مَن منا لم يهُزه الطربُ وهو يستمع إلى الصوتِ الرائع للفنان سيداتي ولد آبّه وهو يغني لعملتنا الوطنية مرددا كلماته الخالدة:
.يا عملتي يا عملتي * يا ذهبي يا فضتي * ويا شفاء علتي * يا من تسمى الأوقية
سيداتي بن آبه، ذلك الفنان القدير، الذي ارتبط اسمه بالرموز الوطنية أداءً وخدمة: بدءا بالنشيد الوطني "كن للإله ناصرا"، إلى نشيده لإذاعة موريتانيا عند بدايات بثها: "بحق الكتاب"، فنشيد العملة الوطنية "يا عملتي"، الذي صاغ كلماتِه الشاعرُ المجيدُ محمدن نجلُ المؤرخ المختار بن حامدن رحمه الله.
تقودنا الإشادة بأداء سيداتي ولد آبه وبشاعريةِ محمدن بن المختار بن حامدن؛ حين ألف هذا وأدى ذاك نشيدَ "ياعملتي" مخلديْن القرارَ التاريخيَّ الشجاعَ الذي اتخذته حكومة الرئيس المختار ولد داداه بالإعلان عن إنشاء عملتنا الخاصة، إلى أن الدولة الموريتانية، وهي تصدر في عام 1973 عملة الأوقية، كانت قد أنهت التعاملَ بالفرنك الإفريقي الذي ظل متداولا في بلادنا أزيدَ من خمس وعشرين سنة حين كنا جزءا من المنظومة المالية لإفريقيا الغربية. وقبل ذلك كنا جزءا من المنظومة الماليةِ لإفريقيا الغربية "الفرنسية" (L’Afrique Occidentale Française).
في سنة 1919، وبُعَيدَ نهايةِ الحرب العالمية الأولى، أصدرت فرنسا عملةً ورقية جديدة عممتها على جميع مستعمراتِها بإفريقيا الغربية بما فيها موريتانيا، لتحل العملة الورقية الجديدة محلَّ الفرنك الفرنسي الذي كان قِطعًا معدنيةً من الفضة الخالصة. كان الموريتانيون يسمون الفرنك الفضي "المزرنف" ويصهرونه أحيانا للاستعمال حَلْيًا. يذكر أن فرقاطةَ لاميديز (La Méduse) التي جنحت بما فيها قرب حوض آرغين في 2 يوليو 1816، ضاع من ضمن حمولتها في قاع المحيط الأطلسي قرب شواطئنا ثلاثة براميل فيها 92 ألف فرنك ما بين ذهبي وفضي.
وعندما شاعت العملة الورقية بموريتانيا بدايات عشرينات القرن الماضي سمونها "الكيْتْ"، وأرخو بظهورها في بعض المناطق فقالوا: عام الكيت. والكيت لفظ ولفي ومعناه الورق النقدي. والصواب أن يقال "أعوام الكيت" لأنه لم يكن عاما واحدا، ذلك أن الفرنسيين أصدروا وعمَّموا العملةَ الورقيةَ الجديدةَ في مستعمراتهم ولم يسحبوا الفرنكَ الفرنسيَّ الفضيَّ القديمَ دفعة واحدة، بل ظل التعاملُ بالعملتين جنبا إلى جنب من سنة 1919 إلى بداية سنة 1924 حين تم النضوبُ التدريجي والنهائي للفرنك الفرنسي الفضي، وصار الفرنك الغرب إفريقي الورقي العملة الوحيدة السائدة بالفضاء الغرب إفريقي "الفرنسي". ومن أشهر ما وقع أعوام الكيت من حوادث في بعض جهات موريتانيا: وفاة كل من الشيخ النعمة بن الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل، والشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمدو بن سليمان الديماني، ومحمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي الباركي، ومحمد الأمين بن الشيخ المعلوم البساتي، والشيخ الحسن بن محم الإدابلحسني الأخطيري، وحبيب الله بن محمد بن محمد سالم المجلسي. وبأحد أعوام الكيت كان ميلاد الرئيس المختار بن داداه وغيره.
