من أيام المعهد.. عن الشـيخ عدود (ح 4)/ محمد الراجل يوباه

2020-06-05 20:35:00
لم يكن العلامة محمد سالم بن عدود رحمه الله تعالى مرجعية علمية بارزة وأديبا مجيدا ولغويا فريدا فحسب؛ وإنما كان شخصية استثنائية بكل المقاييس... جمع الشيخ "عدود" إلى غزارة العلم وبعد النظر وسرعة البديهة كثيرا من الظرافة ودماثة الخلق وسعة الصدر، وغيرَ قليل من التواضع والبساطة والأريحية... .

صَحِبْناه في المعهد العالي طيلة سنين أستاذا للفقه المقارن، فكان نعم المربي والملقِّن والناصح الأمين.

ولأن المعهد العالي مؤسسة جامعية وطنية، فقد كان ــ بطبيعة الحال ــ مالكيَّ النزعة في درسه الفقهي، لذلك كان الكتاب المقرر في الفقه المقارن هو (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لابن رشد الحفيد...

لقد جعل العلامة من درس الفقه المقارن الذي كان جديدا على الطلاب، وعصيا على الفهم في بعض الأحيان، إلى حد ما، حين يتعلق الأمر بأسباب الخلاف، وطرق الاستدلال، وتعارض الأدلة، بما يقتضيه ذلك من العودة إلى أصول المذاهب المختلفة.. جعل من كل ذلك نزهة مريحة وسياحة ذهن ممتعة، بما حباه الله به من غزارة علم وسعة أفق...
لم يكن الشيخ وهو صاحب نظم (التسهيل والتكميل نظم مختصر الشيخ خليل) والذي بنيف على سبعة عشر ألفا وستمئة وثمانين بيتا، وهو إلى ذلك سبيل إحدى أعرق المحاظر في هذه البلاد.. لم يكن ليخفي انتماءه لمذهب إمام المدينة دار الهجرة؛ ولكنه كان من أولئك الأتباع الذين يقلدون مالكا في قولته الشهيرة: [كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر] قبل أن يقلدوه في أي شيء آخر... فتراه حينا يؤيد المذهب في مسألة، وتراه آخر يميل إلى غيره من المذاهب، حسب قوة الدليل.. وأضرب لذلك مثلين في باب واحد:
أما الأول: فإنه كان يرى جواز التحول عن الأصل إلى البدل في الزكاة، فيقول بجواز إخراجها قيمة، خلافا لمشهور المذهب المالكي،لالأن ذلك قد يكون أدعى إلى سد خلة الفقير، وهو قول الأحناف وأشهب من المالكية وغيرهم، وفيه يقول محمد مولود بن أحمد فال "آدَّ" رحمه الله في نظمه الكفاف:
 
وقيمة الزكاة عنها تكفي ... لدى الإمام الحنفي والجعفي
 
وهو الذي به يقول أشهب ... ومثله للعتقي ينسب
 
ولكن الأصح عنه المعتبر ... عدم الاجزا، وعليه المختصر

وأما الثاني: فتأييده القوي لما ذهب إليه المالكية وغيرهم من أن الزكاة حق للفقير على المال، لا على المالك، وهي مسألة خلافية أشار الحفيد إلى سبب الخلاف فيها بقوله: (وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه [يعني الصغير غير البالغ] أو لا إيجابها : هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام ؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء ؟ فمن قال إنها عبادة اشترط فيها البلوغ ، ومن قال إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره) ومن الواضح أن رأي الشيخ رحمه الله كان يستند إلى نظر ثاقب وإدراك دقيق لطبيعة شعيرة الزكاة، بوصفها آلية فريدة لإعادة توزيع الثروة بين أفراد الأمة {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}..
كان الشيخ الوقور الجليل بشوشا، منشرح الوجه، لا تكاد تراه إلا مبتسما. وكان لا يفتأ يُحْمِض بين الفينة والأخرى لطلابه. وفي يوم من الأيام وقد أخذه الشرحُ والتوضيح إلى ميادين المعاني والبديع ــ والعلوم شديدة التداخل عند من يجيد فيها الغوص، كالشيخ ــ فاستوقفه أحد الطلاب ليسأله عن لون بديعي يُعرف ب "لزوم ما لا يلزم" وهو لون بلاغي يُلزم فيه الشاعر أو الساجع نفسَه حرفا أو عدة حروف قبل الرَّوِي. وبعدما أجاب على السؤال أنشد طلابه أبياتا له، ذكر أنه قالها حين أزمع الرحيل تنفيذا لأمر والده، ولم يك في الرحيل يومئذ راغبا:
 
فعلُ الخليط بِلام أمرك يُجزَم ... والجزم أنفذ والتليث أحزم
 
والمنهل العذب المبارك ماؤه ... بين الربى الزهر المنيفة زمزم
 
لا نبتغي بدلا به، أوَ يُبتغى ... بدلا ببرج الشعريين المرزم؟
 
ولزومنا في كل صيف رحلة ... عن ربوتيه "لزوم مالم يلزم"
 
كان العلامة عدود رحمه الله فريدا بين أقرانه من علماء شنقيط، لِمَا جمع من تمكُّن في علوم الشريعة، ومعرفة دقيقة بالواقع، وهو ما هيأه ليكون نقطة التقاء بين أهم تيارين سياسيين في عصره، أعني: التيار الإسلامي، والتيار القومي الناصري. وبيتاه السائران خير قبس يضيء موقعه وموقفه:
شكا دين الهدى مما دهاه ... بأيدي جامدين وملحدينا
شباب يحسبون الدين جهلا ... وشيب يحسبون الجهل دينا

رحم الله العلامة الموسوعة محمد سالم ولد عدود وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة..

— ‏

نقلا عن صفحة الأستاذ: محمد ولد الراجل ولد يوباه على الفيس

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122