سأحاول في هذه السطور أن أتحدث عن واقع النقد والنقاد في شعر الحسانية، وأن أكشف عن مدى الفوضى التي يشهدها هذا الفن في أيامنا هذه، وإن أقدم ما أراه صوابا بدل ما أراه خطأ، على أن أحتج لآرائي بالأدلة القاطعة حتى لا يحسب حديثي محض تحامل، كما أن ذلك لن يكون بالتفصيل، لكن كما يقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
.
ثم إني لا أعني بما سأسطر هنا شخصا معينا، وإنما يرد ذلك لتبيان واقع النقد والنقاد في هذا المجال، فإن أشرت إلى هنة عند ناقد فإنما أعني نقده لا شخصه، وباختصار فإني أقدم للقارئ الكريم الملاحظات التالية:
أولا، أقول إنه لابد لمن يتصدى للنقد في أي مجال، أن يكون ملما بثقافة عالمة أيِّ ثقافة، لكي يستفيد من آليات النقد الممنهج الذي بني على أسس مقنعة، وليتمكن من استنطاق الأدلة واستقراء النصوص، وليكون قادرا على الاطلاع على مدلولات الألفاظ وأبعادها، حتى يكون على بصيرة من أمره فيستحسن ويستهجن عن بينة، ويبتعد عن النقد الانطباعي الظالم.
إن بعض – ولا أقول كل – من يحترفون نقد الشعر الحساني ،حسب متابعتي لهم إحدى السنوات الماضية، لا يجيدون النقد في هذا المجال، فنراهم ينكرون على المشارك ما دأب عليه كبار شعراء الحسانية المتمكنين، مثل ان يأتي في التافلويت بـ (امنَين) و في مقابلتها بـ (امتِين) ومنه:
واعمل بالياليه ؤليام
لين الحگ منها بل امنَين
عاد إبانو لو روص اخشام
اكد تگانت متحدِّين
ومنه قول امحمد ولد هدار في مطلع طلعة له:
گطيت امن احذ راص امشَيت
أهل التلمودي من حاشِيت
العلب ال فم افلبتيت
اسميت صدرو عكلي
والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى في مجلدات أحرى في عجالة.
كما نراهم يسكتون لآخر عن عيب مفسد، لا يمكن أن يوجد منه مثال في مدونة الشعر الحساني الصالحة للاحتجاج، كأن ينهي شاعر الحسانية – في غير المومايه، أو ابتوته لم تعد مستعملة – الكلمة المكونة من حرفين فأكثر بمتحرك، ثم يبدأ تاليتها بهمز وصل، مثل: (اتعَدَّ الناقد)
هذا وتستثنى هنا كلمات: اعلَ، هاذَ، امعَ، كما تزخر نصوص “لغن” بالشواهد على ذلك، ومنه – مثالا لا حصرا – قول المرحوم أربان ولد أعمر ولد محم:
في مطلع طلعته المتداولة:
هاذ الدهر اتف بيه
مارت عنُّ غدار…
ؤمارت ماتور فيه
حلاو ما تمرار
والحقيقة أن الشعر الحساني شعر ثقافة شعبية يقرضه العالم والجاهل، ولم تعرف الثقافة الحسانية النقد بمفهومه الصحيح، ولما يُبْنَ لشعرها نقد ممنهج حتى الآن، وحتى شعر الفصحى لم يبدأ يتبلور له نقد ممنهج بمعنى الكلمة – بما في ذالك تقعيد أوزانه – إلا مع الاحتكاك بالثقافات العالمة لدى الأمم الأخرى، ليظهر لاحقا ما يعرف بنقد النقد، فعلى من يتصدى لنقد شعر الحسانية – مثلا – ان يلم بأدب الفصحى أو بأدب إحدى اللغات العالمة أولا على الأقل.
إن عدم منهجة نقد الشعر الحساني هو ما جعل كثيرين ينصبون أنفسهم نقادا، لتجد أحدهم يهرف بما لا يعرف، فيستهجن ما شاء ويستحسن ما شاء، غير عابئ بالصواب من الخطإ، فأغلب النخبة لا يتفرج غالبا على هذه المسابقات، وإذا كانت هناك قلة منها تتفرج على هذه المسابقات فإنها تبقى ساكتة.
أما العامة فهي لا تستوعب ما يقول هؤلاء النقاد ولا تميز بين غثه وسمينه، ويكفيها أن ترى الناقد يتحدث ويشير بيديه هنا وهناك، وإن كان لا يهتم بصدقية ما هو قائل، ولا يبالي بالجمهور (النخبة والعامة)، اللتين بينا أمرهما، فيسترسل ما شاء في زخرف من القول وشقشقة لا طائل من ورائها.