وقد كتب على أحد وجهي الورقة النقدية للفرنك الغرب إفريقي باللغة العربية ما يحدد قيمة الورقة، ونفسُ الشيء بالولفية مكتوبا بالخط العربي؛ مما يؤكد هيمنةَ اللغة العربية على منطقة غربِ إفريقيا بداية القرن العشرين وما قبل ذلك، وهي هيمنة لم يستطع الاستعمار الفرنسي استئصالها ولا الحد منها.
ومما قيل من الأدب وذكر فيه لفظ "الكيت" قول العالم المجدد بابه بن الشيخ سيديا الأبييري رحمه الله تعالى:
ثم تباكيتَ ولو بكيتَـــــــــا ** وقلت كيتَ ظاهرا وكيتـــا
فالقلب لا يريد إلا "الكيتا" ** أعطِيت من ذلك أو كفِيتا
فجئتَ في حلْبَتِهمْ سِكَّيتا
قبل سيطرة المستعمر الفرنسي على موريتانيا، وخلال تلك السيطرة كذلك، ظلت بعض العملات الأوروبية متداولة في بلادنا، بل إن اللجهة الحسانية احتفظت ببعض التسميات التي تحيل على عملات أسبانية وبرتغالية وفرنسية وإنجليزية كانت معروفة بموريتانيا وكان التعامل بها مألوفا.
من بين تلك العملات أو القطع المعدنية التي كانت متداولة: "الكوبرايه" وهي مأخوذة من اللفظ الإنجليزي (copper) وهو النحاس، فقد كانت هذه القطعة من ذلك المعدن فسميت باسمه.
وهنالك قطعة إسبانية تسمى "بِكْنِي"، وهي من معدن الألمنيوم أو "الريش". و"البكْنِي" مثقوب من الداخل لذلك يقولون للفقير المدقع الذي لا يملك قوت يومه في الحسانية: "ما عندو بكني مهرود"؛ مما يدل على أن هذه القطعة المعدنية الإسبانية كانت محدودة القيمة في مقابل العملات الأخرى. و"البِكْنِي" من اللفظ الإسباني (pequeno) وتعني القطعة النقدية الصغيرة.
ومن القطع النقدية الشهيرة "السُّفايَه" من اللفظ الفرنسي (sou) أي الفلس. وكانت قيمتها محدودة جدا لذلك عبروا عن الفقر الشديد أيضا بقولهم: "ما عندو سُفَايه".
ومن تلك العملات المستعملة في موريتانيا "الفِفْتِنْ" وهو قطة معدنية إنجليزية من اللفظ الإنجليزي (fifteen) ومعناه خمسة عشر، حيث كان الفرنك الفرنسي الواحد يعادل خمسة عشر بنسا (البنس تقسيم مئوي للجنيه الاسترليني) لذلك سميت القطعة "ففتِنَا".
ويطلقون على ضعف الففتن: "دوبل" ويساوي فرنكين ويعني الضعف بالفرنسية، وعلى فرنك وربع الفرنك: "ترانصو"، كما يطلقون هذا اللفظ على قالب السكر فكان يباع بمبلغ "ترانصو" فسموه بسعره أو العكس.
قد يكون "الففتن" كذلك تصحيفا للفظ الإسباني (pistareen) الذي يعني ضعف الريال الإسباني الذي كان قطعة معدنية مشهورة التداول في القرون الماضية في موريتانيا وفي غيرها.
