قبل الولوج في محاولة سبر أغوار تصّرفات السواد الأعظم من الحكّام العرب حيّال العدوان البربريّ والهمجيّ على قطاع غزّة من قبل دولة الاحتلال، لا بدّ من التشديد على أنّ هناك بونًا شاسعًا ما بين النقد الموضوعيّ وبين الجلد الذاتيّ،
.ولكن في حالتنا العينيّة، أثبت العرب مرّة أخرى، أنّ المؤامرات على الشعب العربيّ الفلسطينيّ باتت على المكشوف، ذلك أنّ ضمير الأمراء والملوك والمشايخ في مضارب الخليج، انتقل إلى جوار ربّه، أمّا الكرامة فقد أصبحت عملة نادرة للغاية من المُحيط إلى الخليج، وفيما يتعلّق بالشرف، فحدّث ولا حرج، الشرف العربيّ الرسميّ تحوّل إلى إعلان الولاء الكامل لإسرائيل والتبعيّة المُطلقة لأمريكا، التي حولّت قطاع غزّة إلى جحيمٍ، قتلت الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة، وقامت طائراتها الحربيّة، التي تمّ تزويدها بالوقود من قبل الولايات المتحدّة الأمريكيّة، قامت بإلقاء قنابل بزنة طن، لتغتال براءة الأطفال الفلسطينيين. ولكن، ما العمل يا أعراب القرن الـ21، غزّة هاشم صمدت، رفضت أنْ تركع، بسالة المُقاومة على جميع فصائلها أربكت صنّاع القرار من المستويين الأمنيّ والسياسيّ في تل أبيب، وللتدليل على ذلك، نُورد في هذا السياق، تصريح وزير الخارجيّة الأمريكيّ، جون كيري، الذي قال أمام وسائل الإعلام على مختلف مشاربها إنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ اتصّل معه هاتفيًا عدّة مرّات متوسّلاً وقف إطلاق النار.
***
لا نرغب، بلْ لا نُريد الحديث أكثر من اللازم عن المتآمرين العرب، لأنّهم لا يستحّقون ذلك، مصر، أكبر دولة عربيّة، تلعب دور الوسيط من أجل إنقاذ نتنياهو من ورطته، والرئيس المصريّ، عبد الفتّاح السيسي، يُريد تسجيل النقاط على حساب الدم الذي نزف وما زال ينزف في غزّة. السؤال الذي نحن بصدده: ما هي نتائج العدوان؟ من هُزم ومن انتصر؟ في الحقيقة، ما زال الوقت مبكّرًا للإجابة على هذا السؤال المفصليّ، ولكن يُمكننا القول والفصل أيضًا إنّ إسرائيل، التي تملك أقوى جيش في منطقة الشرق الأوسط، هذا الجيش الذي باستطاعته الانتصار على جميع الجيوش العربيّة مجتمعةً، إسرائيل، التي تزعم أنّ جيشها لا يُقهر، لم تنتصر في حربها العدوانيّة على فصائل المُقاومة الفلسطينيّة، في المقابل، المُقاومة الفلسطينيّة لم تُهزم أمام أعتى جيش، الذي يدّعى أركان دولة الاحتلال بأنّه الجيش الأكثر أخلاقيةً في العالم. من المُمكن، القول لا الجزم، إنّ الحرب انتهت بنتيجة التعادل بين الطرفين على الرغم من عدم تكافؤ القوى بينهما، والتعادل في هذه الحالة هو انتصار محدود الضمان للطرف الضعيف أمام الجانب القويّ، المدعوم من أمريكا وأوروبا والدول العربيّة. وإذا لجأنا إلى لعبة كرة القدم، فإنّ الفريق، الذي يُعتبر ضعيفًا أمام منافسه، الذي يحتّل المرتبة الأولى، تمكّن من فرض نتيجة التعادل، وبذلك سببّ خسارة كبيرة لجميع الذين راهنوا على فوز القويّ، وهذا ما حدث لدولة الاحتلال ولمن يدعمها من عربٍ وعجمٍ. أيْ أنّ المُقاومة حقّقّت الاهتياج والإثارة في آنٍ واحدٍ، أوْ كما يُقال بالإنجليزيّة: .Sensation
