د. إشيب ولد أباتي
موريتانيا : من الحلول التنظيرية للغيير المطلوب عمليا للكاتب قاسم صالح إلى واقع سياسي سترجعه العسكرتاريا للخلف ...
الكاتب " قاسم صالح" واحد من الكتاب اللامعين في الكتابة التوجيهية في الحزب الناصري "الحركة الشعبية التقدمية".
وكان اهتمامه سابقا بالشعر، والأدب، واليوم بدأ مقالاته لطرح قضايا المجتمع عبر المواقع الوطنية، والقومية " الرائد"، و " رأي اليوم"..
وفي مقاله الأخير المنشور بالأمس بتاريخ(٢٠٢٥/٩/٢٥)، في " رأي اليوم "، طرح اشكالات تتعلق بالتحديات التي تواجه موريتانيا في نظره مثل تراكم أزمات النظام السياسي، وتأثير انجراف النخبة المتهافتة في الولاء للانظمة الوطنية، ولفرنسا معا، على الوعي، واستلابه، وغياب الرؤية الناقدة في تعدد القراءات السردية للواقع السياسي من منظور معياري..!
وقد أشرت في تعليق موجز على مقال الزميل قاسم، بالملاحظة التالية، وهي: أن كل هذه الاشكالات، تتضاءل فيما يواجه موريتانيا من عديد التحديات، كوامل ضاغطة، وتشكل ابعاد الظاهرة الاجتماعية فيما تمارسه من تأثير يهدد وحدة المجتمع، مما يتداوله الاعلام الحر، ووسائل التواصل الأجتماعي، وكل منها يشكل وجها شائها لمظاهر الوعي الفئوي الاستفزازي للرأي العام الوطني،، وفي مقابل ذلك فالسياسية العامة لم تظهر مشاركة في التفاعل مع ما يجري، لذلك فالغموض، يغطي مقاربتها في تقديم الحلول، أو ردود افعالها استباقا مطلوبا لحالات التنطع الفئوي، والسؤال هو: أيهما سيسبق الآخر؟
وأمام تأزم الواقع، يظهر جليا لكل مراقب، ضرورة مواجهة التحديات المزعزعة للثوابت الوطنية التالية :
١ - الوحدة الديموغرافية، وضرورة ابقائها متماسكة..
لكن البعض يخشى مما تمثله أصوات ليس خطرها أقل من "عود ثقاب" في واحاتنا التي تحتضن تجمعات نائية، الأمر الذي يسهل افتعال فوضى اجتماعية، لا قدر الله..
ولعل الكاتب "قاسم صالح" يشاطرني الرأي الذي، يفترض ضرورة تقديم الأولويات على غيرها..وإذا كان كذلك، فالأحرى بنا تقديم مقاربات لمواجهة التحديات الثلاث الداخلية أعلاه..
ولعل من المآخذ في تقديم وصفات علاجية أولية، المبادأة لتضميد الجراحات، والندوب قبل المتقرح، ويأتي بعد ذلك تاليا التحاليل المخبرية، لمعرفة نسبة النواقص في الجسم الاجتماعي المريض، قبيلةتفشي الجائحة الاجتماعية..
لكن هل نتفق على هذا التوصيف الاستعجالي..؟
والتشخيص المطلوب موضوعه في:
أولا
الوحدة الاجتماعية، والدفاع عنها قبل فوات الأوان، فالمجتمع الموريتاني، وحدته الاجتماعية ضاربة في التاريخ منذ قيام مملكة " غانا"، قبل دخول الاسلام لبلادنا مع الفاتحين، وقد كان "ملك" مملكة غانا، وهو اول نظام سياسي في غرب افريقيا، وكان يحكم مجتمعاتها جميعا، ولعل ذلك كان مبررا لأن يكون من الأكثرية سمراء البشرة، بينما كان وزراؤه بيض البشرة، وهذا إن دل على شيء، فلأنه، يعكس الوحدة الاجتماعية، والمشاركة في التسيير السياسي..
وبعد سقوط مملكة " غانا" على يد حركة (المرابطون)، نشأ النظام السياسي ، فاجترح تجربة سياسية وحدوية، اتجه بها إلى الشمال، وإلى الاندلس، و كان يقود التغيير، والتطور الاجتماعي، وإعادة الابنية الأجتماعية، لما ينسجم مع قيم مشروع النهضة العربية التي قامت منذ القرن السابع الميلادي الى منتصف القرن الثالث عشر في مشرقنا العربي، ونهاية القرن الخامس عشر في الاندلس، والمغرب العربي..
ويجمع المؤرخون على دور نظامي المرابطين، والموحدين في ترسيخ دعائم مشروع النهضة - وهنا أشير الى رأي العديد من المؤرخين ، كالدكتور حسن أحمد محمود صفحات مشرقة من تاريخ اامرابطين، والدكتور مصطفى الزباخ في اطروحته ، عن النثر الأدبي في عصر المرابطين، والدكتور محمد زنيبر، وكان مشروع حركة ( المرابطون)، تغييريا تجاوز منطلقاته الإصلاحية في البداية الحركة، وصلت على ذلك مؤشرات عديدة اهمها إعاد بناء مجتمع المرابطين على أسس الوحدة الاجتماعية، والسياسية، وذلك منذ منتصف القرن الحادي عشر الى أن احتل البرتغاليون شواطئ بلادنا، ثم ما لبثوا أن شنوا حروبا تدميرية وإبادية ، قضوا بها على المدن التي اصبحت ركاما من الحجارة وتزامن مع القضاء على التمدين، نزوح المجتمع الحضري، و التفكك المجتمع، واستئنافه عصر البداوة، و الترحال، والعودة إلى المجتمع الرعوي، والتوغل بعيدا عن المحتلين بعد قضائهم على المقاومة التي استبسلت، حتى ندمرت المدائن المضاربة في التاريخ،، كأوغست، وأوليلي، وآزوكي،،
وبدأت الهجرة في اعماق الصحاري، و مرتفعات الجبال...!
