(من مذكرات صناع الوطن)
::::::::::::::::::::::::
كيف استقبلت موريتانيا وفاة الرئيس جمال عبد الناصر؟
وكيف تصرفت الإذاعة مع الحدث؟
عندما كنت استقبل سليمان بن الشيخ سيديا في المنزل مساء يوم 28 شتنبر 1970 في المنزل حيث جلسنا على حصير أمامه لاحتساء الأتاي، فاجأنا دحود بن أحمد سالم الموظف في القسم الفني بالإذاعة، ليقول لي بصوت خافت "لقد مات الآن جمال عبد الناصر". فلم أسمع جيدا ما قال، وطلبته أن يعيده، فكرر ما أعلنه بصوت مسموع هذه المرة.
وقد طلب مني أمين المكتب السياسي الدائم لحزب الشعب المسؤول عن الإعلام (بدرجة وزير) أحمد بن محمد صالح الانتظار عندما اتصلت به هاتفيا لأخبره بالحدث، وأطلب منه التعليمات. وانتظرت ربع ساعة، دون وصول رده، ثم توجهت إلى دار الإذاعة لأجد رئيس التحرير، محمد سعيد بن همدي، وهو منفعل من عدم إعلان الخبر فورا. فطمأنته مع بقية الزملاء، وقررنا التصرف بعد أن ينتهي المذيع الطالب بن جدُّ من قراءة النشرة المسائية الرئيسية (20.30) التي كان في منتصفها، وليس له علم بالخبر. وعندما انتهى دخلت الأستوديو، حيث نعيت الرئيس جمال عبد الناصر إلى الشعب الموريتاني وإلى العرب والمسلمين وإفريقيا، وعزيتهم بوفاته، ثم بدأنا فورا إذاعة القرآن الكريم، واقترحنا أن يسمى شارع الكثيب باسم جمال عبد الناصر، وهو ما تم بعد ذلك بأيام.
وتولى رئيس التحرير مهمة التغطية الإخبارية اللائقة، بمساعدة الزملاء في قطاعات الإذاعة كلها، من خلال بث معلومات عن ناصر وحياته وإنجازاته ومكانته العربية والإفريقية والإسلامية والدولية، ودور مصر في تحرير القارة الإفريقية من الاستعمار، وفي حركة عدم الانحياز التي كان يقودها مع رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو وجوزيف تيتو رئيس الاتحاد اليوغوسلافي، وعن علاقات مصر في عهده بموريتانيا ومواقفها الداعمة لها، وردود الفعل على وفاته المفاجئة. وتم التعامل مع هذه الفاجعة بروح من الجلَد والتضحية والمسؤولية التي اشتهر بها ذلك الجيل من الإعلاميين والفنيين.
وبدأت إذاعة القرءان الكريم من المصحف المرتل لمحمود الحصري، حيث انطلق ذلك التقليد، وهو توقف برامج الإذاعة العادية واقتصارها على بث القرآن الكريم، عند وفاة رجالات الدولة وطنيين أو عربا أو أفارقة مسلمين، ممن يعلن عليهم الحداد الرسمي. وبعد ذلك بسنوات عندما كنت أقضي عطلتي بالرشيد التي أستريح فيها من الاستماع إلى الإذاعة وتصفح الكتب، طلبت من أحد المواطنين أن يخبرني عن آخر الأحداث، فقال لي "لقد مات الكويت اليوم". فقلت له ومن أدراك بذلك؟ قال:"إنهم يذيعون القرءان" عندها استمعت إلى الإذاعة، لأجد أن "الكويت" هو يوسف كويتا، رئيس البرلمان.
ولنعد لحادثة وفاة الرئيس عبد الناصر، لنقول إنه بعد حوالي عشرين دقيقة من إعلانها في الإذاعة، وبدء إذاعة القرآن الكريم، اتصل بي الأمين الدائم الذي كنت أخبرته ـ كما ورد من قبل ـ ليطلب إلي أن أذيع خبر الوفاة، وأغير برامج الإذاعة، لأنه لم يكن يتابع ما قمنا به، لانشغاله بزيارة الرئيس في منزله حتى يتلقي التعليمات منه[1].
وأريد أن أصارح القارئ، بأنني عندما أعلنت ذاك النبأ الذي كان له وقع الزلزال، تجلدت حتى لا أتثر به، ولكنني عند ما كنت في دمشق سنة 1982 وأشاهد في التلفزيون مجازر صبرا وشاتلا بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان بكيت لهذا الهوان الذي أداه غياب جمال عبد الناصر عن الساحة، رغم كونه يتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية نكسة 1967.
لقد كانت لعبد الناصر مكانة في موريتانيا، كغيرها من البلاد العربية وفي إفريقيا، لم يحتلها أحد قبله، مما يؤكد الروابط العضوية التي تجمع بين العرب في كل مكان.
(من كتاب الوزير "تجربة وزير مدني في حكوم عسكري")
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لم تتلق الإذاعة تأنيبا ولا حتى ملاحظة، عن عدم انتظار الأوامر في تعاملها مع هذا الحدث، مما يعطي الدليل على أن هامش المبادرة الذي كان مديرو مؤسسات الدولة يتمتعون به واسع. وقد حكى لي بعد ذلك أحمد بن محمد صالح أن سبب تأخر إعطاء الأوامر، المأدبة التي كان يقيمها في منزله تكريما لسفير مصر محمد محمود التهامي، مما جعله يحاول كتم الخبر حتى ينتهي العشاء؛ ثم إنه أبلغ الرئيس المختار الذي أصيب بصدمة قل أن يُرى مثلها. وقد شارك الرئيس على رأس وفد كبير في مراسم تشييع جنازة الرئيس عبد الناصر في القاهرة، ومثل الإذاعة عبد الله بن بَبَكّر، وهو صحفي آنذك متعاون، لكنه أبدى رغبة في أن يتولى هذه المهمة، فكان له ما أراد وغطى الحدث بكفاءة.
من كتاب مذكرات وزير مدني فى حكومة عسكري للمثقف الكبير والكاتب الصحفي معالى الوزير والسفير: محمد محمود ولد وداديطظظ