مرت بنا قبل أيام الذكرى الواحدة والخمسون لرحيل الزعيم العربي جمال عبد الناصر رحمة الله عليه. وكالعادة مع كل ما يخص الرجل بث قوم على صفحاتهم لواعج العشق والوله " بالمعلم والزعيم الملهم " وأقام آخرون حد الرجم على روح الشر وجددوا لصاحبها إقامته الجبرية في الدرك الأسفل من جهنمهم .
أكثر من نصف قرن ومازلنا أتباعا أو أعداء لعبد الناصر يستوي في ذلك من عايش عصره ومن ولد بعده بعقود ، فلا أتباعه يقبلون في حقه الطعن ولا خصومه يرون في سيرته خيرا. هذا الوضع الغريب يبين لنا حجم المأزق الذي تعاني منه أمتنا العاجزة عن استعمال العقل وآلياته التحليلية والبرهانية في تحديد مواقفها وفي تقييمها للأمور فالعاطفة هيي آلياتنا وبوصلتنا التي نقرأ بها التاريخ ونحلل بها السياسة ونمارس بها أعمالنا ونخطط بها للمستقبل ونجابه بها الأعداء والتحديات. وهنا لابد من التذكير بأنني مشمول بهذه الوضعية العاطفية وإن حاولت أن لا أتركها عاطفة عمياء لأنني عميق الإنتماء إليكم .
كيف لا أكون مشمولا بهذا الحديث وقد أفنيت زهرة الشباب ناصريا ومازلت كذلك من وجهة نظر معينة لا يغمط صاحبها الرجل حقه ولا يعطيه ما ليس له أوهكذا يريد أن يكون.
أيها الأحباب الناصريون لقد عودتمونا على مطالبة الغير بإجراء المراجعات الفكرية و نقد الذات وتقييم التجربة فهلا بعد أن بدأنا بهم نختم بأنفسنا.
إننا نظلم عبد الناصر ونظلم الأمة حين نجعل من الحرية الإستراكية والوحدة ثوابت نظل لها عاكفين فعن أي حرية نتحدث أعن الحرية كما مارسها عبد الناصر أم عن الحرية كما حلم بها ، من البدهي أن الحرية في ممارسته كانت محدودة بغض النظر عن التبريرات أما الحرية في حلمه ومخياله كما فسرها في خطبه وكتبه فليست أكثر من جهد يذكر ويشكر لممارسة التنظير
فالحرية كانت حلما أزليا عند كل الأمم والشعوب وقد لهجت بها ألسن كل القادة والفلاسفة وتغنى بها الشعراء وتحدثت عنها كل الأديان وأقصى ما يناله رحمه الله من ذلك أن يكون قد قدم تصوره النظري لها ليزاحم به في معترك التصورات التي لا تنحصر. وماينطبق على الحرية ينطبق على الاشتراكية والوحدة
أما وثائق عبد الناصر فليست أكثر من برامج عمل مصري مرحلي محدد المكان والزمان كما بين ذلك عبد الناصر نفسه في هذه الوثائق وهي بذلك لا تختلف عن البرامج السياسية والاقتصادية للزعماء في مراحل وأماكن محددة
لذلك أرى أنه لزاما على الناصريين أن يتجاوزوها فهي ليست كتبا مقدسة لا ياتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وإنما هي تصور قائد لما ينبغي أن يكون عليه بلده في لحظة معينة لا أكثر ولا أقل
أحبتي الناصريين : أعلم أن البعض سيسألني ماذا تركت من عبد الناصر للناصريين وللأمة التي آزرته ومشت خلفه كالبحر الزاخر إلى أن أودعته اللحد في مشهد لم يتأت لزعيم قبله ولا بعده وسيسألون أي نوع من الناصريين أكون ؟
لكم ولي وللتاريخ أقول إن ثوابت عبد الناصر التي أكون ناصريا وفقا لها هي :
- وقوفه ضد الاستعمار والامبريالية الغربية
- وقوفه ضد الأحلاف والقواعد الأجنبية وضد مشاريع الهيمنة في المنطقة
- وقوفه الثابت مع الحق الفلسطيني وضد المشروع الصهيوني التوسعي
- انحيازه للفقراء والعمال ضد تحالف الرأسمالية والإقطاع
- دعمه للحركات التحررية في العالم
- سعيه للوحدة العربية وإيمانه بأنها السبيل إلى نهضة الأمة
هذه هي ثوابت عبد الناصر وثوابت الأمة التي كرس لها حياته وإن لم يستطع تحقيق بعضها لكنه اجتهد وظل على الدرب وقد أصاب في أشياء وأخطأ في أشياء وأحسن في أشياء وأساء في غيرها وتلك طبيعة الأمور
أيها الناصريون : إن عبد الناصر لم يكن أكثر من صفحة أو مرحلة تاريخية من نضال أمة عظيمة وقد استمد مجده ومكانته من حمله لهموم الأمة وخدمته للمشروع القومي وليس العكس فلا تسيرو عميانا خلف الفرع متناسين الأصل
إن اختزال المشروع القومي في الرؤية الناصرية تقزيم وإجهاض لمشروع نهضة أمة وظلم لعبد الناصر وتحكيم لعاطفة جارفة جاشت بحب الرجل ، لكننا في غمرة لهيب تلك العاطفة ننسى أن سبب ذلك الحب والحنين كان حمله لواء الهم القومي
لقد آن لنا أن نضع الأمور في نصابها فنجعل عبد الناصر وغيره في مكانهم وحجمهم الصحيح كخدام للمشروع النهضوي العربي لكن الأمة والقومية العربية كانت موجودة قبلهم وقبل نجاحاتهم وإخفاقاتهم وستبقى بعدهم وبعد طي صفحاتهم
إننا نظل ناصريين حين نعود قوميين ونمارس أعظم الأخطاء في حق القومية حين نكون ناصريين وبعثيين وغير ذلك من التقسيمات التي يأباها العقل والمنطق والمصلحة وتتجاوزها الأحداث وحركة التاريخ وتصبح محاولات الدفاع عنها وتبريرها مع الوقت محرجة إلى أن تصبح مستحيلة
موسى ابياه