رابعا: التقطيع الإداري والبلدي
حقيقـة التقطيع الإداري السائد الآن قديم جدا وغير مساير لتطور البلد، ونتيجـة للتطورات الاقتصادية والديمغرافية والأمنية ...تراجع- ولا أقول فقد أو انعدم- دور مناطق واكتست مناطق أخرى أهمية زائدة على أهميتها الأصلية كنقطـة من الوطن.
.
وعليه فإن التقطيع الإداري والبلدي كل منهما بحاجـة إلى مراجعة شاملة، فهناك ولايات تضم عدة مقاطعات لا يمثل الكم الديمغرافي العامل الأساسي في إنشاء تلك المقاطعات ولكن بسبب عوامل أخرى لا جدال في أهميتها، وهناك بعض الولايات الني ظلت من مقاطعة واحدة رغم توفرها على عوامل متعددة مهمة: إينشيري، داخلت انواذيب قبل إنشاء مقاطعة الشامي.
وفي هذا المجال كنت إلى جانب نائبي انواذيب طيلـة عشر سنوات في الجمعيـة الوطنيـة، كلما حضر وزير الداخليـة إلى الجمعية نطرح عليه قولـة أصبحت معروفـة لدى زملائنا يسبقنا بعضهم إلى طرحها أحيانا مشاكسـة لنا، وهي:" السيد الوزير ليس من الممكن أن يناط بحاكم انواذيب المركزي حل مشاكل قرية أبلوخ 50 كلم شمال انواكشوط، ياسيادة الوزير لابد من مقاطعة ثانية في داخلت انواذيب" يعني أن حاكم انواذيب الذي يحكم مدينـة منائيـة وصناعيـة بكل ما يعنيه من ذلك من مشاكل عليه أن يقطع 450 كلم في أعماق الريف الذي لا توجد به طريق معبدة ولا ممهدة، ليحل مشاكل قرية أبلوخ التي لا تدخل ضمن اختصاص رئيس مركز المامغار الإداري الذي ألحقت به قرى لمحيجرات وتيوليت، أبلوخ التي كانت قبل التقطيع البلدي جزءا من مقاطعة واد الناقـة ذات المركز القريب من هذه القرى.
وهو من ناحيـة أخرى يظهر عشوائيـة وعدم عدالة التقطيع الحالي، كما أن حجم السكان وكثرة المشاكل في مدينة انواذيب الصناعيـة يبرر تفرغ حاكم انواذيب لحل مشاكل تلك المدينـة من ناحية ووجود مقاطعة في ريف انواذيب يربط حاكمها وينسق بين المراكز الإدارية الأربعـة المكونـة لذلك الريف، بولنوار إنال، اتميمشات، المامغار.
إن المعيارين الاقتصادي والديمغرافي لا يلعبان وحدهما الدور الوحيد الذي على أساسـه يمكن أن تنشأ مقاطعة أو مركز إداري أو بلدية، وإنما تتعدد المعايير والعوامل وأحيانا يسبق العامل الأمني أو الاستراتيجي كل العوامل الأخرى.
أما إذا تآزرت معظم العوامل في منطقـة: أمنيـة، استراتيجيـة، اقتصادية، ديمغرافيـة... فإن إنشاء كيان إداري أمني يصبح واجبا:
فقد كان من المتوقع أن تركز الدولـة سلطـة إداريـة في القطب الاقتصادي الذي أنشأت في السنوات الماضيـة في خانطور 140 كلم جنوب انواكشوط على الشاطئ وهو القطب الاقتصادي الذي أنفقت فيه أكثر من 4 مليارات أوقية ومدت إليه طريقا طوله 30 كلم وهو الآن شبه معطل رغم توفره على بنيه لإستقبال كافـة الهيآت المطلوبة من بنايات إدارية ومركز للتكوين ومدرسـة ومستوصف ودور سكنيـة وغيرها من المنشآت المعطلـة.
إن النظرة السائدة لدى مراكز القرار في وزارة الداخلية اتجاه الغرض من إنشاء البلديات يبدو أنها تنكسر على حائط بناه تصور: هو أن إنشاء بلدية: يتطلب أعباء جديدة، ولا تنظر إلى البلدية كنظام حديث لتسيير جوانب من حياة المجموعة المحلية يحل محل أنظمـة التسيير القديمـة كمجالس القبيلـة أو الجهـة أو الفئـة.
المجلس البلدي نظام حديث يناسب العصر لتسيير جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية... لمجموعة محلية مثل أقسام الأحزاب التي تسيرها سياسيا والنقابات التي تدافع عن العمال والجمعيات والروابط والتعاونيات التي تسير جوانب أخرى من حياة المجموعة بدل النظم التقليدية الفاسدة التي تناسب القبيلـة أو الفئة.
إنها إلى جانب ذلك تطور المجموعـة التي انضوت تحت نظمها وتدربها على أساليب التسيير والإنتاج والعمل الجمعوي المختلط المتنوع.