ومن الشخصيات الموريتانية المنسوبة للشرف سيدٌ يُدعى عبد القادر، وكان صديقا للشاعر الفذ محمد ولد أبنو ولد احميدن الشقراوي، فاشتكى إليه كون الناس زهدت في إعطائه هديته وهي "ففتِنْ" حتى إن بعض الناس يضيفه إليه فيقول: "عبد القادر الففتن". ويريد عبد القادر من ولد أبنو ولد احميدنْ، وهو الشاعر ذو الصيت الطائر، الذي تلقفت الناس أدبه، وتناقلته المجالس، وسارت به الركبان، أن يقول فيه شعرا يجعل الناس تواسيه، فقال فيه ولد أبنو رحمه الله:
لا يَحصرْ فيكمْ ففِتْنُو ** ءُ هوَ لاَ يحصَرْ فيكمْ
تمُّو لَجَاكمْ ذَ اشريفْ ** الظريفْ اللي باطْ كيفْ
الشرْفَ دايرْ شِي اخفِيفْ ** وانتومَ لايقْ بيكمْ
بايْديكمْ عسُّو من اكريفْ ** أيْديكمْ بالفيْديكـمْ
ويطلقون على نصف الففتن: "طنك" أو "ابْطَنْكْ"، ولم أعرف أصل اللفظ مع أنه يمكننا أن نقرأ في رحلة الفرنسي غودفروا لوايي (GODEFROY LOYER) الذي تردد على الشاطئ الأطلسي الموريتاني من سنة 1687 إلى سنة 1702، في عهدي الأميرين التروزيين: السيد وأخيه أعمر آ گجيل ابني هدي بن أحمد بن دمان، ويذكر أنه أعطى لابن أحد الأمراء 5 طكو (cinq tacous) فهل "طنك" تحريف وتصحيف للفظ "طكو" المذكور في هذه الرحلة؟
وقال الأديب الكبير محمد ولد باگا رحمه الله مادحا الشيخ عبد الله سيسي وذاكرا "الطنك":
واثمنتْ اشهرْ تمّتْ وامشـاتْ ** هاكْ انويب مـن رمضـانْ
يوم اثـلاثَ فيـهْ ءُ سنتـات ** شيّاتْ امْبينْ أهْـلْ الحيـوانْ
إلى أن يقول:
أهـل مورتـان ألّ جــات ** فايديـهَ "طنـكْ" المُـورتـانْ
والأوقية، وتساوي خمسة فرنكات، هي اللفظ العربي الوحيد من بين جميع الاصطلاحات النقدية المتداولة في موريتانيا؛ فجميع تلك الاصطلاحات أوروبية لذلك اختير هذا اللفظ العربي الأصيل علما على عملتنا الوطنية.
والأوقية في الأصل من مصطلحات الأوزان؛ فهي تعني كيلوغراما ومائة غرام. وقد خصص الاستعمال التجاري مصطلح الأوقية لوزن الفضة والذهب دون سواهما؛ لذلك سهل انتقال المصطلح عند الموريتانيين من الحقل الدلالي للأوزان إلى حقل العملات؛ وهو أمر مستساغ فالموريتانيون يسمون العملة عموما "الفظَّة" وهي تصحيف للفضة.
ومن الأدب الجميل الذي ذكرت فيه الأوقية قول امحمد بن هدار في محمدن ولد أبنو المقداد رحم الله الجميع:
فجَّك ما رگعـولِي خاطيك ** گسمتْ أثلت ميت أوگــــيَّ
لزمتن ذ ليَّام اعليـــــــك ** واعل أهل الساحل واعليَّ
أهل الساحل ميتهم فيكْ ** أميَّ فيكْ أمي فـــــــــــيَّ
فيك ألا كيفت ذيك أذيكْ ** معناه فيك أثلت مــــــــــيَّ
وابن فالنحويَّ وابـــــــنُ ** فالسِّيرَه والعرَبــــــــــيَّ
وإلى جانب العملات المعدنية والورقية كان قماش النيلة الأسود أو ما بات يعرف بالبيصة عملة من نوع خاص. فـ"البيصة" أو وحدة القماش تقوَّمُ بها البضائعُ، ويتم بواسطتها تسعير الحيوان، وبها تدفع الديات وتؤدى الغرامات. وشاع عند الموريتانيين قماش "النيلة" حتى صار من أبرز وأهَمِّ أنواع الأقمشة بالبلاد قديما، وكان أول من أدخله موريتانيا الشركة الفرنسية المعروفة باسم "شركة الهند" (Compagnie des Indes) وذلك في سنة 1742م. وأنواع القماش الموريتاني القديم وأصنافه كثيرة فمنها: "فلتور" و"شنظورة" و"صفانة" و"المِلْفِي" و"كتِكانْ" و"دُماسْ" و"الروم" و"الشعلة" وكلها أنواع من قماش ذي لون داكن.
