أثبتت الأحداث الأخيرة- المرتبطة بتفشي الجريمة بأبشع أنواعها من السطو المسلح إلى القتل بدم بارد - حاجة البلاد لجهاز شرطة قوي جيد التدريب والتسليح والمهارات، يعمل بمهنية ووطنية وإخلاص،
.فلم يجاهر المجرمون بالخروج للشارع، وممارسة القتل والنهب والحرابة - في عتمة الليل كما في رابعة النهار- إلا بعد التغييب الغامض وغير المفهوم لقطاع الشرطة الوطنية، وتحويل أفراده إلى مجموعة عاطلة عن العمل، تعيش بطالة مقنعة، إذ لا هم لها إلا أخذ الرواتب نهاية الشهر، فلا تحويلات (على المستوى القاعدي) ولا دوريات، ولا نشاطات أمنية مركزية، أو على مستوى المقاطعات..!!
صحيح أن قطاع الشرطة عندنا – وفى مناطق أخرى من العالم- سيئ السمعة لأسباب معروفة، منها تعاطي الرشوة على نطاق واسع (من المعروف محليا وفى فترات سابقة أنه مهما كان حجم الجريمة التي ارتكبتها ولو دهست سيارتك شخصا وقتلته فيمكنك بمائتي أوقية الإفلات وإلى الأبد من العدالة )، وانعدام الروح المعنوية (عند أبسط احتكاك أمني يمكنك أن تشاهد حالات هروب جماعية للشرطة وسياراتها من أرض المواجهة حتى لو كانت مع طلاب عزل)، وسوء الظروف الصحية والمهنية والمعيشية للأفراد (عند الحديث عن الرواتب فإن المثال على أحط راتب في البلاد يكون راتب وكيل الشرطة)، والإهمال الذي عاناه القطاع في مراحل مختلفة من عمر الدولة الموريتانية (تم تمييع قطاع الشرطة وربطه في أذهان العامة بالتجاوزات والفساد المالي والإداري والأخلاقي ونظر دوما إلى الشرطة باعتبارهم مجرد أداة للقمع والبطش والتمكين للحكام ومظاهرة الأقوياء والنافذين وموالاة الظالم على حساب صاحب الحق كما تم إغراقه أحيانا عن طريق الوساطة والمحسوبية والرشوة والارتجالية السياسية بذوي المستويات الدراسية السفلى بل حتى بذوي السوابق من القصر والجانحين)، والخشية قائمة من أن يكون تفشى الجريمة الحالي، عائد إلى إحساس الشرطيين المتذمرين بالغبن والتهميش والازدراء الرسمي ( منذ سنتين تقريبا والقطاع منسي مهمل لا يزوره زائر ولا يذكره ذاكر منزوع الصلاحيات والتخصصات بل ومستبدل تارة بقطاعات أمنية مستحدثة وتارة أخرى بميليشيات أمنية خصوصية يسيرها رجال أعمال ونافذون مدنيا وعسكريا واجتماعيا)، وبالتالي لجوء بعض الأفراد عديمي الروح المهنية والوطنية، إلى ترك الحبل على الغارب لعصابات اللصوص، وغض الطرف عنها وعن تحركاتها ومخططاتها، ربما لتنبيه السلطات إلى أن غياب الشرطة يمثل خطرا على السكينة العامة، والكل يعرف أن أفراد الشرطة - رغم ما يقابلون به محليا من لعنات وازدراء وتجاهل وتهميش - يملكون تجربة طويلة وخبرة وكفاءة عالية في مجال محاربة الجريمة، لدرجة أن بعض الأفراد يعرفون - بالأسماء والعناوين والهواتف - رؤوس الإجرام في البلاد، ويملكون قدرة فائقة على تتبع خيوط الجرائم، والوصول إلى أعتى شبكات التلصص والحرابة والتهريب والمخدرات، وأكثرها بطشا داخل البلاد، وعبر حدودها مع الدول المجاورة.