أما من ناحية الأعباء فالعمدة والمجلس البلدي وعمال البلدية لا يتلقون أي مخصصات من خزينـة الدولة، وميزانية البلدية تتكون من رسوم تضعها البلدية على مصادر الدخل الواقع ضمن اختصاصها الترابي.
ولا تلتزم الدولـة بتوفير فرق الحرس أو الشرطـة أو الدرك في أي بلدية ليست عاصمـة ولايـة أو مقاطعـة أو مركز إداري كما لا يظهر في مزانية الدولـة أي باب أو فصل أو مادة خاصـة بالبلديات باستثناء الصندوق الجهوي للتنمية الذي اقترحنه الجمعية الوطنية سنة 1992 والذي يدخل ضمن مجهود التنمية الذي تبذله الدولة على مستوى ولايات الوطن.
فلما ذا والحالـة هذه، لا يكون الاتجاه العام لدى منظري وزارة الداخلية هو إحداث المزيد من البلديات على مستوى الوطن وذلك:
فهل يستطيع مجلس بلدي أن يؤطر أو يصل نشاطـه إلى مجموعة تابعـة له تبعد 500 كلم مثلا عن مركز بلديته، كما هو الحال في بعض البلديات خاصـة وأنه يكون مشغولا بمجموعات كثيفة من بلديته وقريبـة منه جدا.
فيستنتج أن الاتجاه السائد في تلك الدولة الغربية المتطورة هو توزيع السكان في وحدات أصغر ليتحقق الغرض من إنشاء البلدية، وهو اشتراك أكثرية السكان في عملية التسيير المحلي وتدريبهم على الصعود إلى المجالس الأعلى كالبرلمان والمجالس الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والدستورية...
كما أن بعض أقطار شمال إفريقيا تتبع التدرج أو نظام المستويات، إذ لديها المجالس الحضرية في المدن الكبرى ومجالس الجماعات والمجالس القروية، ولكل منها نظامه الخاص واختصاصه، وفي بلدنا المجالس البلدية من نفس المستوي ينظمها نفس القانون ولها نفس الاختصاص باستثناء المجموعة الحضرية بانواكشوط..
إن هذا الجمودوعدم التطور في التقسيم البلدي والإداري يذكرني بجامعة انواكشوط التي أنشأها الرئيس محمد خونـه ولد هيدالـه في السنة الجامعية 1981-1982 من كليتين واستمرت طيلـة ثلاثـة عقود بنفس الكليتين، وبعد أن انفصلت عنها كليـتا الطب والتقنيات حديثتا النشأة رجعت جامعتنا -التي ظلت يتيمـة إلى عهد قريب- بنفس الكليتين بعد 32 سنـة من إنشائها، علما بأن كليـة العلوم والتقنيات التي استحدثت كان إنشاؤها عبارة عن نزع لافتـة كانت مكتوبا عليها المدرسـة العليا للتعليم وأبدلت بلافتـة كتب عليها كليـه العلوم والتقنيات وأغلقت الأقسام الأدبية التي كانت توجد إلى جانب الأقسام العلمية في المدرسـة العليا التي حولت إلى كليـة علمية.
إنه جمود يطبع الحياة الإدارية والبلدية والاقتصادية وحتى العلمية في بلدنا وكلما حدثت محاولـة لإحداث ثغرة في ذلك الجمود كنوع من محاولة التطوير أو التنميـة يرفضها الطرف الذي لايوجد في السلطة مستخدما نضجه السياسي وأساليبه الدعائية ليثبت أن ذلك التصرف مجرد استمرار لنهج الفساد أو الأحادية أو كبت الحريات، وغيرها من الأساليب التي يستخدمها الطرف الذي لا يحكم( معارضة).
المعارضـة ينبغي أن تفرق بين الفساد في أساليب الأحكام وما أكثره، وبين ما يلهم الله الأحكام أن تفعله أحيانا لصالح البلد.
إننا لا ننسى الضجة وسنـة المشاكل اللتان حدثتا عن إنشاء جامعـة إسلاميـة وفي الأخير اتضح أن أسباب تلك الضجـة هو قرار إنشاء تلك الجامعة في العيون وأن من يهمه أمرها كان يريد أن تكون في انواكشوط لتنضاف إلى المرافق الأخرى ويبقى الداخل مفرغا من تلك المرافق، وتبقى انوكشوط تحتكر معظم مظاهر الحياة المعاصرة وتكون النتيجـة المزيد من تفريغ الداخل من سكانه بحثا عن الولوج لتلك المظاهر.
