لا يمكن أن يمر رحيل شخصية وطنية فذة من طينة، الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، القائد والمجاهد والمناضل، دون أن يقف المرء وقفة تقدير وإجلال لهذا الرجل الاستثنائي الذي اجتمعت فيه كل الخصال الوطنية الصادقة، لنودعه بحسرة وألم الفراق إلى مثواه الأخير، وأن ندعو له بالتواب والمغفرة والرضوان، فلله ما أعطى ولله ما أخذ.
.فالمرحوم عبد الرحمن اليوسفي، رجل يعرفه كل المغاربة من مختلف مشاربهم، وهذه إحدى ميزاته، فلم يكن رجل سياسة أو رجل دولة فقط، بل كان رجل مجتمع وشعب بكل فئاته وطبقاته، بعدما نال طيلة حياته احترام وتقدير الجميع، فلا يكاد يخلو اليوم بيت مغربي، دون أن يكون هذا المصاب الجلل بفقدانه، حاضرا بالاهتمام كإرث تاريخي غني مشمولا بالدعاء لروحه الطاهرة.
حظيت في مناسبتين باللقاء، بالأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، الأولى بالعاصمة الأردنية عمان لما كان وزيرا أولا في حكومة التناوب التوافقي، حينذاك كنت أمارس مهامي الدبلوماسية بالسفارة المغربية في عمان نائبا للسفير مولاي المهدي العلوي، فيما كان اللقاء الثاني بمنزله بمدينة الدار البيضاء أواخر شهر يناير 2016، رافقت أثناءها صديقي ورفيق دربي، جمال المحافظ، الذي كان بصدد إعداد أطروحة الدكتوراه، حول التأثيرات المتبادلة بين الصحافة والسياسة من خلال نموذج النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في إطار جملة من لقاءاته مع عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية، التي كان لها الدور البارز في التأسيس للممارسة السياسية والحركة النقابية في مجال الإعلام بعد الاستقلال، وكان في مقدمتهم الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي.
بالنسبة للقائي الأول باليوسفي، أود الإشارة إلى زيارته لعمان أواخر شهر أكتوبر 2001، ليرأس الجانب المغربي في اجتماعات اللجنة العليا المغربية الأردنية المشتركة، فقد لاحظت تلك الحفاوة والتكريم الكبيرين اللذين حظي بهما الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، كوزير أول وقائد سياسي، حيث لاقت زيارته اهتماما كبيرا من قبل كبار المسؤولين بالبلاد وفي مقدمتهم العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي خصه باستقبال مشرف في القصر الملكي وأثنى على جهوده في خدمة بلده والقضايا الإنسانية، وفي الدفع بعجلة التعاون الأردني المغربي.
كانت وقتها تجربة الانتقال الديمقراطي بالمغرب محط أنظار ومتابعة واسعين من قبل كبار المسؤولين في الأردن وعموم الطبقة السياسية أحزابا ومنظمات ونقابات واتحادات وفاعلين سياسيين بل حتى من قبل الشارع الأردني. وفي هذا السياق كان لافتا ذلك الزخم الكبير من التساؤلات التي كانت تنهال على الأستاذ اليوسفي من السياسيين والصحفيين، رغبة منهم في الاطلاع على آليات ومقومات ضمان إنجاح تجربة التناوب، وخبايا ذلك التواصل الناعم بين القصر والمعارضة، التي ناضلت منذ الاستقلال للمشاركة في تدبير شؤون البلاد، وذلك في ظل الخيبات التي كانت تعرفها العديد من الأنظمة العربية.
