مع منتصف أربعينيات القرن الماضي ظهرت بمدينة سينلوي صحيفة "موريتانيا" المهتمة بأخبار بلادنا والصادرة عن الإدارة الفرنسية هناك، لتحُل محلَّهَأ بعد سنوات قليلة صحيفةُ "الحياة الموريتانية" (La Vie Mauritanienne)،
.وكانت تنشرها كذلك الإدارة الفرنسية وتسميها تجوزا "التاريخ الموريتاني"، وقد باتت محافظة على الصدور بشكل منتظم خلال عقد الأربعينيات وبدايات خمسينيات القرن الماضي.
"الحياة الموريتانية" جريدةٌ نصفُ شهريةٍ، ناطقةٌ باللغة الفرنسية، ظلت حريصةً على أن تكون متوازنة فيما تنشره من أخبار سياسية وما تنقله من تقارير عن النائب أحمدو ولد حرمة ولد ببانا رحمه الله تعالى ونشاطات حزبه "حزب التفاهم" وبين ما تخصصه للإدارة الفرنسية بمدينة سينلوي وتسييرها وتدبيرها لشؤون البلاد. فكان خطها التحريري شبه متوازن بين أبرز فاعليْن سياسيين في موريتانيا في تلك الفترة وهما: النائب ولد حرمة والإدارة الفرنسية.
أخبارٌ تصيرُ مع الزمن تاريخًا
بالإضافة إلى محرري صحيفة "الحياة الموريتانية"، ساهم بعضُ رجالات السياسة والثقافة الموريتانيين الأوائلِ في تغذيتها من أمثال: المختار ولد حامد، والحضرامي ولد خطري، وحمود ولد عبد الودود، والداه ولد سيدي هيبه، ومحمد فال ولد البناني، والدي ولد سيدي بابا، وممدو أحمدو باه، ومحمد عبد الله ولد الحسن رحم الله الجميع.. وغير هؤلاء أيضا.
عندما أتصفح عشرات أعداد تلك الصحيفة التي عندي أجد أن ما كان ينشر سنوات 1945 و1949 أو سنة 1950 خبرًا بسيطًا وحدثًا عابرًا ومناسبة عارضة أصبح مع الزمن أشبه بالتاريخ، بل إنه تاريخ مهم لمن يرصد بدايات الوعي السياسي في بلادنا، ويريد أن يعرف بعض التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالطبقة السياسية الموريتانية الأولى التي أسست دولة الاستقلال، وأثرت في تلك المسارات الحاسمة من تاريخنا المعاصر. الأعداد التي عندي تغطي جزءا هاما من مأموريات ثلاثة حكام فرنسيين (تحدثت في مقالة سابقة عنهم وعن غيرهم من الحكام الفرنسيين في بلادنا)، والثلاثة هم: كرستيان لغريه، وهنري دي مودوي ولويس تيراك.
يمكنك أن تقرأ الحياة المهنية والسياسية للكثير من إطارات موريتانيا في السابق، فتعرف من خلال ما تنشره صحيفة "الحياة الموريتانية" نشاطاتِ النائبيْن الموريتانييْن السابقيْن: أحمدو ولد حرمه ولد ببانا وسيدي المختار ولد يحيى انْجَايْ الذي كان لا يزال في تلك الفترة ترجمانا تارة بأكجوجت وتارة بالمذرذرة، وكذلك أخبار دراسة الرئيس السابق المختار ولد داداه، فضلا عن مسارات ممدو أحمدو باه، ومحمد عبد الله ولد الحسن، وحمود ولد أحمدو ولد المحيميد وأحمد سالم ولد الهيبة، ومحمد ولد دحود، ومحمد ولد السالم رحم الله الجميع، وكذلك سيدي محمد "الديين" ولد محمد أحمد، ومحمد فال "ببها" ولد امَّيَيْ أطال الله عمريهما ومتعنا بهما في صحة وعافية، وغير هؤلاء...
يمكنك أن تعرف التعييناتِ والتحويلاتِ التي عرفها سلكُ المترجمين والقضاةِ والموظفين الإداريين... كما يمكنك الاطلاع على مسارات ترقيات الموظفين المختلفة مثل: بوياكي ولد عابدين، وعبد الله ولد الحضرامي ولد عبيد، وانْجَوَرْ صَارْ، وسيدي أحمد ولد محمد، وأحمد ولد اعلي الكوري، والمرابط ولد برو، والناجي ولد المصطفى، ومحمد صالح "النَّنَّ" ولد الشيخ أحمد ولد الفاضل، ومحمد ولد إبراهيم ولد الشيخ الحسن، وبوبكر صمبولي، رحم الله الجميع، وكذلك غيرهم من إطارات موريتانيا الأوائل من مختلف الولايات والمناطق الموريتانية.
