ما كان قد استوقفنا من حقائق وجودنا المجتمعي المُتشكِّل أثناء سيرورة غير مُتطاوِلة في الزمان، لم يكن سياج الفعل الجماعي فيه يسع غير العمومة الدنيا، أو المستَظِلِّين بظلها من مُرتضِي مُماهاة الولاء في تقاسم المنافع والتعاون في الجرائر ودفع المخاطر. ولعل هذه حينذاك هي آكد مقوِّمات وشروط الحياة لقوم بداة، ارتباطهم بالمكان عابرٌ، والزمانُ فصولٌ ومواسم، منظورةٌ بارتقاب التسليم بالخير والشر فيها؛ ولا دخل لإرادة الإنسان في مآل أمره، ولا في مصائر أحواله.
.
هذا هو معنى أن هؤلاء القوم حين اسْتَبدَلوا صيغة تواجدهم في "الدولة" بصيغ "البداوة"، أو حين بُدِّلُوها، لم يكن التخطيط ولا استشراف المستقبل ممَّا هم معنِيُّون به، مثلَما لم يكن من همِّهم ـ في تنشئتهم من قبل ذاك ـ أن يُجِيلوا النظر في أفق مكاني منداح اندياح إعمار مجموعات أخرى، تربطهم وإياها أواصر أشمل وأقدس من دائرة القبيلة ومضاربها المألوفة غير المعهودة؛ بسبب من هذه الخصيصة التكوينية، سيكون بالغ الأثر في احتساب المرء ما لَهُ وإحساسه بما عليه.
ولعلَّ مُؤمِّل قوْلٍ فصل في هذه الوقفات يكون قد طال به الانتظار، توقُّعا أن نصل قولا بآخر عن فعل "أولي البأس"، خصوصا أن بيْنَنا من تعهُّد العَوْد على بدْءٍ فيه ما لو عُلِّق الفعْلُ به فإنه لم يُعطَّل كل التعطيل؛ فمِمَّا نحن قاطعون به أن تَتَبُّع العوامل الفاعلة في كياننا، وأثرها في تَشَكُّل ذاتنا الجمعوية، سيتطاول به المتْن، وتزدحم هوامشه الحافَّة...وتحاشيا لسلوك سبيل الإطالة في البسْط، ولُطْفا براجي التعجيل بالقول في فعل "المُتغلِّبين الجُدُد"، فإننا مُرجِئُو البسْط في سواه إلى وقفات أخرى.
وإذا كان من المتعارف عليه، في الخبرة التاريخية، وفي مسلمات علم الاجتماع، أن الظواهر الاجتماعية وثوابت الوجود لا بد أن يأتي عليها حين من الدهر، قبل أن تأخذ مآلاتها إلى الثبات والاستقرار، فقد ذكرنا في إلماحات وقفةٍ سابقة، أنه لم تَكَد الدولة الوطنية تصل سن رشد الفرد حتى تسلَّط عليها المتغلِّبون؛ مُعطِّلين نُمُو الوعي المدني، واكتمال الإحساس بالانتماء إلى منظومة وطنية/فوق القبيلة والجهة، في أناس مهيَّئِين للانقياد للمتغلِّب مولَعين بطاعته.
ولئن كان هَمُّ ومسوِّغ حركة الانْتِزاء هذه على السلطة أن تُوضَع نهايةٌ لحرب، ثقيلة الأعباء على اقتصاد ناشئ، ومجتمع لَمَّا تتساوق أموره، بعد، في كيان معزَّز الدعائم، محكم الترابط، فإن تقاليد وأساليب الممارسة السياسية، وإدارة كفة الحكم، قطعا مِمَّا لا عهد للمُتَغلِّبِين به...ومن نافلة القول أن اختلالات بنيوية ـ أحسب المُهتمِّين جميعَهم على ذكر منها ـ سَرعان ما أخذت طريقها إلى نهج المُتغلِّبِين في التدبير وقصور آليات الحكم، وإلى آلية انتظام العصبة ذاتها...
أما أثر ذلك وتجلياته في الشأن العام ـ لتؤول ريح البأس احتباسا واختناقا في المُتنفَّس السياسي، واختزال الدولة في الفرد، وتبعات ذلك وأمور أخرى، فالنية العود إليها في لاحق الأحاديث ـ إن شاء الله.