***
نتنياهو كان على علمٍ بأنّ المُقاومة الفلسطينيّة ستُبلي بلاءً حسنًا في الدفاع عمّا تبقّى من كرامةٍ للعرب، ولكن في كوابيسه السوداء، لم يحلم بأنْ يكون أداء المُقاومة ممتازًا، لا بلْ أكثر من ذلك، أداءً مع علامة الامتياز. وبالمناسبة، مع أنّ الرقابة العسكريّة في الدولة التي تزعم، زورًا وبُهتانًا، أنّها الدولة الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط، مع أنّ الرقابة فرضت تعتيمًا إعلاميًا لم يسبق له مثيلاً، فقد تمكّنت بعض وسائل الإعلام العبريّة، وهنا التشديد على الإعلام العبريّ، بصفته إعلامًا متطوعًا لخدمة الأجندة الإسرائيليّة الرسميّة، تمكّنت من النشر عن أنّ جهاز الأمن العام (الشاباك) أخفق إخفاقًا كبيرًا في العدوان الأخير على غزّة، وكانت المرّة الأولى التي تحدثوا فيها عن هذا الإخفاق، عندما زعم مسؤول عسكريّ رفيع المستوى في جيش الاحتلال أنّ بنك الأهداف في غزّة قد نفذ، وأنّ الطيّارين اشتكوا من هذا القصور، ولكن مع ذلك، نُضيف نحن في هذه العُجالة سؤالاً إلى دوائر صنع القرار في تل أبيب: كيف ولماذا لم تتمكّنوا من اغتيال أيّ قائد عسكريّ أو سياسيّ من حماس أو من الجهاد الإسلامي أوْ من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين؟ وهناك سؤال آخر: القائد العام لكتائب الشهيد عزّ الدين القسّام، محمد الضيف، الذي حاولت إسرائيل اغتياله عدّة مرّات وفشلت، استطاع تسجيل شريط وبثته جميع وسائل الإعلام، أين كانت مخابراتكم؟ نعم، ستقولون وستردّون مرّة أخرى وستستخدمون الحجّة الممجوجة حتى النخاع: القادة كانوا يختبئون في المستشفيات تحت الأرض، ولكنّكم، لماذا تكذبون على أنفسكم، ألَمْ تقصفوا المستشفيات في قطاع غزّة؟ نعم كبيرة. وهذا الفشل المدّوي يؤكّد لكلّ مَنْ في رأسه عينان على أنّ قطاع غزّة أصبح خاليًا من العملاء، الذين كانوا يُزّودون المخابرات الإسرائيليّة بالمعلومات، بكلماتٍ أخرى، اختفاء العنصر الإنسانيّ من العمل لصالح المخابرات، هو نجاح وفق كلّ المقاييس والمعايير للمُقاومة الفلسطينيّة. نميل إلى الترجيح بأنّ لجان التحقيق في إسرائيل سوف يتّم تشكيلها تحت مُسّميات مختلفة لفحص الإخفاقات في الحرب الإجراميّة الأخيرة، إنْ كان من المستوى السياسيّ أوْ الأمنيّ، وهنا المكان وهذا الزمان لتذكير من فاته قراءة مقال المُحلل الإسرائيليّ المُخضرم، بن كاسبيت في صحيفة (معاريف) العبريّة، والذي قال فيه إنّ مصير نتنياهو السياسيّ بات متعلقًا بمحمد الضيف.