و"البيصة" لفظ من أصل فرنسي وهو (Pièce) و"فلتورْ" من أصل فرنسي كذلك وهو: (Filature). و"شنظورة" قماش بلجيكي جيد الصنع أسود اللون وهو أجود أنواع "النيلة" إطلاقا وهو ماخوذ من اللفظ (Chandouraa) وهو اسم مدينة في غينيا الفرنسية بالمحيط الهادي اشتهرت بصنع هذا القماش. أما "كتِكانْ" فمن اللفظ الفرنسي (Cotonnade) وهو ذو لون أسود جيد. و"الشعلة" قماش أزرق غامق ويعرف بالمشرق العربي بالكحلي (بضم الكاف). وكانت النساء تلبسن في عهود متأخرة نوعين من "النيلة" هما "التاج" و"النمر" وسميا بذلك لصورة التاج والنمر عليهما. والأول أجود والثاني أكثر طلاء وأزهى.
وكذلك العديلة كانت كالبيصة عنصرا أساسيا في التعامل عند الموريتانيين في القديم، والعديلة: قطعة من الملح يكون طولها غالبا مترا واحدا وعرضها 20 سنتمترا وسمكها 40 سنتمترا وتزن ما بين 40 إلى 45 كيلوغراما. وتسمى قافلة الملح "أزلاي" (تنطق الزاي في أزلاي بمخرج بين الصاد والزاي) وهي قافلة الجمال المتجهة نحو معدن الملح. وأكبار أو الگارب يطلقان أيضا على القافلة الكبيرة التي تضم مئات الجمال الموقرة بقصد التجارة.
وأغلب السباخ الموريتانية الكبيرة توجد في الشمال والغرب سواء تعلق الأمر بسبخة الجل بتيرس أو بسبخة انتررت في غرب الترارزة أو غيرها. ويقال في المثل "رأس العديلة ما إسوحلْ" أي أن قافلة الملح لا تتجه غربا لأن أغلب معادن الملح في غرب موريتانيا ولا معنى لإرسالها إلى هنالك. ويضرب للسذاجة التجارية وهو قريب من المثل الحساني: "ارفود الحجارْ للكدى" أي نقل الحجارة إلى الجبال. وفي المثل العربي: مستبضع التمر إلى هجر أو مستبضع التمر إلى خيبر، أو كمن يبيع الماء في حارة السقائين.
يشكل نظامنا النقدي القديم ظاهرةً هامة في تاريخنا الذي لم يكن أحداثا فقط بل هو أيضا تلك الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتشابك فيما بينها لنتسج أنماطَ حياة الناس وطرقَ تدبيرهم. وتختزن اللغة في الغالب اصطلاحاتِ تلك الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية ويعبر عنها الأدب أحسن تعبير. ومن المفيد أن يدرس باحثونا تلك الظواهر الاقتصادية التي عرفها مجتمعنا الموريتاني والتي كانت جزءا من صميم حياة الناس كما ظلت تلامس جوانب من أحوال المعاش وأنماط التعامل.
الدكتور والباحث سيدي أحمد ولد أمير