لم أشاهد من حلقات برامج مسابقات شعر الحسانية إلا حلقات قليلة، وقد فاجأني في إحداها أحد من ممارسي النقد بقوله إن من المستقبح أن يقابَل الحرف المشدد بحرف مخفف، ضاربا المثل بكلمة “حار” التي جاء بها الشاعر مقابل كلمة “نار”، والحقيقة أن في ذلك ظلما للشاعر، وهل أفنى شعراء الحسانية القدامى أعمارهم إلا في مقابلة الحرف المشدد بالمخفف والعكس؟ خاصة إذا كان ساكنا، وهو أكثر من أن يُستدل له.
وحتى كلمة “حار” التي اعترض الناقد على مقابلتها لكلمة راؤها مخففة، فقد جاء بها ولد هدار في رائعته في سيدي المختار ولد الشيخ سيديا، وهي مشهورة ولا يسمح المقام بإيرادها ومنها:
وسيت الراو راي اراي
عندِ ذاك اندَوَّر يحرار
الراو لعاد ال راي
بالراي إعود الراو حار
وكذلك طلعة ولد سعيد ولد عبد الجليل عندما امتحنه الامير أحمد سالم ومنها:
ﺫﺍﻙ ﺍﻟﻤﺮﻭﺡْ ﻣﺎﻧﻲ ﻧﺎﺳﻴه
ؤﻻ ﻳﻌﻤﻞْ ﻳﻜﻮﻥْ ﺍﻳﺮ ﺣﺪ
ﻟﻴﻠﻪ ﻛﻴﻔﺖْ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻫﺮ ﺍﻋﻠﻴه
ﻣﺮﻭﺡ ﻓﺮﺳﺎﻥ ﺃﻭﻻﺩﺍﺣﻤﺪ
ﻣﻦ ﺩﻣﺎﻥ ﺍﻟﻠﻲ ﺭﺍﺣﻮ ﻓﻴﻪ
ﺫﻳﻚ ﺍﻟﻠﻴﻠﻪ ﻋﻨﺪ ﺍﻧﻮﺷﺪ
ففيها: احمد وبعد ودالهما مخففة، ومما يقابلهما حد و انوشد ودالهما مشددة، والأمثلة على هذا من مدونة شعر الحسانية أكثر من أن تحصى.
كما رأيت أحدهم ينكر تعدد ذكر كلمة واحدة في أحد النصوص، قائلا إن ذلك من الحشو، والصحيح أن الأمر ليس على الإطلاق فقد ترد الكلمة أكثر من مرة للتأكيد، كما أن الشاعر الحساني قد يعمد إلى تكرير الكلمة الواحدة عدة مرات، مع حفاظه على جزالة المعنى وتناغم “التيفلواتن” ليري جمهوره مدى تمكنه في مجال نسج “التيفلواتن” واقتداره على التلاعب بالألفاظ، وليس هذا مما يعاب على الشاعر ، بل على العكس فمن شأنه ان يزيد النص تشويقا.
ولعل طلعة الأديب أحمد سالم ولد يونس في الطالب بوي ولد الشيخ آياه خير دليل على ذلك، فانظر إلى جزالة هذه الطلعة، وحسن تناغم كلماتها، وكيف استطاع الشاعر أن يبدع بتكرار كلمات: ترجع، مرجع، تگمع، اسمع، انفع، فيما سنورد من هذه الطلعة:
ما تـرجـع عـن مَـرْجَـعْ ينفـع
مـاتگمـع معـن مـاتـرجـع
عــنْ مَرْجَـعْ ينفـع مـا تگمـع
عــن مرجـع ينفـع معنـاهَ
مـا ترجـع مــا تگمـع مرجـع
ينفَـع مـرْجَـعْ لَـكْ شفناهَ
تمش باسمع وانفع ترجع
باسمع وانفع دير امعاهَ
جبت اسمع زين ؤجبت انفع
زين اسمع وانفع ووْراهَ
ما جات امسالت گاع اسمع
وانفع كون انت مولاهَ
ومن أكثر الملاحظات على هذه المسابقات مدعاة للضحك – وشر البلية ما يضحك – ما حدث به أحد الأدباء من أنه سمع أحد هؤلاء النقاد يتحدث عن اللام الميتة واللام الحية، ولا أعلم أن أحدا يفرق بين اللامات، ويقسمهم لامات متنوعة، منها ماهو حي وما همو ميت، ولعله يطل علينا لاحقا وهو يصف لاما ورد في نص بأنه لاحي فيرجى ولا ميت فيلغى.
هذا وكما أشرت إليه في بداية هذه الأسطر؛ فإني لا أعني أن كل من ينبري للنقد في هذه المسابقات دعي، بل أرى أن من بينهم نقاد أكفاء يجب أن نعترف لهم بذلك، وأن نستثنيهم من قائمة “المتناقدين” حتى لا نغمطهم حقهم.