ويتداول الموريتانيون – باعتزاز- أسماء أفراد رائعين من الشرطة، طبقت شهرتهم الآفاق، وعرفوا بالذكاء والمهنية والوطنية، والكفاءة والشجاعة وقوة المراس، ومن منا لا يعرف "الحاج صار"، والمرحوم "حامدينو"، المعروف ب(700)، و"ولد أعمر"، والمحقق ذائع الصيت "إدومو"، وغيرهم من الكفاءات الأمنية (ليس سرا أن قطاع الشرطة في موريتانيا قدم عبر تاريخه عشرات الأدباء والشعراء والكتاب والباحثين مع مؤلفات في مختلف التخصصات والعلوم)، تماما كما يذكرون - بوفاء واحترام - أولئك الذين دفعوا أرواحهم ثمنا لأمن البلاد واستقرارها، وفى مواجهة قتلة لا يعرفون سوى لغة الموت، عندما واجهت سرية من الشرطة عديمة الخبرة والتسليح- وخارج إطار مهامها الأساسية - عصابات القتلة المتحصنين في إحدى بنايات مقاطعة "تفرغ زينه" قبل سنوات، واستطاعوا - بتقديم شهداء وجرحى وتضحيات من العار التنكر لها- فتح الباب واسعا أمام قوات نخبة مكافحة الإرهاب التي نجحت – يومها - في احتواء الموقف والسيطرة على المسلحين الانتحاريين..!!..(في كل مرة كان الشرطيون يلبون نداء الواجب الوطني فيتصدون للمؤامرات الخارجية ويتقدمون صفوف المحاربين دفاعا عن السيادة الوطنية باذلين الغالي والنفيس في سبيل ذلك كله واحتراما لرسالتهم النبيلة في توفير الأمن والأمان للوطن ومواطنيه وضيوفه) .
إن الذين لا يذكرون عن قطاع الشرطة سوى ال(200أوقية) الشهيرة، مع بعض التشهير والتحقير، ينظرون بعين واحدة - ومن نظارة معتمة – إلى تاريخ قطاع الشرطة الوطنية، فوجود الرشوة والفساد وعدم المهنية، لدى أفراد من قطاع عريض لا يعنى أن القطاع كله يمارس نفس الممارسات، ففي كل مهنة (التعليم، الطب، الهندسة، النجارة، الصحافة...) يوجد أخيار وأشرار، طيبون وخبثاء، مهنيون وانتهازيون، إذ أنه "لا توجد مهنة حقيرة ولكن يوجد أناس حقيرون"..!!
إن النظر إلى الجانب السلبي في قطاع الشرطة، وتتبع مساوئه، يلغى الموضوعية التي تقتضى القول - بصدق وتجرد - إن الشرطة في موريتانيا قدمت الكثير للمواطن الموريتاني، وحمت المؤسسات والممتلكات، وتحملت الكثير من التضحيات ، وفقدت كوكبة من رجالها الشجعان، وزهرة كفاءاتها فى ساحات الشرف، ونجحت حين أخفقت قطاعات أخرى، ففي عهد ولد الطايع نجح الشرطيون - بشهادة الجميع- في تسيير مشروع بطاقة التعريف الوطنية، رغم التعقيدات، وحداثة التعامل مع الأجهزة والآليات والنظريات والشكليات المتبعة آنذاك في انجاز ذلك المشروع الرائد، واليوم فإن قطاعات عديدة عاجزة عن إنجاز مشروع الوثائق المؤمنة الجديد الذي شهد تعثرات عديدة، وسجلت عليه مآخذ كثيرة، من ضمنها فوضوية التسجيل، والأخطاء القاتلة في بعض الوثائق، وأخطاء مفصلية في الإخراج الفني للوثائق الجديدة..
ونتذكر جميعا الخط العربي الجميل الأنيق، الذي كانت تحمله جوازات السفر الموريتانية، وهو خط أبدعته أنامل وكلاء ورقباء ومساعدين وأعوان من الشرطة الوطنية..
واليوم فإن رجال أمن الطرق - رغم المهنية والأخلاق العالية وتوفر الوسائل الخاصة بعملهم والاحترام الذي يحظون به من طرف الجميع - بدوا مرات عديدة عاجزين عن ضبط المرور في أهم نقاط توتره واختناقه في العاصمة، وهم يستخدمون عشرات الأفراد والسيارات في النقطة الواحدة، وهي نقاط كان شرطي مرور واحد يتكفل بانسيابية مرورها وحيدا - حتى بدون قبعة تحميه أشعة الشمس أحيانا- و في أوقات الذروة..!!
