1 - في مسيل الجريكايه (تصغير شجرة الجَّرك) ضحوة ذلك اليوم الغريب تكشفت للغِرِّ حقيقة الإبن اليتيم وعُرْيُ ظهر اليتيم ، ولو أحيط بالتبجيل و التكريم والتلعيب والتدليل ، فثمة حالة رثاء تستبطن كل موقف، منهُ له أو عليه ، كفيلة بإظلام ما يحاول محبوه أن يشيعوا من إشراق في عتمة شعوره..
.تنحني الإكيكة العتيقة على شاطئ الأضاة مظللة الماء المحتفظ ببرودة صقيعية تغري بالاستحمام فيها و شُرْبِ مائها البارد بين الزغلان الملون الذي يسبح برشاقة حول جسمه الغاطس المستلذ بثلج طين القاع رغم شمس الضحى اللاهبة.
بين لذة الماء و لطف الهواء لم يشعر بمرور الوقت إلا بعد ما وصلت طلائع قطعان الأنعام وبعض الوراد يحملون القرب على الحمير للتروية.
بسرعة انسرب من الترعة وتناول بحذر سرواله و أدخل رجليه في "رجليه" ليرفع نسعته ويستدير مدخلا رأسه في "رقبة" دراعته الزرقاء.. لقد اجتاز مرحلة الشهقة التي تتلو تباعاَ البكاء السخين المكتوم، و شعر براحة طارئة لم يجد لها تفسيراَ لأنه ـ أصلًا ـ لم يبحث عنه .
من طقوس ذلك الزمن الجميل أنه بعد أتاي الصباح يخرج الرجال إلى الوادي ، ليعودوا ،هذا بمسواك من "الأتيل "زكي الرائحة قطني المضغة ، وذاك بقطعة خشب من "تازنت" المعروف بجودة جمره وقلة دخانه وذياك بعجول كانت ستلحق بأماتها في "السرح" ..
و في المجمل لا يستحب أن يعود الرجل إلى الخيمة و أياديه "طرايق"..
على "الظهرة الفاصلة بين "الفريق "و الوادي تعامدتُ مع "م" عائداً من نزهته الصباحية وسرتُ إلى جانبه ... أرسل ذزاعه المفتولة ليضعها بحنان على كتفي فتنفست عطراً أخاذا كانت آثار "قطراته" بادية على لبنة "البطريق" المزخرفة بخياطة "برنينة" الصفراء.
قال : ما أخرك عن الأتاي هذا الصباح ؟ قلت أحببتُ أن أبترد في الأضاة فأخذ المنظر الجميل كل وقتي ...بدا كمن لم يقتنع ، لكنه أردف: تعال ...تعال.. و واكبته وذراعه حيث هي..
في صدرالخيمة أفردت "خبطة مرقبة " نشرت فوقها "حصيرة حمراء من "الرعيعيد" التجكجي الوثير ..صففت فوقها "صرامي" مقلمة باهرة ساخنة الألوان وبين هذا الرياش يحتل مذياع "فيليبس"مكانة متميزة،، مرفوع الهوائي ،ينثر مذيعه ،من هيئة الإذاعة البريطانية بلندن ، نشرة أخبار الظهيرة ، بلهجة ندية.
كان "المغرج" على "الفرنة" يعجم بغليانه خطاب "الدواخ" في رؤوس البُداة الذين يهيج البخار المتصاعد من فوهته قرائحهم فينظمون أعطر الشعر بأصدق العواطف في "سبولة المغرج الواقفة" ...
نقِّ المجالس من غليظ الطبع إن رمت الغنا أو مثله من مؤتنس
لا بد من ظرفاء أهل نباهة كالأصــمعي و أخي بثينة أو أنس
وشموس صحو مائسات خرد خرس خلاخلها أنيفات النفس
بيض رخيمــــات الكـــــلام كعزة وبثينة و أميمة ذات اللعس
قال "م": أدخل حتى تشرب معي الأتاي الذي فاتك ،ولم أنتبه بعد، أنني و صلتُ إلى ما يبعث على الهرب من الكبراء ، ولم أنتبه إلا بعد أن رفعتُ "حلَالة" الخيمة الوارفة الظلال ،فإذا بالمصون على طرف "الخبطة" دون "الدبش" بملحفتها السابغة من"خنط النميرات" الذي هو لباس المترفات ..
أغدقتْ عليَّ سيلا مبالغا فيه من الترحيب، كمن يعتذر عن سابق جفاء ، و واصلتْ مخض "الشكوة" على فخذها البض .