إن الساسـة الذين يصفونالشامي أنه منطقـة خالية تهدر فيها الأموال،إذا أردت أن أعطي منهم أمثلـة فسأنتقي بعض الصفوة، ومن هؤلاء:
أخي، السياسي الكبير الذي استفدت من آرائه السياسيـة أيام كان المدير السياسي للحزب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي وخمس سنوات جمعتنا في الجمعية الوطنية، أعني السيد محمد فال ولد بلال، والفقيـه الأستاذ المحترم الحسن ولد مولاي اعلي، الذي أدار مؤخرا حوار مع محمد فال في إذاعة التنوير تطرقا فيه للشمال بصفـة عامـة وإلى مقاطعة الشامي بصفـة خاصـة، وكذلك السياسي المحترم كان حاميدو بابا- رئيس حزب- أثناء حديثه في المهرجان الأخير لحزب تواصل في مقاطعة الميناء الهادف إلى مقاطعة الانتخابات.
لقد كان إنشاء مقاطعة الشامي مادة دسمـة وموضوعا شيقا للسخريـة عندما طرح الصحفي القدير والفقيه الحسن مولاي اعلي السؤال بأسلوب ساخر على ولد بلال:"هل زرت مقاطعة الشامي؟).
والسؤال المطروح هل يجهل السياسيان القديران الأوضاع البشرية في منطقـة الشامي إلى هذا الحد؟ أم يعرفان المنطقـة وتعمدا السخرية منها.
أما السياسي كان حاميدو بابا فقد انتقد سياسة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وأحسن مثال على سوئها حسب كان حاميدو هو إنشاؤه لمقاطعـة الشامي والإنفاق على هذه المقاطعـة التي لا يوجد بها إلا الطيور حسب كان حاميدو بابا.
لا شك أن ساكنة منطقـة الشامي ستتأثر بهذه الأساليب وهذا النوع من الكلام، لأني شخصيا تأثرت بها، رغم أن عوامل الطرد طردتني منها منذ أكثر من أربعـين سنة وصيرتني من سكان كرمسين، فكيف بأولئك الذين بقوا فيها –إلى حد الآن- يقاومون عوامل الطرد وغوائل الزمن؟!
ومع ذلك أعرف في ساكنـة منطقة الشامي من رحابة الصدر ما يجعلهم مثلى نظل نحترم مقاطعـة اركيز وقرية انتيكان الزراعية الجميلـة بمسجدها ذي المآذن الشاهقـة ومقاطعة مقطع لحجار وصانكرافـة ومقاطعة المذرذرة وتيكند النخيل.
في نفس المقابلـةيقول محمد فال ولد بلال أنه في ال 35 سنـة الماضية لم يحكم البلاد إلا رؤساء من الشمال وكأنه يريد أن يفهم المستمع أن شيئا من المحاباة قام به رؤساء الشمال للشماليين.
وأنا أقول إن رؤساء الشمال الذين تعاقبوا اهتموا بالدرجـة الأولي بمراكز الاهتمام قبلهم، يقتفون آثار من سبقهم في مجالات التنميـة وغيرها ولا تتجاوز المشاريع التنمويـة التي أنجزوها في الشمال عدد أصابع اليد إذا استثنينا مدينتي ازويرات وانواذيب باعتبار الأولي مدينـة منجميـة والأخرى عاصمـة اقتصادية والمشاريع التي تنفذ فيهما لكافـة الوطن والساكنـة فيهما أضحت منذ عقود مشكلـة من كافـة جهات البلد والسكان الأصليون هم الأقليـة والدليل على ذلك تمثيلهما في المجالس البلدية والبرلمانية بشخصيات من الولايات الأخرى غالبا.
وأنا على استعداد لمناقشـة كل المشاريع الاقتصادية المنجزة في البلد منذ 1978 على الأقل خاصـة تلك المنجزة في العهد الديمقراطي.
إني مهتم بالمسار التنموي لبلدنا بل يسيطر علي هاجس كبير في هذا المجال، فعندما تطفلت على الأدب كانت أول روايـة كتبتها سنة 1978 تحت عنوان" سمـكة ابريل" عندما تخيلت قطاع الصيد في انواذيب أشبـه بكذبـة ابريل بعد سنـة من العمل في انواذيب، وفي إطار الاهتمام بالتنميـة وآثار الجفاف ومرحلـة ما بعد السدود كتبت الرواية الطويلـة عودة الزراف 1985 وبعد تجربتي في البرلمان عشر سنوات وإطلاعي على حقيقـة ما يجري في البلد كتب روايـة للحديث بقيـة 2010...
ولدي أرشيف متكامل عن الموضوع، كما أني زرت معظم أو كل بلديات الوطن وأعرف وزنها الديمغرافي والاقتصادي والاتجاهات المحليـة التي توجهها والمناطق المستفيدة وتلك المحرومـة، وكذلك القبائل والمجموعات المستفيدة من الأنظمـة المتعاقبـة وتلك المحرومـة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولمن قرأ هذه السطور ولجميع المسلمين.
الأستاذ الباحث : الشيخ ولد أحمدو نائب برلماني سابق