***
هناك الكثير من الأسئلة التي تطفو على السطح، وعلى سبيل الذكر لا الحصر: هل المخابرات الإسرائيليّة لم تكُن على علمٍ بأنّ المُقاومة تقوم بحفر الأنفاق الهجوميّة؟ إذا كان الجواب نعم، فهذه مأساة لهم، وإذا كانت تعلم، فهذه كارثة، لأنّه في الحالتين، أثبت الشعب الفلسطينيّ الذي يقبع في أكبر سجن في العالم، قطاع غزّة، والذي تصل مساحته إلى 365 كيلومترًا فقط، أثبت قولاً وفعلاً أنّ الحاجة أم الاختراع، وأكّد أيضًا على أنّه شعب الجبّارين، الشعب الخلّاق، الذي لا يبخل في تلقين جميع شعوب العالم دروسًا في المُقاومة، ولكن الأهّم من ذلك، أثبت أنّه قادرٌ على تعليم حبّ الحياة للإنسانيّة جمعاء في هذه المعمورة. أقطاب إسرائيل، عن طريق الإعلام المتطوّع، حوَّل الأنفاق إلى ذريعةٍ للإجهاز على ما تبقّى من غزّة، ولكن ما نسيه حكّام الدولة العبريّة، أنّ القنابل والأسلحة المُحرّمة دوليًا، والعتاد الفتّاك، أوهن وأعجز من انتزاع إرادة شعب قرّرّ التحرر من نير الاحتلال. مُشكلة إسرائيل، أوْ بالأحرى الطامة الكبرى لديها، وهذه وُجهة نظر قابلة للنقاش، أنّه بعد أكثر من 66 عامًا على النكبة ترفض تذويت الحقيقة التي تحولّت إلى بديهيّة، وهي أنّها على الرغم من قوّتها العسكريّة لم تتمكّن من تدجين وترويض الشعب العربيّ الفلسطينيّ، الذي ما زال يُقدّم الشهداء من أجل التحرر وتقرير المصير، وذلك لإيمانه المُطلق بعدالة قضيته.
***
وهناك فشل آخر لا بدّ من ذكره: خلال العدوان هرب من مستوطنات ما يُطلق عليه (غلاف غزّة) أكثر من ثمانين بالمائة من السكّان خوفًا من الأنفاق، وفي شمال البلاد بدأ المواطنون يتحدّثون عن سماع أصواتٍ غريبةٍ، تحت بيوتهم، وشكّكوا في أنّ حزب الله يقوم بحفر الأنفاق الهجوميّة. الحرب وضعت أوزارها، ولكنّ سكّان الجنوب يرفضون العودة إلى مستوطناتهم، بمعنى أخر، عدم العودة هو بمثابة رسالة حادّة كالموس لنتنياهو بأنّ العملية الإجراميّة لم تُحقٌّق أهدافها، بل زادت الطين بلة، كما يقول المثل العاميّ. الشعب الفلسطينيّ في قطاع غزّة قدّم حوالي ألفي شهيد، عطّر دمهم الزكيّ تراب الوطن الغالي، ولكن هذا الشعب، الذي ما زال مُصرًا على تحقيق حلمه بتقرير مصيره، وعلى الرغم من الخسائر البشريّة والماديّة، وجّه رسالةً غيرُ قابلةٍ للتأويل: تحرير فلسطين، يتّم عبر المُقاومة، التي نصّت عليها الشرعيّة الدوليّة.
***
وفي النهاية نقول: نعم، نعم لنزع سلاح المقاومة… نحن نُوافق على المطلب الإسرائيليّ بنزع سلاح المُقاومة الفلسطينيّة، ولكن بشرطين: الأوّل، نزع سلاح العصابات الإجراميّة من العالم السفلي في الدولة العبريّة، وثانيًا، نزع الأسلحة النوويّة التي تمتلكها دولة الاحتلال، والتي بحسب المصادر الأجنبيّة، تصل إلى 300 رأس نوويّ. ونُتابع: نحن نُعلّمكم الإنسانيّة، نحن نُدّرسكم المُقاومة. نحن قبل العروبة، وقبل فلسطين، نُحّب الحياة، فلماذا تقتلون، يا عرب المؤامرات، حتى حُلمنا بتقرير مصيرنا؟ العرب منكم براء! والإنسانية منكم براء! لماذا نعود باللائمة على العدو الغدّار والمكّار، الوحشيّ والبربريّ، في الوقت الذي يقوم فيه إخوتنا المفترضين، بالمُشاركة الفعالّة في سفك الدماء الفلسطينيّة بالمزاد العلنيّ… دمعة طفل فلسطينيّ أشرف وأنبل منكم يا عرب أمريكا وإسرائيل من المحيط إلى الخليج.
كاتب وصحافي فلسطيني