فی دراساتنا السابقة ومقالاتنا المنشورة ألقینا النظر علی حیاة أبی نواس فی ضوء جدید وعالجنا شعره الخمری من الناحیة الشکلیة، وتمت المقارنة بینه وبین الشعر الخمری قبله وما قاله الشعراء من معاصریه،
.
وأخرجنا وجوه التشابه والخلاف ما بین خمریاته وخمریات الآخرین من ناحیة الشکل.
وأما المقال الذی بین أیدیکم فیعالج خمریات أبی نواس من ناحیة المضمون لتبیین وجوه التشابه والخلاف بین خمریاته والأبیات الخمریة التی سبقته، ولإیضاح مدی تأثیره علی الشعراء بعده فی قول الخمریات من ناحیة الألفاظ والمعانی.
الکلمات الدلیلیة: أبو نواس –الشعر الخمری– مضمون الخمریات -الخمر الفنی – الخمر الروحی.
المقدمة
عرفنا بأنّ الشعراء الجاهليين والإسلاميين والأمويين وصفوا الخمر لأغراض أخرى ومنها الفخر،
ولم یکن وصف الخمر غرضاً من الأغراض الشعرية، ولم یکن فنّاً مستقلّاً. ولکن أبو نواس يصف الخمر كغرضٍ من
أغراضه الشعرية، وقد أحسن وصف الخمر إحسانا لم يسبق إليه أحد، والقارئ یشعر بأن خمرته من نوع خاص، لما أضفى عليها من سمات الفّن والإبداع ولِما حملها من رموز وأوصاف معنوية تبُعدنا عن عالم
الخمر المادّي.
قد استطاع أبو نواس من خِلال طاقاته الفنيّة والإبداعية والرّوحية أن يجعل لخمرته أبعاداً وأن
يرسم لها آفاقا ً تفترق من الخمرة التي تغنّى بها الّذين كانوا من قبله ومعاصروه.
وإذا كانت الخمرة في شعر سابقيه تعبّر عن ترف أو تُجسّد جزءا ًمن التراث العربي، فقد كانت عند
أبي نواس تعبّر عن حاجة روحية ونفسية وفكرية وتجسّد ما في نفسه من غنى روحي وفكري وسياسي و
فلسفي، والمتتبع في خمريات أبي نواس، يرى أنّها كانت وسيلةً إلى إبداع عوالم شعرية وأداة لتفجير طاقته
الإبداعية وخلق اتجاهه الفني المتميّز والجديد، وزورقا ً للخلاص من قبضة الهموم ووسيلة لتنبيه الناس وسوقهم إلى العوالم الإنسانية.
مضامین خمریاته
إنّ الوقوف على آفاق خمرة النواسي يقتضىِ منّا تتبّع أبعاد هذه الخمرة ومعانیها، على حسب
المواقف التى استعملها الشاعر. وربّما نتعرّف على سير حياته في هذا النوع من الوقوف، على أنّه استعملها
في معاني مختلفة على حسب الظروف وعلى حسب ما وصل إليها من الناحية الفكرية. هذا هو أب ونواس
يقول في سعة معنى خمرتة:
دَقَّ معنى الخمرِ حتّى هو في رجم الظّنونِ ِ
كلمّا حاوَلَها النّا ظرُ من طرف الجفون ِ
رجعَ الطرفُ حسيراً عن خيالِ الزَّرَجونِ ِ
لم تَقُم في الوَهم إلاّ كذبّتْ عينَ اليقين ِ
فمتى تُدركُ مال يُتَحرّى بالعيون ِ
[1]
ولخمرياته مراتب ودرجات. نبدأ من أقلّها أهمّيّةً إلى أحسنها وأجودها رتبة:
ألف - الخمرة التقليدية:
إنّه اتخّذ الخمرة - في بادئ الأمر - وسيلة لأغراض أخرى، كما اتخذها الشاعر الجاهلي والإسلامي و
الأموي قبله. منها الفخر. فلم یأت بشىء جديد في هذا الصعيد من ناحية المعنى إلاّ أنّ في وصفه فيها روعة
وجمال كما يقول:
لمّا تبيّن أنّي غيرُ ذي بُخَل وليسَ لي شغلٌ عنها وإ¨بطاءُ
أتى بها قهوةً كالمسكِ صافيةً كدمعةٍ منحتها الخدَّ مرهاءُ
[2]
وفي مكان آخر يفتحر بشربه الخمر الغالية ويقول:
خطبنا إلى الدهقانِ بعض بناته فزوّجنا منهنّ في خدره الكُبرى
وما زال يُغلي مهرها، ويزيد إلى أن بلغنا منه غاية القُصوى
[3]
وفي قصيدة أخرى يفتخر باستطاعته فى شراء الخمرة ويقول:
يا قهوةً حرّمتْ إلاّ على رجلٍ أثرى فأتلفَ فيها المال والنشبا
[4]
كما افتخرها بها الشاعر الجاهلي عنترة بن شدّاد. قبله:
فإذا شربتُ فإنّني مستهلكٌ ما لي وعرضي وافرٌ لم يُكلَمِ
[5]
وكما افتخر بها طرفة بن العبد:
وما زالَ تشرابي الخمور َولذتي وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلدي
[6]
وغيرها كما أشرنا إلى خمرياتهم في الفصول الماضية.
