شرفني الأستاذ محمد ولد أحمد ولد الميداح بأن كلفني بترجمة ونشر على صفحتي المحاضرة التي كان قد ألقاها باللغة الفرنسية في ندوة حول المياه نظمت قبل أيام في نواكشوط .
.
"الماء ملاك الأمر "
يترجم هذا المثل النابع من ثقافة مجتمع البيظان مدى أهمية الماء بالنسبة لهم في حياتهم اليومية وأنشطتهم الاعتيادية .."فالماء هو أساس الحياة" ..وهو كذلك في كل مكان من العالم لكن في هذا الوسط الصحراوي الجاف والحار فإن هذا القول له معنى خاص .
وبالفعل فإن البئر هو المكان الأساسي للشرب وسقي العطاش وفي محيطه المباشر تقام المخيمات و تستقر القبائل.
وهو أيضًا المكان الذي يرمز إلى اللقاء مع الحبيب والذكريات التي تراكمت أثناء الترحال الذي يطبع حياة المخيمات( العزبان ).
و بهذه الخصوصية فإن البئر أصبح يطابق الحياة العاطفية للموريتانيين إلى درجة أنه يمكننا القول دون مغالطة أنه لولا الآبار لما كان للشعراء الحسانيين أن يقرضوا الأشعار’ فالبئر حاضر في كل القصائد ( اطلع) تقريباً ’ لأنه يرمز للحياة في مظاهرها المختلفة.
ضف إلى ذلك أنه ومن أجل نسج روابط قوية بين الشعراء والآبار فقد عمد أصحاب هذه الآبار إلى انتقاء لها من الأسماء ماله رنة موسيقية في كثير من الأحيان لجعلها مشهورة وسهلة الاستخدام خاصة في قصائد المدح و الثناء التي تكسب القبيلة سمعة طيبة في محيطها الاجتماعي ..
وتظهر هذه الرنة الموسيقية في ترتيب بعض الحروف والأصوات التي يعذب صداها في الأذنين وتخضع بسهولة لقواعد الشعر الحساني ..
و سنقدم أمثلة توضيحية في المواضيع الثلاثة الأكثر استخداما من قبل الشعراء وهي
الغزل
المدح
الهجاء
1. بالغزل :
غالباً ما يشير الشاعر المتَغَزِّل إلى البئر التي تضرب في محيطها خيام الحبيبة ’ ولكي لا تداس قواعد الرقابة الاجتماعية التي تفرضها الثقافة العامة ’ و من أجل احترام التزامٍ معينٍ فقد تولد لدى الشعراء نوع من الغزل العفيف يسمى "النسيب" ’ وفيه يتغنى الشاعر بديار المحبوب بدل التعني بها هي و وصف غنجها ودلها .
فعلى سبيل المثال فإنه قد لا يستساغ كشف الشاعر عن اسم حبيبته لأنها في بعض الأحيان قد تكون متزوجة والكشف عن اسمها يمكن أن يؤدي إلى مشاكل خطيرة منها الغيرة و الإخلال بالقوانين الثقافية والاجتماعية المعمول بها ’ لذلك فإنه من اجل احتواء هذه الحالة وبعض الحالات الأخرى فيكفي التغني بالآبار الممتدة على طريق ترحال المخيم الذي توجد فيه المحبوبه .
استمع إلى هذه الطلعة القصيرة التي تعتبر مثالا حيا على ذلك :
من عند الناي يالقهارْ .. يكراب ال كامل يندارْ
الكسمْ اظحيوَ للخطارْ .. و امن الكسمْ الغرس أكريب
و الغرس أكريب من عمار .. و عمار أف فمو لعزيب.
وها هو شاعر كبير آخر يطلب أهله و يستجديهم من أجل الرحيل والنزول عند بئر " احسي اهل اسحاق " بدعوى ندرة ماء بئرهم الذي يشربون حاليا :
حاســـــــــــــــين ذ لعاد .. ال بــــــين ما لاق
نرفْــــــد عنو زاد .. شور أحسي اهْلْ إسحاق.
والآن دعونا ننتقل إلى طلعة بقاس الشهيرة التي صاحبها ليس سوى الشيخ ولد مكي :
ايل عاد الدهر اعل حال ... الدهر ال نعرف مزال
و ابلا باس اوعيد التحجالْ ....و ابْلَـــدْ فيه الناس التنكاس
مزال و مزال ايل كال ... ال يبغ حد ابلا باس
آن بعد و لاني مقيس ... ال نبغ نوعد بقاس
و امن الناس انِّخْتَيْــــر انكيس... الا ذاك ال فم امن الناس.
2.المدح :
هنا لابد أن نقول إن ذكر البئر مرادف لذكر القبيلة أو المجموعة التي تملكه فإذا تغنى الشاعر بالبئر فمعنى ذلك أن المستهدف هو القبيلة ’ ومثال ذلك الكاف التالي ::
ألا نبغ وت ماهي ... ممتنهَ ماشي فيه شور
لخيام ايل عادت لاهي... تخسر تخسر عند المشكور.
ثم إن نقص المياه يمكن أن يكون مصدرًا للإلهام بالنسبة للشعراء حتى ولو كانت تلك مفارقة كما يبدو مادام يمكن تعويضه من خلال كرم وحفاوة المضيفين :
زر اكويديس كال حد .. مجدوب و لا عندو م
و ابعيد امن الم غير بعد .. عندو خيم معلوم
3. الهجاء :
الضيف ايل عاد المبين ... ليل ماه لاه اعشيه
الا يمش بيه ايل عين ... نعرفهَ ساحل و اتكيهْ
من الواضح هنا أن المستهدف بالهجاء المخيم الذي قضى فيه الشاعر ليلته .
المثال الثاني :
امحذركم من دي .. منكم يالخلط هاه
ماش واعد لحسي .. يطفك لعوين امعاه.
في الختام نشير إلى أنه مهما حكينا من قول فإن ذلك يبقى قاصرا دون إبراز مدى ارتباط الشعر الحساني بالآبار وهذا ما يسهل فهمه عندما نعرف أهمية المياه ونقص المعالم التي تستحث التغني والغناء في الفضاء الصحراوي وهذا أيضا ينطبق بشكل خاص على المجتمع البدوي .
أما اليوم و مع التوطين القسري والتحضر فقد أصبح من النادر أن تلهم الآبار التقليدية الشعراء وخاصة الشباب منهم وغدت أسماء القرى والبلدات هي التي تسمع في غالبية القصائد ’ لكن هذا لا يعني أن القصائد القديمة لم تحافظ على هالتها ونضارتها الكاملة في الجهاز الأدبي الحساني .
و من اللافت هنا أخيرا ملاحظة أن العديد من القبائل التي اضطرت إلى النزوح الريفي تحت تأثير الجفاف والأخطار الاقتصادية والثقافية الأخرى و التي تضخمت بها ساكنة المدينة جلبت معها أسماء الآبار التي غادروها وسمت بها أحياء في مناطق انواكشوط الكبيرة مثل توجنين و عين الطلح وغيرها .
نقلا عن صفحة الأستاذ: خطره ولد ابي