لعملية المخض مؤثرات جانبية تختلف باختلاف الماخضة ، منها أنك تسمع للشكوة ضبحاً مُوَّقَّعا كما يرزم بطن الفلو الراكض هربا من مُروِّض قدير... و من أخطرها لحظة "نفخها"أما مراسم "تفتيشها"، فَوَرَبِّكَ ،إنها لتورد الشبان معاطن الرغب و مخاطر الرهب... و ترجع المرعوي لعهد التصابي.....
.../...يتبع
- من حكايا العشيات ح 2
قال له : حتى أنت يا ابننا ابن الصالحين و أبوك العالم الحافظ وأمك العارفة تدخل قراءة النصارى و تلبس سروالا أسود يتدلى إلى "الكعب" مخالفة صريحة للسنة ..
وماذا تحت العمامة؟ و مدَّ يده مُزيحاً اللثام...واكفهر و جهه :"عرف" إنالله و إنا إليه راجعون هذا هوالوارد في النص الكريم " أصحاب الأعراف" و قرأ بصوت مرتجف قوله تعلى:
"وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ" ..
كان كل من في الخيمة ينصت للرجل الوقور الصلب المتصلب يسلق بلسانه الحاد و أحكامه النهائية التعليم والمدرسة و لغة النصارى والقيامة التي توشك أن تطبق على الأرض بفعل "الأعراف" و "السراويل الطويلة السوداء"و "السفن" التي تجري على اليابسة و "الحديد" الذي يتكلم..
لا أحد يستطيع سوى الصمت باستثناء سيدة البيت التي تكرر الحوقلة و الحسبلة و اسم الله " البرّ...البرّ..." كأنما اجتاحها إعصار فيه صِرٌّ..
انسحب الفتى من المحاكمة العلنية دون أن يودع الشيخ المفتي و تعمَّد أن يضع العمامة و يبرز " بعُرفه"...
بدا في دراعته البيضاء و قميصه الأزرق و سرواله الأسود مزركش الحواف بالأصفر، مراهقا بهي الطلعة أشمَّ العرنين يناطح "عرفه" الثريا بسواده في "بياض " عارضيه المحلوقين على "الزيرو" كما يقول "حلاقو مقطع الحجار" حاضرة الأناقة والسياسة التي وصل منها لتوه كما يصل رواد الفضاء من "كاب كانافيرال" إلى "سطح القمر" حيث لا "حياة"...
تمتمتْ "السيدة" : إنه لا يهتم لما قلتَ .. يا أنْتَ .. لقد دلَّلتْهُ والدتُهُ كثيرا..و أنتم صامتون...
وكان صوت الشيخ أعْلى و هو يرُدُّ عليها: لا هذا تدليل أخوالها لهُ ... إنهم مترفون.. انظري هذه الملابس من"المُضَلَّع الفاخر" يلبسها مراهق ...
قال "صاحبي" محمد لوالده الشيخ: لا هذه الملابس من الحكومة تكسوبها طلاب المدارس .."يا الغيثاْ"
...قالها بلوعة وتحسر...لكن وقْعَ الوكزة و النهرة ألزمه الصمت في توجع مكتوم...
بين الخيام السود يتخطى الفتى "الخوالف" متجها إلى " خيمة التبريكة" التي ينتظره فيها "عصره" لإعلان اسم "العصر" فقد " ربط " أغلبهم "السروال" و " مسح التبيب" وصار لزاما على الجميع أن يُصبحوا "رجالا" و يستعدوا لمنازلة " العصور" الأكبر في " القطاع" شعرا فصيحا وعاميا و" التعرقيب" في حسن الخط و" اللز" و الكرة " التود" و "الدز"و "الزرق" في الحفظ و التجويد و "الإعراب" للقلة التي " تخلطت مع عبيد ربه"..
يتلذذ بما يصل أذنيه من خلف "الدِّفيَه" استحسانا كان أواستنكاراً، و تتهامس الصبايا بطول "عُرفه" و حلاقته التي يسمونها بمزيج من الإعجاب و النفور: (تقصيصة النصارى) أو "حْسانةْ لابْروصْ"...
في " خيمة العصر" ما يربو على العشرين من"أولاد الفريق" يستقبلون القادم بترحاب مشوب بتوجس و غيرة الأقران الأزلية و نفور البدوي من الحضري و هاجسه المرضي من "فوقية ابن العم " أو تفوقه...
بعد برهة يبدأ الجليد في الذوبان و تعود العفوية و تتساقط التحفظات وتبقى النكايات و المناكفات تحت رماد الأحاديث العابرة لأن لحمة العصبة تحمل من التنافس المحموم أضعاف ما توفر من حمية...
