سمعت الفنان الكبير محمد سالم بن أحمدو بن الميداح وهو يردد تهيدينة اللحن أداء لا أحسن ولا أشهى منه.. كان محمد سالم يقف بصوته العذب على نهاية كل بيت فتنجذب مسامعك لذلك الوقوف ولتلك الردات انجذابا..
.
عدت إلى نسخة من ديوان أهل مانو بحوزتي وتبين لي وأنا أقرأ تهيدينة اللحن أنها فعلا تشكل ظاهرة أدبية جميلة وأن أداءها الفني يزيدها جمالا على جمالها. وعندما طالعت نصوصا من التهيدين ومن مناطق أخرى تبين لي أن ظاهرة اللحن في التهيدين لا تختص بها مدرسة أهل مانو فسحب بل إنها موجود في مدارس أدبية وفنية في مناطق موريتانية أخرى
عرفت تهيدينات موريتانية قديمة بنفس المصطلح حيث أطلق على كل واحدة منها "تهيدينة اللحن". والمقصود باللحن أن النص الشعري مبني علي روي الحاء إلا أن الشاعر كثيرا ما يدغم العين في الهاء فيبدلهما حاء (كأن يقول مثلا في كلمة أوْسَعْهَ أوْسَحَّ فتتحول العين والهاء بعد الإدغام إلي حاء) ومن هنا سمي النص باللحن. وهذا المصطلح كان موجودا بنفس المعنى في جميع المناطق الموريتانية شرقا ووسطا وجنوبا.
اللحن عند شعراء منطقة الحوض:
يقول محمد عبد الله الملقب الظباح بن آوليل –وهو من كبار فناني وشعراء منطقة الحوض- في نص له في مدح عثمان بن بوسيف بن أحمد بن هنون بن العبيدي زعيم أولاد عيشه من أولاد امبارك. ومن تلك اتهيدينه قول ابن آوليل
جُرْحْ أيْدَك يَا فارسْ حَسَّان @ أخيَارْ الحلَّ واهَجَحَّ
واكبَرْهَا عهْدْ ءُ دِين ءُ مَان @ وامتنهَ كلمَ واصْلحَّ
ياثَبَّاتْ الگلْبْ الدَّهْشَان @ يا اللِّي الاخلاگ اتوَسَّحَّ
البارحْ بَيَّتني سَهْران @ امبَعَّدْ من زرْ الفَرحَ
إلي أن يقول:
ذاك ازعِيمْ امبارك عثمان @ شِيخْ أهل الحُوظ الجامحَّ
ءُ شِيخ أهْل الْبِلْ واسِكرَانْ @ تَابعتُ مَاهُ تابحَّ
ويعرف عثمان بن بُوسَيْف بن أحمد بن هَنُّونْ العبَيْدِي بفارس الحلة وقد توفي جمادى الأولى سنة 1206هـ / يناير 1792م كما في توريخ ولاتة. وكان عثمان خامس أمراء أهل هَنُّونْ العبَيْدِي وكان توليه إمارة أهل هَنُّونْ العبَيْدِي حسب ابعد عم أبيه بكار بن هَنُّونْ العبَيْدِي المتوفى سنة 1195هـ/1780-1م، حسب ما ذكر المؤرخ المختار بن حامد. ويقى التساؤل واردا هل تولى الأمر في حياة جده أحمد بن هَنُّونْ العبَيْدِي المتوفى سنة 1199هـ/1784-5م أم بعد وفاته فيكون أحمد هذا خامسَ أمراء أهل هَنُّونْ العبيدي وعثمان سادسهم وهكذا دواليك. وعثمان هذا هو المقصود بقول ابن انبوجة متحدثا عن ابن أخيه مُمُّو بن هَنُّونْ بن بُوسَيْف بن أحمد في كتابه ضالة الأديب:
خليفة العـم عثمَان الفتَى ابن أبـي @ سيْـفٍ ووالدهُ خـيْـرُ الـعـرابين
اللحن عند شعراء منطقة تگانت
