معص الموجب". ربما كان العقيد قد اتفق مع الحزب على أن يطرح عليه هذا السؤال، فلما استبطأه خشي أن "ينسى" القوم، كما "نسوا" وعودا ومواثيق عديدة، فقرر أن يطرحه على نفسه قبل أن تضيع الإجابة التي استظهرها من ذاكرته. لكن الغلام الماكر يذكره بمحاولة هروبه من سؤال وعيده، وفشل مناورته بالإجابة على أسئلة لم تطرح عليه..." مرة أخرى [يا شاطر!]، نعيد لكم السؤال نفسه، ما هو الحل مع ما تصفونه بنظام التمرد الشخصي؟" وجد العقيد نفسه محاصرا.. لا بد من الإجابة على السؤال مع تحاشي الفخ، فقرر أن يسخر من الحزب، والغلام، والقارئ.." أقول بكل بساطة إن قضيتي قضية مبدأ." يا راجل! (بجيم مصرية معجمة). ألم تنكر أي صلة لك بحزب البعث العربي الاشتراكي أمام المقدم محمد خونة ولد هيدالة، فأبقاك في الجيش وطرد زملاءك الشجعان أصحاب المبادئ الذين اعترفوا بانتمائهم للحزب العتيد؟ تجد ذلك في مذكرات هيدالة التي حررها ضحاياك بالأمس، و حلفاؤك اليوم، الإخوان ونشروها... فأين غابت عنك المبادئ في لحظة استحضرها فيها صحبك! فطن الغلام للسخرية فرد الصاع صاعين: "هل يقدم اعل ولد محمد فال نفسه كبديل عن المعارضة؟" خشي العقيد نيران القناصة فانبطح.."مشكلتنا الأولى اليوم هي مشكلة شخصنة الأمور..."
ونسي أن مصطلحه العتيد "الانقلاب العسكري الفردي" ليس سوى شخصنة للأمور، وبذلك يجيب أخيرا على السؤال الذي استعصى عليه، في دورتين؛ فهو لا يملك الحلول، وإنما يقترح المشاكل! يقرر العقيد والغلام إعلان الهدنة. فتفتح له الأخبار أتفو نفقا يخرجه من دائرة الأسئلة المحرجة.."س: في مجال علاقاتكم، يثار الكثير من اللغط حول علاقاتكم في إطار منظمة علاء الدين، وتتهمون في هذا الإطار بعلاقات مشبوهة مع اليهود، وعن خلو بياناتكم من أي موقف من العدوان على غزة، كيف ترون هذا الموضوع؟" إذا تغاضينا عن سقم اللغة، وهي حالة شائعة في إعلام الحزب، فلا بد من التوقف عند صياغة السؤال، فقد جاء بعد سؤال عن علاقات العقيد بأطراف عربية، فتبجح بعلاقاته العربية والإفريقية والدولية. وبذلك يُخفف وقع علاقاته "الأخرى"، فهو رجل علاقات لا تستثني أحدا! وتستمر نبرة التدليس التي يجيدها القوم فتوضع علاقاته موضع السؤال، "في إطار منظمة علاء الدين"، ويصبح ما تثيره تلك العلاقات من شجب شعبي واستنكار رسمي مجرد "لغط"! وتلك العلاقات ليست سوى تهمة! "وتتهمون في هذا الإطار بعلاقات..." وأخيرا يصل تدليس الأخبار أتفو قمته حين تتجنب ذكر إسرائيل.."...بعلاقات مشبوهة مع اليهود،..." وتختم بعبارة محايدة.." كيف ترون هذا الموضوع؟" مجرد موضوع للإنشاء! يعلم الإخوان أن علاقات العقيد مع الكيان الصهيوني مباشرة. فقد رفض قطع العلاقات معه حين كان في السلطة بإصرار لا يعادله إلا إصراره على رفض التصريح لحزب الإخوان بالعمل السياسي العلني. فإيراد كلمة اليهود بدل إسرائيل القصد منه إيهام القارئ بأن العقيد يتواصل مع يهود معتدلين، كما يزعم القرضاوي حين