كمدخل لــ"الأحسان" تربع " محمودي" أمام "طابلة" نحاسية صقيلة لا قوائم لها و على يمينه " فرنة" من "تنقردة" يتلمظ فيها جمر "تازنت التمات" وأمسك "عرقوب براد الديك المشجربالفضة و النحاس" و فتح
" مرقالته" بعدما "جمَّمَ" "تبخة" قاسها "بثومة إصبع السبابة في "الكاس"، ثم صبها في البراد ودلق عليها "عمارة "مناسبة من ماء المغرج المغلي"..
وبعد أن "جعَّر" "الورقة" صب من الأتاي مِلْأَ كأس صابَبَهُ بين الزجاجات حتى حازت كل كأس نصيبها من "النسمة"... و أعاد الخليط إلى البراد...
ثُم "راز" رشفة ليختبر عتق المجاجة فكانت "خمرا" تدور معها"الرؤوس" و تمايلت على شدو محمودي " القَيَّام"و هو يغني ...
بكى الغريب لفقد الدار و الجارِ** إن الغريب غزير دمعه الجاري
وعاد محمودي ،بمساعدة و ترديد الجميع ، للشور االذي اشتهر بإجادته عند "فرقان" القبيلة في أفطوط.... يا بابْ لَنْكَه..
و أُعجِبَ الفتى بقاف الشورالأشهر:
عقلي من سابقْ ذا المَلْقَ ** متحزَّمْ كانْ عْلَى وِدْكَه
شاطُ لغرامْ إليْنْ بْقَـــــى ** ما تُشكَّرْ منُّ فِلْكَــــــه
,,,يتبع ...
من حكايا العشيات 3 (الجَّــبَّابْ)
________
محمودي مثال على "الجبَاب" المتمرس ربع القامة قوي البنية بشوش طروب و مولع حد الهوس بالغناء الذي يجيده دون مهارة التخصص ، مما جعله يبتعد باكرا عن اللوح و المحظرة ...
كان شيخ المحظرة يدعى الحسين وهو مشهور بسوطه الذي يعذب به التلاميذ بشكل وحشي وبأساليب مبتكرة كحشو شدقيْ الطالب الذي لايتقن مخارج الحروف، بالحصباء و ضربه عليهما...
وقد جرب هذه الوصفات الهمجية مع محمودي الملقب"الغجل" ..وخرج منها سالما ذائع الصيت بعد " قافه " الذي جعل الفقهاء يعتبرون ما ورد فيه "ردة" و انقسموا ـ كالعادة ـ في " الحُكم ".
وخلاصة مجريات الأمر أن استظهارالسور يتم بعد صلاة العشاء و قد لا ينتهي قبل الهزيع الاخير من الليل ، لكن محمودي لا يمكنه أن يفوت " جماعة الشنة" التي هي السهرة الغنائية المسائية التي تبدأ وجوبا بعد صلاة العشاء وراء"خيام الفريق" بعيدا عن وقار الكبار, و تنعشها الصبايا بــ"أشوارالظل" و "الطين"..فعندما تتناهى إلى مسامعه زغاريد السمر يعطي ساقه للريح..كيفما تكون العواقب .. و المهم عند "الغجل" ان لا يخسر طقوس الشنة ..
ذات ليلة كان يساعد الشيخ الحسين في حلب بقراته و انطلقت زغاريد "خريدة" الشجية تمزق السكون ،وفي لحظة اختفى " الغجل" تاركا المرابط يمسك محلابه بيد و العجل الرضيع يغالب اليد الواهنة اليسرى...
و كانت "بنت الخير" الفنانة الشعبية قد غنت بصوتها الفريد من شعر ابن الفريق:
إذاما تمنى الناسُ أمراً إذاعنَّا ** فإنَّ مُنى نفسي خيام بها "مَنَّا"
لها منطقعذب و سحر بلحظها** حباها به الله الذي أنزل المنَّــــأ
قبل أن تردد شور "دنيني" المعروف بعراقته حتى جذوره "اليمنية" فقال لها و الصبايا و الفتيان يستمعون: قولي....
لوحي و كْتابي و "الحسين"** ما فيهم واحد يلهيني
وقت أن نجبركم مجتمعين ** نتأنَّس بيكم من حيني
ولم تظهر شمس الغد إلا و كانت "بنت الخير" قد أوصلتْ القاف لكل الفرقان في آفطوط و الذراع و أقان .. و كان "حل الكتب" و ما يليه من فتاوى ليس لها سلطان على سمر "أهل الشنة" .. و كانت نتيجتها انعتاق "الغجل" من سلطةالحسين وبداية مشواره مع العصر الأصغر دائما لأنه يوفر له شياخة الدردق الصغيرليحتكر الزعامة و الفوائد الناجمة عنها إلى حين...
من صفحة الدكتور ناجى على الفيس بوك