في منطقة تگانت نجد المطرب المبدع والشاعر المفلق سدوم بن انجرتُ يطلق للحن على تهيدينة في مدح محمد بن بكار بن أعمر بن امحمد من خونه، ومن نص سدوم هذا المسمي اللحن قوله:
بسم اللهْ اعلَ شكرْ الزْعيم @ خيْل إدوعيشْ واسْبَحَّ
حيْطَام الزعمَ فاتْلاطيم @ الحومَ منهم يَشْبَحَّ
فَارْسْ الحمرَ أفَارْسْ امعَيْليم @ أخَمرَازْ يَوْمًا يَشْبَحَّ
إلى أن يقول:
خالطْ الهَوْلْ والعُرْفْ واتْمسْليمْ @ والطَّرْبَ للشِّعْرَ بانْفَحَّ
والتفگريشْ والسْخَ والتقوليمْ @ والصدْگَ والتوبَ الناصحَّ
لِمْعَرَّفنِ بانُّ فهيمْ @ گلبُ ذاكْ ءُ راصُ انفتحَّ
فالنصوصْ ءُ الاحكامْ والتراجيمْ @ ءُ فَزَوَانْ والشعرْ انفَتْحَ
ءُ هوَّ كيفْ اعلي بابِي لِكْريمْ @ طرب للشعر بانفحَّ
ءُ كيفْ بوهْ بكار الكريمْ @ الشعارْ اتزُوزُ امطحطحَ
ءُ كيفْ أعمرْ ولْ هنونْ الزعيمْ @ ءُ كيفْ اعلِي الشِّيخْ أمنْجْ اظْحَ
إلى آخر النص الطويل الجميل.
ومحمد بن بكار بن أعمر بن امحمد من خونه من مشاهير إدوعيش المعدودين في حياة أبيه بكار وفي فترة إمارة أخيه امحمد شين وأخيه سيدي أحمد بن بكار. ويعرف بلقبه ابَّأَى، وتوفي في عهد ابن أخيه محمد بن امحمد شين بن بكار بن أعمر (تولي محمد بن امحمد شين الإمارة سنة 1208هـ/ 1793م وتوفي سنة 1236هـ1820م). وفي ليلة البهرة بين أولاد إدوعيش وأولاد امبراك سنة 1192هـ مات فيها من أولاد امبارك اللالوه وهو عثمان بن هنون بن اعمر الشماتة وانكسرت ذراع محمد بن بكار بن اعمر صاحب الترجمة. كما قاد محمد إدوعيش يوم وقعة تنبوزكري وهي موضع بالرگيبة بولاية العصابة وهو من أيام إدوعيش الداخلية بين مكزوزة بقيادة محمد بن بكار بن أعمر وبين بخواگة بزعامة بني إخوته أبناء امحمد شين. وقاد كذلك جيشا يوم أيِّرْ وهو موضع بأفلة بالحوض الغربي دارت به معركة بين أهل اسويد (من إدوعيش) يناصرهم بنو عمومتهم وخاصة أهل بكار بن أعمر وبين أولاد الناصر. وكان لأهل اسويد حروب ضد أولاد الناصر وأولاد امبارك وغيرهم منفردين إلا أنهم في يوم أير هذا انضم إليهم جيش بخواگه برئاسة محمد بن بكار بن أعمر. وقد قتل محمد بن بكار بنفسه إبراهيم فال بن بكار بن أعمر رئيس أولاد اشبيشب فكافأه الأمير محمد بن امحمد شين
ويذكر أن محمد بن بكار بن أعمر حضر يوم تگدمت مع ابن أخيه الأمير محمد بن امحمد شين وكان شيخا طاعنا في السن قد جرب الحروب وخاضها ولم ينس مقتل أخيه الأمير سيدي أحمد بن بكار بن أعمر وكان بعض قتلته في جيش الأمير محمد والبعض في جيش المثاليث فقال محمد بن بكار: "ما كنا نستغني عن هذه الحرب: رميناهم فأصبنا الرسول، ورمونا فأصابوا دية". يعني الرسول بن اعلي انبگة وهو من فرسان المثاليث ودية بن بكار بن امحمد شين وكان مع عمه الأمير محمد وكلاهما كان من قتلة سيدي أحمد بن بكار بن أعمر. ولذلك لم يسؤ موتهم محمد بن بكار فقال كلمته.
