الخنوع والقبول في زمن الانكسار العربي تأملات في اغتراب الوعي وضياع المعنى../ قاسم صالح

2025-10-08 21:22:41

في زمنٍ تتشابه فيه الهزائم وتتعاقب فيه الانكسارات، تتبدى أمامنا ظاهرة خطيرة في الوجدان العربي الخنوع المبطن بلغة القبول، والاستسلام الذي يترجم تارة باسم (الواقعية)، وتارة أخرى باسم (القدر).

لكن ما نعيشه اليوم ليس واقعية سياسية بقدر ما هو استبطان للهزيمة، وتحويلها إلى بنية نفسية تسكن الفرد والجماعة معا، فتميت فيهم روح الرفض وتطفى جذوة السؤال.

لقد عرف التاريخ العربي الحديث لحظات إشراق نادرة، نهض فيها الوعي الجمعي على أكتاف المشروع القومي التحرري، حين استعاد الإنسان العربي إحساسه بالكرامة وبالفعل التاريخي. غير أن ما تلا تلك اللحظة من انكسارات — من هزيمة 1967 إلى تفكك الجغرافيا والوجدان العربي في مطلع القرن الحادي والعشرين — أفرز واقعا مريضا، تتقاطع فيه الانهزامية النفسية مع الاغتراب الوجودي.

هكذا تحول العربي من كائن فاعل في التاريخ إلى متفرج على تاريخه، ومن صاحب رسالة إلى كائنٍ يطلب النجاة الفردية في عالم بلا أفق.

إن الخنوع ليس موقفا سياسيا فحسب، بل هو تشكيل ثقافي يعبّر عن موت الإرادة، حين تتماهى النفس مع القهر وتجد في الاستسلام راحة من عبء التفكير والمقاومة.

إنه شكل من أشكال الاغتراب عن الذات، حيث يغدو الإنسان غريبا عن قضيته، وعن قيمه، وعن قدرته على الغضب.

فالقبول، حين ينزع من سياقه الأخلاقي، يتحول إلى فعلٍ ضد الوجود ذاته، لأن جوهر الإنسان هو القدرة على الرفض، كما قال سارتر: (الإنسان مشروع يتجاوز نفسه دائما)

لكن العربي المعاصر يعيش مفارقة قاسية فهو يرفض الواقع في خطابه، ويقبله في سلوكه؛ يلعن الطغاة في العلن، ويصمت لهم في الخفاء؛ يتغنى بالحرية، ويخاف من تبعاتها.

تلك المفارقة هي ما سمّاه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، أي استعداد النفس لتبرير ضعفها أمام سلطة الخارج أو سلطة الداخل.

إنها ليست حالة عابرة، بل هي بنية ذهنية تغذيها ثقافة الخوف، وتعيد إنتاجها أنظمة تملك من أدوات القهر ما يجعل الناس يعتادون الألم كما يعتاد الصمت.

وفي عمق هذا المشهد، يتكوّن زمن التيه العربي زمن بلا بوصلة، تستبدل فيه القيم بالنجاة، والمبادئ بالمصالح، والوعي بالاستهلاك.

إنه التيه الذي يجعل الانفلات من الحاضرة — كما تقول العبارة — قبولا بمستقبل أليم، لأن الحاضر صار سجنا والمستقبل لا يعد بالتحرر بل بتكرار الألم.

ومع ذلك، فإن كل انكسار في التاريخ العربي كان يخفي في أعماقه بذرة يقظة.

فمن رماد الخنوع تولد دوما إرادة المقاومة، ومن ظلمة القبول ينبثق السؤال الأول لماذا رضينا؟

ذلك السؤال هو البداية الحقيقية لكل نهضة فكرية أو سياسية، لأنه يعيد للإنسان صلته بذاته، ويعيد للعقل قدرته على الرفض، وللوجدان طاقته على الحلم.

إن مقاومة الخنوع لا تبدأ بالثورة على الآخر، بل بالثورة على الخوف الموروث في داخلنا.

وما لم يتحرر الإنسان العربي من ثقافة القبول، فلن يتحرر وطن من قيوده، لأن الحرية تبدأ من الوعي، والوعي لا يولد إلا من الرفض.

إننا في زمن يحتاج إلى شجاعة الوعي أكثر من شجاعة السلاح، وإلى الثورة على الاستسلام قبل الثورة على الظلم.

فالهزيمة ليست قدرا، بل خيار حين نصمت عنها.

وإذا كان الخنوع هو موت بطيء، فإن الرفض — مهما كلف — هو الشكل الأسمى للحياة.

قاسم صالح

المدير الناشر
أفلواط محمد عبدالله
عنوان المقر ILOT G 122