تغطية الأنشطة السياسية والاجتماعية المفصلية
خبر اتفاق داكار الاول
تغطي هذه الجريدة الكثير من النشاطات والأحداث؛ كالعلاقة بين السياسيين وبين الزعماء التقليديين وما كانت تعرفه من مد وجزر. من ذلك مثلا حديثها عن الاتفاق الذي تم في خريف 1949 بين النائب البرلماني أحمدو ولد حرمة وبين أمير تكانت عبد الرحمن بن اسويد أحمد رحمهما الله، وهو اتفاق كانت الطبقة السياسية والاجتماعية الموريتانية تتطلع إليه بانتظار وتلهف. وجاء نصه في أحد أعداد الجريدة كالتالي: "ينهي السيد حرمة ولد ببانه، نائب موريتانيا، والمستشار العام، وكبير مستشاري أفريقيا الغربية، والسيد الأمير عبد الرحمن ولد بكار، أمير تكانت، وأحد المحاربين القدماء والحاصل على وسام الشرف، إلى علم الجميع وخصوصا البيظان أنهما خلال لقاء تم بتاريخ 17 سبتمبر 1949 بدكار، قد أبرما بينهما اتفاقا تاما سيحصل بموجبه التعاون الصريح في تسيير الشؤون السياسية بموريتانيا. ويدعوان مناصريهما للتوحد. وتم هذا الاتفاق بحضرة مستشار موريتانيا العام الحاج محمد الإمام، شيخ قبيلة تركز (البراكنة) وكبير مستشاري أفريقيا الغربية الفرنسية."
كان الحاجُّ محمد الإمام التركزي رحمه الله تعالى مهندسَ هذا الاتفاقِ، وهو من أعيان وأعلام مدينة مَالْ بولاية البراكنة، وأحد أشهر وأكبر التجار الموريتانيين بدكار، بل هو التاجر الموريتاني الوحيد الذي كان يمتلك حق تسيير سوق المواشي وتسويق اللحوم بعاصمة الغرب الإفريقي دكار منتصف القرن العشرين.
ومن الواضح من خلال منطوق ومفهوم الاتفاق والسياق الذي تم فيه أن السياسيين الموريتانيين الأوائل ونشاطاتهم المختلفة في تلك الفترة كانت بحاجة إلى مباركة ودعم الزعامات التقليدية؛ لذلك نجد في الجريدة حضورا واضحا لهذا القطبين "السياسيون"، و"الشيوخ التقليديون" وما تعرفه علاقاتهم من تناغم أحيانا وتنافر أحيانا أخرى.
وعندما قاد العالم الجليل الشيخ التراد بن العباس رحمه الله تعالى ركب الحج الموريتاني سنة 1945، أعطت الصحيفة لهذا الحدث الديني الهام ما يستحقه، ولشخصية الشيخ التراد ذات البعد الصوفي والمكانة العلمية والوزن الأدبي على المستوى الوطني بل والإقليمي ما تستحقته من عناية واهتمام. فقد ترجمت الصحيفة للشيخ التراد وذكرت
خبر حج الشيخ التراد
ما له من تأثير يمتد من تنبكتو حتى الساقية الحمراء مرورا بالكثير من مناطق موريتانيا بالحوض وآفطوط والكبلة وآدرار، كما تحدثت عن مختلف الحيثيات المتعلقة بمسار هذه الرحلة الحجية التي يقودها هذا الشيخ الوقور الفاضل.
محطات بارزة لبعض الشخصيات الموريتاني
خبر وفاة البيضاوي باشا تارودانت
ما كانت وفاة البيضاوي بن سيدي عبد الله بن أمانة الله الجكني الإديشفي الشهير في المغرب بلقبه "باشا تارودانتْ" في 16 ديسمبر 1945 بالغائبة عن صفحات "الحياة الموريتانية". بل أعطت الجريدة مساحة مهمة للبيضاوي باشا منوهة بمكانته ومعرفته، وبعلمه وأدواره الاجتماعية السياسية والأدبية. ترك البيضاوي منطقة العصابة مع دخول طلائع المستعمر الفرنسي لينضم في الشمال للمقاومة الوطنية. كان في تلك الفترة فتى عبقريا لامعا، وهو ينتمي إلى أسرة أهل أية الشهيرة من فخذ إديشف من قبيلة تجكانت. وقد تعلم في حيه وعلى أخواله وأخذ عن أبناء مايابى فصار عالما لا يجارى وفقيها لا يبارى وشاعرا فذا، وقد طار نجمه وعلا شأنه في المغرب وقربه السلطان المغربي عبد الحفيظ بن الحسن الأول. حج البيضاوي قبل إقامته في المغرب وقبل توليه القضاء هنالك فزار مصر والحجاز ومر بفرنسا، وقال أثناء رحلته الاستشفائية الباريسية تائيته الشهيرة التي تعتبر من عيون الشعر الموريتاني بل الشعر العربي:
لا تخش من شعرك المختارِ غيلتَهُ ۞ وانشر علي صحف التبليع رحلتَهُ
كان البيضاوي رحمه الله، المدفون بمقبرة باب أغمات بمراكش، عالما قاضيا سخيا أريحيا، وكان يجيد اللغة الفرنسية، وعن طريقها قرأ الكثير عن الفكر الغربي. يعد واحداً من أبرز أعلام الموريتانيين في القرن العشرين. وهو الذي يقول مخاطبا الفنان الكبير امحمد بن انكذي الشهير بالأعور وكان ذا صلع:
لَعَمرِي لقد خُضتُ القُرَى مِن كُناكِر ۞ وَجَاوزتُ أرضَ الصَّينِ بعد الجزائِرِ
وبالمغرِبِ الأقصَى دِيارِى ومنشئِي ۞ وسامرتُ أربَابَ الغِنَا والمزامِرِ
فما سمِعَت أذنِي ولم يَرَ ناظِرِي ۞ كذَا الأصلع المشهُورِ عن كلُّ شاعِرِ
خبر نجاح الرئيس الراحل المختار ولد داداه في الباكولوريا
وفضلا عن ذكر البيضاوي وغيره من أعلام موريتانيا أوردت صحيفة "الحياة الموريتانية" خبر حصول الرئيس الموريتاني الأسبق السيد المختار ولد داداه على شهادة الباكالوريا، وقد نالها مع نفس الدفعة من الطلاب هو وابن عمه المؤرخ الجليل محمد ولد مولود ولد داداه رحمهما الله تعالى، فكانا بذلك أول تلميذين موريتانيين يحصلان على هذا الشهادة ويتوجهان نحو فرنسا لاستكمال دراستهما الجامعية هناك.