اللحن عند شعراء منطقة الترارزة
في منطقة الترارزة نجد نفس الظاهرة عند الفنان الشهير والشاعر القدير البو بن مانو، وكان من كبار المبدعين الموريتانيين، يمدح الأمير أعمر بن المختار بن الشرقي بن اعلي شنظورَه. يقول البو في تهيدينة اللحن:
انتَ رَاجْل الترارزَه فالشَّرْ @ إلَ دَام الهَ ارْكيبْ شَحَّ
وانتَ گَلبْ المَحْصَرْ المنظفَرْ @ والخَيْل الخَايْفَ انتَ أسْبَحَّ
وانتَ رَاجْل إلَي انعَرْتْ تَنعَرْ @ تَگطَحَّ واتْگدْ تَرْگَحَّ
إلى أن يقول:
أيمتْلَ فُمِّي إلي گلتْ يَاعمرْ @ أرگبْتِي ابْكَلمتِي ذًيك نَشْبَحَّ
وَانَ يوم انَاظرَك امعَ أذْكَرْ @ أللَهْ لا يَعطيهْ الصَّحَّ
انَاظرْ أهْلَك حلتْ المَهْجَرْ @ گحلتْ الشعرَ لمبَرْحَ
حلتْ الزَّاوً اضْعيف لمتَجَّرْ @ كَعَامين الخَيْل لمَرْحَ
حِلَّ ما تكذبْ مَا تَغدَرْ @ مَا تَوْجَع كون الواجًحَّ
ومنها:
اتْعَالَ ادَّوْرْ اخْليل تَجْبَرْ @ ال يَعرَظُ مَا فَاتْ التْحَ
واگرَ سَطْرُ نحْلَيْلَك اتْخَصَّر @ ء مَگَالَك منهم وَاحًدْ أحَّ
مَذَاك كيف ذَاك لا اتْخَصَّرْ @ ءُ يَنعتُولَك مَاهْ اعلَ كَلحَّ
وأعمر بن المختار بن الشرقي بن اعلي شنظورة أمير الترارزة وأبو الأمراء ومؤسس إمارة الفرع الثاني من أبناء اعلي شنظورة. وقد تولى الإمارة لما مات أعمر بن كنبه سنة 1215هـ/ 1800م. وكان أعمر بن المختار بطلا شجاعا محبا للخير ساعيا في مصالح المسلمين حافظا للقرآن الكريم. وظل يصارع امحمد بن اعلي الكوري بن أعمر بن اعلي شنظورة المطالب بعرش أبيه وعمه حتى قتل سنة 1243هـ. وقد توفي أعمر عام 1245هـ أي 1829م ودفن بانبنبه مع العالم الشهير أحمد بن العاقل الديماني. وأولاد أعمر المختار هم: إبراهيم والد الذي مات يوم غسرم سنة 1237هـ. واعلي خملش وبوحبيني وأحمد الملقب ابن الليكاط توفي 1265هـ بتشلة والأمير محمد الحبيب المتوفى سنة 1277هـ.
اللحن من الظواهر الأدبية الموجودة في التهيدين والتي لا تخلو منها مدرسة من مدارس الفن والأدب في جميع مناطق موريتانيا ويبدو أنه كان من المهارات الفنية والأسلوبية التي ينجو نحوها كبار الفنانين