ازدهرت تجارة الصمغ العربي في القرنين الثامن والتاسع عشر ميلادي في المنتبذ القصي ، وقد أنشا الأوروبيون مراسيَ علي ضفاف الأطلسي ونهر السنغال لتبادل التجارة وشراء الصمغ والملح وعقدوا مع اهل هذا المنتبذ اتفاقيات للتجارة وتأمين سفنهم مقابل عملات وبضائع وامتيازات تدفع لهم تسمي آمكبل (Coutumes).
.
ومن مظاهر قوة الأمير أعمر آگجيل ولد هدي أمير اترارزه أن السفن كانت لاترسو إلا بإذن منه ، والهدايا الكثيرة (آمكبل)التي كان يغدقها عليه أصحاب السفن ، فيوزعها بدوره على العافين ، وإلى ذلك يشير العلامة الشاعر سيدي عبد الله ولد رازگه في رثائه له:
أيجتمع البحران إلا إذا رسا :: سفين مدنات إليه قواربه
يحكمه ربانه في نفيسها :: ويدعوه فيما يصطفى فيجاوبه
فيصدر ركبا بعد ركبٍ ثقيلة :: بما وهبت تلك اليمين ركائبه
فنبصره عذبا فراتا غطمطما :: يذِلُّ له حقو الاجاج وغاربه
تزاحم في بث الجميل تسابقاً :: إلى شكره أفواهه وحقائِبُهْ
إلى بابه في كل تيهاَء منهج :: يؤدي إليه طالبَ العرف لاحبُهْ
كما كان الأوروبيون يهدون تلك الهدايا إلى الأمير المجاهد الشهيد بكار ولد أسويدأحمد رحمه الله تعالى الذي كان يسير فيها سير أمراء المغافرة فيوزعها على الفقراء.
يقول المؤرخ سيدي بن الزين العلوي رحمه الله وهو معاصر له :
كان لا يأخذ لنفسه شيئا مما يأخذه من التجار الذميين المسمى بـ (آمكبل)وكان يأتيه فيه مال كثير متنوع فكان يجعل ذلك كله للفقراء والمساكين.
ومع مجيء الحاكم الفرنسي (لويس فيدرب - Louis Faidherbe) المعروف محليا بـ (امّيْسَ فَدْرُو) ، حاول إلغاء اتفاقيات التبادل والإتاوات ، وفرْض واقع جديد تكون فيه الغلبة لفرنسا وشروطها.
وبعد مؤتمر تندوجة سنة 1856 واتحاد إمارات اترارزة ولبراكنة وإدوعيش ووقوفهم ضد مشاريع فيدرب الاستعمارية وبعد مناوشات مع الفرنسيين سنتي 1855 و 1856 وقعت فرنسا اتفاقية مع أمراء اترارزة ولبراكنة وإدوعيش، حُدِّدت فيها موانئ التبادل التجاري
في ميناءي: (ماتام، وبكّلْ) للتبادل مع إدوعيش
وميناء (پُودُور) للتبادل مع لبراكنه
وميناءي: (دگانه وسان لوي) للتبادل مع اترارزة.
كان العالم ابن محم ابن اخطيره الحسني ، من الأوائل الذين دخلوا في اتفاقيات مع الأوروبيين في قرية ادويره (Podor) في إمارة لبراكنة حيث أسند العالم مهمة تأمين السفن لأمير لبراكنه (امارة أهل السيد) آنذاك مقابل هدايا ونقود تدفع عن كل سفينة وتعرف هذه لاتفاقيات محليا بـ (آمكبل) دامت هذه الاتفاقية حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
ذكر المؤرخ الفرنسي بول مارتي (Paul Marty) في كتابه إمارة الترارزة:
" كانت قبيلة إداب لحسن من أوائل القبائل التي دخلت في اتفاقيات مع الأوروبيين في أدويرة (podor) افتتحوا تجارة الصمغ علي حافة لبراكنة، كما فعل إيدوالحاج آنذاك على حافة الترارزة ( نهاية القرن السابع عشر)، كان زعيمهم (العالم) يأخذ آمكبل عند "مرسي الديك" l’escale du coq "
( ص 187 ).