يلتقي بالحاخامات علنا و يخفي زيارته لإسرائيل التي كشفتها مطلقته الكاعب! وفي نفس السياق يأتي ذكر منظمة علاء الدين التي ربما لا يعرف عنها القارئ الكثير لكن اسمها العربي الديني لن يثير لديه الشكوك! الغريب في هذا السؤال أن الإخوان والعقيد تضافروا في حملة إعلانية لصالح اليهود في وقت تدمر فيه إسرائيل (كيان صهيوني لا علاقة له باليهود، رغم أن حكام الكيان يصرون على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل دولة لليهود!!!) قطاع غزة بحماس فوق رؤوس الفلسطينيين!!! اندفع العقيد في التضليل حول نشاطاته الداعمة لإسرائيل، وحول منظمة علاء الدين، محددا هدفها زورا في "الحوار حول القضايا الدولية، وبالتحديد العلاقة بين المسلمين واليهود." ثم يدعي الدفاع، ضمن هذه المنظمة الصهيونية "عن القضية الفلسطينية، وكل القضايا العربية" دون أن يورد مثالا واحدا! ولم ينس الموريتانيون صورته وهو يبكي ضحايا المحرقة، ولا يزال تأبينه لهم، بالفرنسية، موجودا على الشبكة. بدلا من ذلك ينتقل سريعا إلى الدفاع عن اليهود، والطعن على من لا يقر إجرامهم.." النغمة التي ترددونها [إذا كان ضميرك يعود إلى الإخوان، فقد مات منذ عقود] معزولة ومتقوقعة وفقيرة فكريا، وهي التهجم على اليهود دون التفريق بينهم... وهذه الصورة المتشنجة تجاه اليهود عموما لا أريدها أن تكون لدى الشعب الموريتاني." تلك هي الرسالة التي أراد العقيد إيصالها عن طريق الإخوان إلى الموريتانيين في وقت يلهوا فيه شبان اليهود المتطوعون من البلدان الغربية للقتال في غزة، باقتناص أطفال الفلسطينيين ونسائهم! إنه لتناقض عجيب! يسيِّر الإخوان المظاهرات تنديدا بالعدوان على غزة و يسخِّرون إعلامهم للدعوة إلى عدم التشنج ضد اليهود! لم تجرئ الأخبار أتفو على سؤال على العقيد عن موقفه من العدوان على غزة، ولم يطرح هو السؤال على نفسه، كما فعل من قبل، بل تجاهل الفقرة الأخيرة من السؤال الهدية، التي تثير على استحياء موقفه من العدوان على غزة! فكيف نفهم هذا التواطؤ بين العقيد والإخوان على الدعاية لليهود ودم ضحاياهم من الإخوان الفلسطينيين لمّا يجف! لا يقف التواطؤ بين العقيد والإخوان عند الدعاية لليهود، وإنما يتعداها إلى تضليل القارئ حول منظمة علاء الدين الصهيونية التي حددت أهدافها بوضوح مخالف تماما لما يروجه العقيد في وسائل إعلام الإخوان. تقول المنظمة الصهيونية عن نفسها.."تحرك مؤسسو مشروع علاء الدين من منطلق ضرورة دحض تزييف التاريخ حيث يرتكز التزييف على إنكار المحرقة والاستهزاء بها. نظرا لقلة المعلومات الموضوعية عن مسألة المحرقة باللغات الأساسية في العالم الإسلامي قاموا [كذا!] مؤسسو مشروع علاء الدين، بادئة بالعربية والفارسية والتركية، بنشر معلومات موضوعية فيما يتعلق بعملية الإبادة الجماعية النازية في المجتمعات التي لم يدرس فيها مطلقا تاريخ إبادة اليهود." أين هذا من الأهداف التي ذكرها العقيد، وروجتها الأخبار؟ فالمشروع يهدف إلى إشاعة تاريخ المحرقة، كما كتبه وفرضه اليهود. فلم يعد أحد في الغرب يستطيع مجرد التشكيك فيه لأن القانون يحمي الرواية الصهيونية للتاريخ، وهي سابقة لم يعرفها العالم من قبل! يمكنك، في الغرب أن تشكك في الرواية الرسمية للثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية، وحرب الوردتين، وأعداد البروتستانت الذين ذبحوا في فرنسا، والكاثوليك الذي أبيدوا في إنجلترا... لكنك لا تستطيع أن تثير أي شك حول طريقة كتابة الاسم الأول لأحد ضحايا المحرقة، وإن فعلت وجدت نفسك خلف القضبان في بلدان تشعل الحروب خارج حدودها دفاعا عن حرية الرأي، وتنفق الملايين، رغم الأزمة المالية الخانقة، لحماية أفراد يسخرون بدين سماوي يعتنقه أكثر من مليار من البشر! تحت عنوان: الخطوات الأولى، تقول منظمة علاء الدين الصهيونية:" لقد بدأنا بافتتاح موقع ألكتروني متعدد اللغات يقدم معلومات دقيقة تاريخيا حول الدين اليهودي والثقافة والتاريخ اليهوديين، وبالأخص حول إبادة اليهود، باللغات العربية والفارسية والتركية..." أليست هذه دعاية صهيونية واضحة، يشارك العقيد والإخوان في نشرها؟ فالتركيز على العربية والفارسية والتركية الهدف منه إشاعة الرواية الصهيونية للتاريخ بين الناطقين بهذه اللغات وغالبيتهم من المسلمين الذين يعرفون التاريخ، والثقافة اليهودية بشكل دقيق. وتحت عنوان: علاء الدين في العالم الإسلامي، تقول المنظمة الصهيونية.." أقام مشروع علاء الدين... مجموعة من المحاضرات حول إبادة اليهود كانت دون سابقة، في عشر مدن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا..."
لقد انكشف الأمر، فلا علاقة للشأن الداخلي الموريتاني بمقابلة العقيد مع جريدة الإخوان وإنما هي محاولة لصرف الأنظار عن مجازر الصهاينة في قطاع غزة والتخفيف من آثار سخط الشعب الموريتاني على اليهود الصهاينة، و لا غرابة في أن يبيع حزب تواصل حركة حماس من أجل مصالح آنية؛ فقد باع المعارضة في جبهة مناوأة الانقلاب، وباع النظام حين بدأ ربيع الإخوان، ثم عاد وباع المعارضة حين بدأت الانتخابات، ولن تنقم منهم حماس ذلك فقد باعت سوريا، وإيران وحزب الله بالجملة... هو إذن تحالف جديد بين الإخوان المطاردين دوليا وإسرائيل، عرابه ضابط أمن متقاعد، ووسيلته صحافة حزبية صفراء... ربما ارتبط كل هذا بعبور العقيد إلى الضفة الأخرى، يوما واحدا قبل تنصيب رئيسه المنتخب، ليجري مقابلة! لكننا لا ندري هل أجريت المقابلة في استوديو قناة محلية مغمورة، أم تحت جنح الظلام على ظهر زورق غامض مليء بالأسلحة، ما لبث أن غرق، أو أغرق... يقول بيظان هذه الضفة.."أَلِّ مدرك بليام عريان." و تقول التجارب.. المتحالف مع الإخوان مغدور.. اسألوا، إن شئتم، شباب محمد، والوفد، والأحرار، والقصر والوزارة، والضباط الأحرار، وحزب الأمة في السودان، والمعارضة والسلطة في موريتانيا، وشباب الثورة في مصر، والزنتان في ليبيا، و العقيد.. بعد أيام...