أما عن لقائي الثاني بالأستاذ اليوسفي فكان في بيته، حين لبى بكل أريحية وهو المعروف بقلة أحاديثه الصحفية، دعوة صديقي الصحفي الباحث، جمال المحافظ، في سياق إعداده لأطروحة الدكتوراه، فخرجت من هذا اللقاء منشرح الصدر مفعما بالأمل سعيدا لما لمسته من تواضع شخصية وطنية كبيرة، فقد استقبلنا شخصيا ببشاشته المعهودة عند أبواب المصعد بالطابق الثالث على ما أذكر بالعمارة، التي يقطن بها في أحد أحياء مدينة الدارالبيضاء، فقادنا بكل هدوء وسكينة إلى غرفة الجلوس مستأذنا منا بضعة دقائق، لإعداد صينية شاي الاستضافة، لكون زوجته كانت خارج البيت في موعد مع الطبيب، وفي غياب لأي خدم أو حشم كما تعودنا في بيوت المسؤولين، وهو أول انطباع ترسخ بذاكرتي، ثانيها أن مدة المقابلة استمرت لأكثر من ساعتين، لمست فيها رجلا هادئ الطباع ذو قلب كبير، وهو يتجول بنا بذاكرته حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في زمن الصراع والاعتقالات والمحاكمات، دون أن تصدر منه كلمة خارج سياق اللباقة واللياقة والاتهام والسفسطة وغيرها. فقد انفتح على أسئلة الباحث جمال المحافظ، في حوار غني متدفق بالمعلومات التاريخية لأحداث عاشها مليئة بالدروس والعبر والخلاصات.
لم أترك الفرصة تفوتني في هذا اللقاء مع هذه القامة السياسية التي تتمتع بالجاذبية الشعبية، دون أن أقحم نفسي في الحوار المباشر مع الأستاذ اليوسفي من خلال جوانب اهتماماتي الدبلوماسية، فلم يتردد الرجل في مقاسمتي الحديث عن تجربته الدبلوماسية وهو يقود حكومة التناوب. فذكرته بزيارته للعاصمة عمان ولقائي به هناك، في إطار اجتماعات اللجنة العليا المغربية الأردنية. كانت المناسبة فرصة قيمة للحديث عن الدبلوماسية المغربية وما حققته من مكتسبات تاريخية خلال حكومة التناوب بكل من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفي مقدمتها قضية وحدتنا الترابية.
تستحضرني هنا أيضا، تلك الأحاديث السياسية التي دارت بيني وبين رفيقه في النضال الأخ مولاي المهدي العلوي، أحد قادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعضو مكتبه السياسي سابقا، الذي تربطني به صداقة متينة منذ أن عملت معه كسفير لصاحب الجلالة بالسفارة المغربية بالأردن 2004)/(2001 وحتى يومنا هذا. فقد كان الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، بين حين وآخر، محط حديث بيننا، ردد خلالها مولاي المهدي انطباعاته حول التاريخ النضالي المشترك بينه وبين اليوسفي.
فيقول عنه مولاي المهدي العلوي في بعض اللقاءات التي جمعتني به: " إن اليوسفي جزء مني لمدة تزيد عن أربعين إلى خمسين سنة، منذ زمن الكفاح والمقاومة الوطنية فترة الاستعمار، إلى النضال السياسي في عهد الاستقلال بالوطن أو بالمنفى"، موضحا " إنه رجل فريد من نوعه عايش كل الـتطورات الـسياسية والمجتمعية فـي المغـرب مع الـمغفور لـه الملك الحسن الثاني"، مؤكــدا عــلى أن: " الفضل يرجع إلى اليوسفي في التقارب بين القصر والمعارضة ومسار الانتقال بالبلاد من عهد الصراع إلى التوافق والتآلف من أجل المصلحة العليا للمغرب ومستقبله.
إن اليوسفي كان الشخصية السياسية الوحيدة الذي تجرأ على القطع بكل شجاعة مع مرحلة الخصام مع القصر، وفتح صفحة جديدة في العلاقة السياسية بين الحسن الثاني والمعارضة، بقيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وبقية مكونات الكتلة الديمقراطية، من أجل إشاعة أجواء الديمقراطية والحريات في المغرب وتكريس ثقافة دولة الحق والقانون ونشر قيم الحوار والتشاور والشروع في إرساء دعائم التنافس السياسي الشفاف بين كل الأحزاب والتيارات المشكلة للمشهد السياسي بالبلاد، كما كان يحكي مولاي المهدي العلوي.
ليست عظمة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي محل خلاف، فكل المغاربة يجمعون على أنه كان من أبرز الوجوه الوطنية التي بصمت تاريخ المغرب المعاصر، وإليه يرجع الفضل في القطع مع مرحلة الصراع مع القصر، واقتحام مرحلة التوافق بكل شجاعة ووضوح، وإدارة هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة بكل جدارة وعزيمة وإخلاص للمبادئ التي آمن بها وناضل من أجلها، تحلى فيها رغم المناوشات وتضارب المصالح بصبر القديسين.
محمد بنمبارك دبلوماسي مغربي سابق.