المنظومة الإعلامية التقليدية.. ما قبل عالم الصحافة
"اتريتيم" اطبل
قبل الصحافةِ مقروئِها ومسموعِها كان للموريتانيين في القديم منظومة إعلامية متميزة؛ لعل من أبرزها الطبل وهو آلة الطرب المعروفة التي تصنع من قدح خشبي كبير يشد فوقه جلد من جلود البقر عادة أو الغنم أحيانا. ويسمى إيقاعه أَرَاتِيمْ وهو لفظ صنهاجي من فعل: "يَتْرَتَّمْ" وتعني الضرب، وهو قريب من الفظ الفرنسي(Rythme) الذي يعني الإيقاع الموسيقي.
وللطبل في السابق أكثر من وظيفة إعلامية؛ إذ يضرب لإرشاد الضال والإعلام بالشيء الطارئ. فإذا أرادوا استدراك أمر مفاجئ ضربوه ضربا يسمى: "أراتيم الفزعة" أي مبادرة في ملاحقة المعتدي، ويضرب لاجتماع أهل الحل والعقد ويسمونه "أراتيم اجْماعه" وعند الرحيل يضرب ثلاث مرات ويسمونه "اخبيط الرحيل" ويضرب أربعا لرد ذلك الرحيل إذا طرأ موجب لرده. ويضرب ضربا خاصا لمجيء الضالة ويسمونه "الهدْي"، كما يضرب لتشهير العقود وللطلاق. ويعتبر انتزاع الطبل في الحروب وأخذه قهرا في عرف القبائل الموريتانية ذات الشوكة من مظاهر الانتصار وإغاظة العدو وإهانته؛ وهو أبلغ عندهم أحيانا من القتل والتنكيل. ويشكل الطبل رمزا من رموز السيادة وعنصرا هاما في نظام الإمارة أو القبيلة. وكان لكل إمارة بل لكل قبيلة طبلها وإذا كان الفخذ قويا يكون لرئيسه طبل أيضا. ويحتفظ الأمير أو شيخ القبيلة بالطبل ويرثه عنه من يتولى بعده.
وقد أصبح الطبل لشدة ارتباطه بالقبيلة وحياتها الحربية يطلق على الجيش فيقال القبيلة الفلانية سبعة طبول أو ستة أو خمسة كناية عن عدد الجيوش. يقول محمد يگوى الفاضلي الديماني واصفا رحيل محصر أولاد أحمد بن دامان وذاكرا الطبل:
ضربوا الطبل للرحـيل ثلاثا ۞ واستمروا يقوضون الأثاثا
ثم شدوا رحالهم فـوق بزل ۞ من بنات الجديل لسن غراثا
قدموا الخيل واقتفتها المطايا ۞ صوب تنواكديل تهوي حثاثا
وإذا ضل او تخلف بعـض ۞ ضربوا الطبل للرحيل ثلاثا
ويقولون في المثل الشعبي "غمْزيتْ اطبلْ" يضرب للشخص الذي لا يكتم سرا كالطبل كلما لمسته ولو بخفة صوت. يقول امحمد بن أحمد يوره ناظما هذا المثل:
مغانٍ بذاتِ الطبْل لا غبَّها الوبلُ ۞ ولا غَبَّ أياما مضين بها قبلُ
بها ابتل جفني والحشا متحرق ۞ وروق اصطباري بينها والهوى عبل
غمزت بذات الطبل عينى عن البكا ۞ فجادت بأضعاف كما يغمز الطـ
سيدي أحمد ولد الأمير