وهذا الضرب من خمريات أبي نواس يرجع إلى بداية شاعريته، وهو مقلّد في أوّل أمره. ولا يكتب له
فضل كبير، إلاّ أنه أتى بتعبيرات أجمل وأدقّ، وهذا يدلّ على ذكاوته ونبوغه الشعري الذي برز في حياته. أنظروا إلى هذا التعبير وهو الفخر ولا شيء آخر، ولكن فيه عذوبة:
والخُمر شىءٌ لو أنّها جُعِلَت مفتاح قفل البخيلِ لاِ نفتحا
[7]
أو يقول فى مكان آخر:
إنى بذلتُ لها لمّا بصرتُ بها صاعاً مِن الدِرّ والياقوت ما ثقبا
[8]
ولا نطيل الكلام أكثر من هذا في هذا الضرب من خمرياته. إذ إنّه مقلّدٌ ويحذو حذو الشعراء
الجاهليين.
ب - الخمرة الفنّية:
بعد المرحلة التقليدية أدرك أبو نواس ضرورة التجديد في الشعر، فثار على الأعراف والتقاليد و
القيم الأخلاقية السائدة لا تناسب أحوال مجتمعه. وهو في الحقيقة تبنّى على صعيد الشعر من الحرّية مبدأ
يعبّر من خلاله عن اتّجاهه الفكري، والفنّي، واتّخذ من الخمرة وسيلهً يجسّد من خلالها إيمانه بضرورة
التجديد في الشعر كما في الحياة، حيث يرى الدكتور طه حسين ويقول: «إنّه كان يُريد أن يتّخذ ويتخّذ الناس
معه، في الشعر مذهبا جديدا. وهو التوفيق بين الشعر وبين الحياة الحاضرة، بحيث يكون الشعر مرآةً صافية
تتمثّل فيها الحياة، ومعنى ذلك العدول عن طريقة القدماء. لأنّ هذه الطريقة كانت تلائم القدماء وما ألّفوا من
ضروب العيش. فإذا تغيرّت ضروب العيش هذه وجب أن يتغيّر الشعر الذى يتغنّى به، فليسَ يُليق بساكن
بغداد، المستمتع بالحضارة ولذاتها، أن يصف الخيام والأطلال، أو يتغنّى بالإبل والشاء، وإنّما يجب عليه أن
يصف القصور والرياض ويتغنّى بالخمر والقيان. فإن فَعَلَ غيرُ ذلك فهو كاذب متكلّف» [9]
فإنّه آمن برسالة الشعر في الحياة، وسعى جاهدا ًإلى ربط الجسور بين الواقع والشعر لتحقق غاياته و
أهدافه وقد ألَحّ في شعره على تجسيد الحياة الحاضرة حيث يقول:
أحبُّ إلىَّ من وَخْد المطاي بموماة يُتيه بها الظليمُ
ومن نعت الديار ووصف ربع تلوحُ بها على القِدَم الرسومُ
رياض بالشّقائق مُونَقات تكنّفَ نبتَها نورٌ عميمُ
كأنّ بها الأقاحي حين تضحى عليها الشمسُ طالعةً نجومُ
ومجلس فتيةٍ طابوا وطابت مجالسهُم وطاب بها النعمُ
تدارُ عليهمُ فيها عقارٌ مُعتّقةٌ بها يصبوالحليمُ
كؤوس كالكواكب دائراتُ مَطالِعُها على الفلك الأديمُ
[10]
وفي الكثير من أشعاره يثور على نظام القصيدة القديمة وأشهرها:
لا تبكِ ليلى ولا تبك إلى هند واشرَب على الورد من حمراء كالورد
كأسا إذا انحدرتْ في حلق شاربها أجدتْهُ حُمرتَها في العين والخدّ
فالخمرُ ياقوته والكأس لؤلؤة من كف جارية ممشوقة القدِ
[11]
ولا بّد من التأكيد في هذا المجال على أنّ رفض أبي نواس لشكل القصيدة القديمة وموضوعاتها و
ثورته عليها وسخريته من حياة الأعراب والبادية، لم تكن - كما زعم البعض - شعوبية عنصرية، تصدرُ عن
تعصّب لقوم دونَ قومِ، بل كان امتدادا لموقفه العام الّذي نبغ من استقلال النظرة والّذي يلائم ذوقه ونفوره
من التعصّب الُمقيت. وإننّا نرى ما قاله أبو نواس في إطار هجومه على أساليب الحياة القديمة، إن هو إلّا دعوة
إلى نبذ التعصّب.