ويقول الشاعر أحمد بن عبد الله بن أبي الفاضل الحسني الملقب بالشويعر الحسني 1795 - 1873 م ، في أرجوزته يمدح حبيب الله ابن جاجا ابن العالم (الذي وقع الاتفاقية مع القائد كايي 1842م Le Capitaine Caillé) .. ويسطر بماء الذهب من أخذوا ( آمكبل) من أسرة أهل العالم بدءا بالعالم حتى وصل إلى الممدوح:
الخفراء الشم من بني الحسن :: خذهم أبيت اللعن في نظم حسن
أول من قام بأمر السفن :: وانقادت الروم له في رسن
العالم الندب الرضي نعم الفرط :: بمثله صرف الزمان ما غلط
ثم الخليفة ابنه محمدو :: أثرت به جيرانه والوُفَّدُ
ثم حبيب الله ذو الخلال :: أكرم به من ماجد مفضال
والمصطفى تالهيم في الملك :: فيالها من درر في سلك
ثم أخوه صنوه وجاحا :: المرخصان ما غلا وراجا
ثم الفتى كل الفتى المختار :: أتت عليه ملكا أعصار
فهؤلاء أمرهم قد انقضي :: جادت على أجداثهم سحب الرضي
ثم انتهى الملك إلى المفضال :: أعني حبيب الله خير ءال
واسطة العقد وحلية الندي :: ذو المنن الغر البواد العوّدِ
كأنما في وجهه مصباح :: وفي اليمين عارض سحاح
من بعد ما أربا على العشرينا :: أبقاه ربي ملكا تسعينا
دائنة له طغاة الروم :: ديانة الخدم للمخدوم
مثلت هذه الأرجوزة سردا ملحميا رائعا لأمجاد عائلة أهل العالم واختصاص هذه العائلة بامتياز آمكبل الذي كان يدفعه الأوروبيون لوجيه القبيلة وزعيمها مقابل حماية الحق الحصري لهم في شراء الصمغ العربي.
ذكر هذا الرحالة المعروف عند البيظان باسم" ولد كيجة" Renné Caillé في كتابة " يوميات رحلة إلى تومبوكتو وجني (Journal d’ un voyag à Tembotou et Jenné)
والتي كانت في العام 1824 الموافق 1239 هجري، عندما وصل إلى مرسى فأدوية Podor وصف مشاهدته لطريقة التعامل التجاري آنذاك بين البيظان والأوروبيين، وهذا نص ما كتب:
" ... فقط بعد الاتفاقية الموقعة بين الطرفين ( البيظان والأوربيين ) يمكن للقارب بدء التعامل؛ حتى ذلك الحين، يظل ممثلو البيظان، الذين يطلق عليهم اسم أهل العالم، على الشاطئ لمنع الصمغ من الصعود على متن السفينة، هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يراقبون السفن التي يتم تعليق تجارتها.
الرسوم التي يدفعها التجار كبيرة، قارب يتراوح حجمه من خمسة وعشرين إلى ثلاثين ألف وحدة من الصمغ، يدفع مقابله عادة مائة وعشرين أو مائة وثلاثين قطعة نقدية من العملات الأجنبية (آمكبل) ؛ التي يجب أن تضاف إليها ثلاث أو ربع قطع من الهدايا للأمراء، وهو ما يسمى واجب الأمير، واثنتان أو ثلاث لأهل العالم، في حال لم تحترم تلك الترتيبات سيقوم أهل العالم بتحويل الصمغ لصالح قوارب أخرى.
بعد أن تتم الموافقة على كل هذه الشروط، تتم العملية وفق الترتيب التالي يدخل القارب في الاتفاقية:
يقترب من الشاطئ؛
يتم إنشاء جسر لتسهيل الاتصال؛
التاجر ( الأوروبي ) لديه كوخ مبني على الشاطئ لإيواء أكوامه، والطهي للطاقم، والراحة عندما يذهب إلى الشاطئ....ضيافة أهل العالم من قبل جميع التجار المتعاقدين معهم بصفة مشتركة بينهم، كما يضيف الأمير والأميرات عندما يأتون إلى محطة التوقف؛ كل من يرفض الامتثال لهذه الإجراءات سيتوقف عن التعاقد معه" مترجم من ( الصفحة 197- 198).
كانت هذه الاتفاقية ذات نفع اقتصادي كبير علي الحسنيين عامة ووطدت علاقتهم مع امارة لبراكنة (اهل السيد) وجلبت منافع للطرفين.
انفق اهل العالم من ما جنوه من خيرات آمكبل علي الناس حتي صاروا مضرب مثل في السخاء والكرم.
يقول اطفيل الگناني
أهل العالم شمس العالم :: لقطاب الزهر المعالم
للحشر أرد المظالم :: ادخلوها ياهل العالم
لدار القدير العالم :: فيد لخبار إلى جين
انگول الهم عليين :: بسلام ءامنين
كامل الود