إنه من غير الأخلاقي التنكر لرجال الشرطة (أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم / أوسدوا المكان الذي سدو)، وتهميشهم في بلد بأمس الحاجة لخدماتهم، ويصدق في هؤلاء الرجال قول الشاعر العربي الفحل (ولوسد غيري ما سددت أكتفوا به /وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر) ..فرغم شجاعة وشهامة رجال الدرك والحرس الوطنيين، وجودة تسليحهم وتدريبهم وخبرتهم، إلا أنهم عاجزون عن مواجهة جرائم الشوارع، لسبب بسيط، هو أنهم كانوا دائما صفا ثانيا بعد الشرطة، في مجال بسط الأمن العمومي، واحترام هيبة الدولة، ولذلك تركوا مسافة بينهم مع المجتمع، منحتهم الاحترام والتقدير المستحقين، لكنها منعتهم التعرف ميدانيا على اللصوص وشبكاتهم، ونقاط تحركهم ومخططاتهم، بينما أدى احتكاك الشرطة بالمجتمع - درجة الذوبان فيه - إلى حرمانهم من نفس درجة الاحترام والتقدير التي يتمتع بها الدركيون و الحرسيون، وبالمقابل ساعدهم ذلك الاحتكاك على معرفة فواصل ومفاصل مجتمع الجريمة، والقدرة على تتبع رؤوس العصابات، وتفكيك شبكاتها، بفضل علاقات أفراد الشرطة الواسعة بالناس، وسهولة اكتتاب الأعوان حتى من داخل الشبكات دون إثارة أو صخب، والموهبة اللافتة لأفراد شرطة مميزين في التحري والتحقيق والمتابعة..!!
نعم ينبغي إصلاح قطاع الشرطة، وإنفاذ العقوبة والمكافأة بين أفراده، وتحسين ظروفهم المادية والمعنوية، وإعادة النظر في آليات التكوين والتدريب والتسليح الخاص بهم، ومراجعة القوانين المنظمة لعملهم، لتحديد المسؤوليات، واحترام الصلاحيات، والعمل بتنسيق تام مع مكونات جهاز الأمن الوطني كلها، سبيلا لبسط الطمأنينة والسكينة العامة، ولكن من العار التخلي عن قطاع الشرطة، فهؤلاء شبابنا صرفت عليهم الدولة من أموالنا لحمايتنا ولديهم كفاءات وخبرات مشهودة، وتجارب أمنية في التعاطي مع الجرائم، والوصول لأسرارها، وفك ألغازها،تجارب عمرها عمر الدولة الموريتانية، ومن الظلم مقارنتها بتجارب قطاعات أمنية خصوصية وعمومية، لم تصل بعد سن الفطام..!!، ولا يمكن الحكم عليهم من خلال ممارسة فرد أو مجموعة أفراد، فقطرة الدسم لا تحدث تأثيرا في بحر متدفق صاخب الموج، مليء بالحياة..!!
ليعد إلينا قطاع الشرطة، ولنعد إليه، فنحن بحاجة لعيونهم الساهرة، وملامحهم الصارمة، وهم بحاجة لأن تعيد إليهم الاعتبار، ونتفهم كل الظروف المحيطة بعملهم..
أطلقوا سراح شرطتنا الوطنية من فضلكم، واتركوها تسير دورياتها في أزقتنا ونواصينا وأحيائنا المعتمة، وزودوها بالمال والسلاح والتجهيزات الضرورية، واضربوا على يد المسيء من أفرادها، وارفعوا القبعة بحرارة احتراما للمحسن المخلص الوطني منهم..!!
لسنا شرطيين، ولا مصلحة لنا في تسويد صفحاتنا بكل هذا الكلام، ولكن الواجب الوطني في هذا الظرف العصيب، يتطلب منا أن نقول هذا إنصافا لرجال ظلمناهم، وقطاع احتقرناه حد الجفاء، واستجابة لدم مسفوح، افتقد ذووه رجالا كانوا يوفرون لهم الأمن والحماية والسكينة، وإحقاقا للحق، ومساهمة في استعادة الطمأنينة والأمن لعاصمتنا ووطننا كله، ولكي ننعم كل صباح برؤية شمس مشرقة،تعانق خيوطها ابتسامة طفل بريء لم يسرق الموت - ذبحا أو طعنا - حضن أمه، ولا حنان أبيه، ولم يغيب عنه أخا أو قريبا أو صديقا، خرج لبعض شأنه، لتتعاوره سكاكين القتلة، ذات عتمة موحشة، في زقاق ضيق منسي، ليس به عمر ولا عدله وإنصافه، ولا تحمله للمسؤولية عن أمن الرعية، لدرجة البكاء لأن بغلة عثرت بأرض العراق.!! .