وفي هذا الإطار يقول:
أيا باكيَ الأطلال غيّرها البلى بكيتَ بعين يجفُّ لها غَربُ
أتنعتُ دارا ً قد عفتْ وتغيّرت فإنّي لما سالمتَ من نعتها حربُ
ونَدمانِ صِدقٍ باكر الرّاح سُحْرةً فأضحى وما منه اللسانُ ولا القلب
[12]
وفي مكان آخر يقول:
دعِ الأطلالَ تَسفيها الجنوبُ وتُبلي عهد جِدّتها الخطوب
وخلِّ لراكب الوجناء أرضا تخبُّ بها النجيبةُ والنجيبُ
بلادٌ نبتُها عشرٌ وطَلحٌ وأكثر صيدها ضُبُعٌ وذيبُ
ولا تأخذ عن الأعراب لهوا ولا عيشا فعيشُهُمُ جديبُ
دَع الألبانَ يشربها رجالٌ رقيق العيش بينهمُ غريبُ
فأطيبُ منه صافيةٌ شمول يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ
أقامت حقبةً في قعر دنٍّ تفورُ وما يُحَسُّ لها لهيبُ
[13]
وفي إطار هذه الثورة على منهج القصيدة القديمة ورفضه لِما لا يناسب بواقع عصره، يصرّح بعيوب
الأعراب وقيمهم التي تقوم على النفاق والغزو والإغارة، ويذّم الإغارة والحرب ويطرح الوُدَّ والحبَّ
بديلاً عن هذا الأسلوب في حياة الأعراب، حيث يقول:
إصدع نجى الهموم بالطرب والنعم على الدهر بابنة العنب
فاذكر صباح العقار واسمُ به لا بصباح الحروب والعِطب
أحسنُ مِن موقف بمعترك وركضِ خيلٍ على هلا وهب
صيحةُ ساقٍ بحابسٍ قدحا وصبرُ مستكرهٍ لِمُنتحبِ
[14]
وفي مكان آخر، على سبيل الذم على الإغارة والحرب، يخاطب رجلاً اسمه بِشر - وهو من الأسماء
الجاهلية- ويقول:
يا بِشرُ ما لي والسيفِ والحربِ وإنّ نجمي للَّهو والطّرب
فلا تثِق بي فإنَّنى رجلٌ أكَعُّ عند اللّقاء والطّلب
ولستُ أدري ما السّاعدان ولا ألـ ـتُرسُ، وما بيضة من اللّبب
هميّ إذا ما حروبهم غلبتْ أىُّ الطريقين لي إلى الهرب
لو كان قصف وشربُ صافيةٍ مع كلّ خودٍ تختال في السُلُب
والنومُ عند الفتاةِ أرشُفِها وجدتني ثَمَّ فارسَ العرب
[15]
ومن النماذج التّي كان يُعلن أبو نواس رفضَه لِلأسلوب الشعري القديم، وفي الحقيقة يُعلنُ رفضه
للحياة القديمة ويمجد الحياة الجديدة هو حيث يقول:
دَعِ الرّبعَ، ما للرّبع فيك نصيبُ وما إن سبتني زينبٌ وكعوبُ
ولكن سبتني البابليّة إنّها لِمثلي في طول الزّمان سَلوبُ
[16] ومنها:
لا تبكِ رسما ً بجانب السَنَدِ ولا تَجُد بالدّموع لِلجَرَد
ولا تُعرِّج على معطّلَةٍ ولا أثافٍ خَلَتْ ولا وَتَد
وَ مِل إلى مجلسٍ على شرفٍ بالكرخ بين الحديقِ معتمدِ
[17]
فإنّه يحاول أن يخلق من خلال الخمرة مذهبا شعريا جديدا يطرحُ من خلاله قيما وأعرافا جديدة وهي
مِن وحى حياته الحاضرة وليست من وحىِ حياة أسلافه. وتسمعه يدعو إلى نبذ الوقوف على الدّيار في
إطار سخريته من المقلّدين المعاصرين له والّذين يبتعدون عن واقعهم وهم غارقون في غمرة التقليد. حيث
يقول:
أبْخِل على الدّار بتكليم فما لَديها رجعُ تسليم
والعن غُراب البين بغضا له فإنّه داعيةُ الشّومِ
وَ عُج إلى النرجسِ عن عوسج والآس عن شيحٍ وفيصومِ
واغدُ إلي الخمرِ بإبّانها لا تمتنعْ عنها لتحريمِ
فمَن عدا الخمرَ إلى غيرها عاشَ طليحا عين محرومِ