واليوم أستأنف المجتمع الموريتاني عصر " التمدين"، لكن دون التمكين من ادماج المجتمع العام في وحدة قادرة على مواجهة التحديات في التحديث، وتأسيس نظام سياسي، يضفي شرعيته بمؤسسات تعيد بناء المجتمع لا على اساس قبلي، عشائري، فئوي، وإثني التي لها ابعدها المؤثرة في التشظي، و تخلف المجتمع طيلة خمسة قرون وربع القرن الحالي، يعني منذ القرن السادس عشر إلى اليوم،،
وصحيح أن المحتل الفرنسي قضى على الإمارات الاربع، التي كانت محكومة بتحالفاتها لصد الاعتداءات التي أججها الصراع بين البرتغاليين في الشمال، والفرنسيين في الجنوب خلال القرن التاسع عشر...،
لكن الفرنسيين لم يهتموا بالبناء الاجتماعي العشائري، القبلي، الذي تكيف مع سياسة المستعمر الاحلالي...
والسؤال الذي يطرحه الواقع الموريتاني اليوم، هو:
هل" التكيف" مع معطيات الواقع السياسي، يمكن أن تبقي وحدة المجتمع على تماسكها التقليدي بما يعزز الوحدة الاجتماعية التي تضم " العرب، والأقليات الإفريقية ،، أو أن متغيرات رئيسة، وبعضها "دخيلة" - بالمعنى السوسيولوجي - تؤجج الصراع الاجتماعي المحتد لفظيا، ودعاية زائفية رائجة في مجتمع يعاني الفرد فيه من مظاهر الاستلاب الثقافي، والوعي الزائف، وتدني نسبة التعليم بالنظر إلى الأقطار المجاورة، و بين الدعاية، لتفكك روابط قائمة بين الفئات الاجتماعية في المجتمع العربي، كفئة العرب السمر " لحراطين"، ويقابلها في المغرب " قناوة"، وفي تونس" لعزاوة" ...
أما في موريتانيا، فإن الأصوات الانتهازية ، ترتفع استدراجا للفوضى الاجتماعية التي يقودها انتهازيون مرتبطين بالمنظمات التبشيرية الفرنسية، وبصمات الموساد التي من دلائلها الاجرامية تحييد حراك "لحراطين الذي تتزعمه حركة " إيرا" بقيادة " بيرام" من التأييد لطوفان الأقصى، والمشاركة في المظاهرات العديدة التي قامت وتقام أمام السفارات الغربية، والأمريكية على وجه الخصوص..
كما يتردد في وسائل التواصل الاجتماعي دور" الموساد" في توجيه هذا الحراك الفئوي،، كل ما قام "بيرام" بزيارة إلى الستغال، أو بلجيكا، أو فرنسا، وذلك لتلقي اعضاء من السفارة الإسرائيلية فيما يروج له الرأي العام الممتعض من جرأة هذه الحركة، و خوف النظام السياسي الحالي من الجهات التي تحرك هذه الحركة التي بدأت تطرح رؤية، انعزالية، تدعي فيها أنها تمثل قومية خاصة، دون أن تكون لها لغة مكتوبة ، أو حتى لهجة، أو تجمعا اجتماعيافي القرى. او المدن، أو قيما ثقافية تميزه عن المجتمع العربي، وفئاته الأخرى... !
إن ظاهرة استعراض القوة بالتصريحات النارية للشخصيات الانتهازية، تظهر هنا وهناك في بعض اقطار الوطن العربي ، وهي تعبيرات ذاتية أكثر منها حالة من التوتر الاجتماعي،، وليست مقتصرة على قادة حركة" إيرا" التي يتزعمها "بيرام" في توظيف الفئوية، وفي اقطار أخرى الطائفية، و ذلك في غياب دور النظام السياسي الوطني..!
ففي لبنان يستأسد قاتل الاطفال والنساء في مجازر" صبرا وشاتيلا " سمير جعجع، . بينما في ليبيا، ظهر المتأمرك " حفتر" وابنه صدام الذي قام بزيارات عديدة إلى فلسطين المحتلة في إطار تقديم الولاء لقادة عصر الكيان الصهيون في عهد الانبطاح، والخيانات العظمى..!
وشكل المتامرك "حفتر" في شرق ليبيا، حأئط الصد لمنع القوافل المتجهة إلى غزة، فلم يسمح لها بوصول نقطة الحدود الليبية المصرية" السلوم"،،
أما " جعجع " فهو يوظف الطائفية المارونية، لتعزيز تحالفه مع فرنسا، والسفارة الأمريكية في بيرون، وأنظمة الردة الخنوع،، ولذلك فصريحاته المستفزة منذ استشهاد السيد نصر الله، وهي للتعبير عن الولاء الدائم للكيان الصهيوني في لبنان..
ولا يختلف عنه القيادي " بيرام " في حركة " إيرا" الذي يوظف تاريخ التهميش السابق، وعصر العبودية الفرنسي قبل الاستقلال الذي حرم العبودية منذ ١٩٦٠، ومع ذلك يتجاهل" بيرام" المشاركة السياسية لمثقفي فئة" لحراطين" بناء على الكفاءة.
إن غياب العدالة الاجتماعية ، وانعكاس نسة الأمية بنسة مئوية مرتفعة في المجتمع الموريتاني بمختلف مكونات فئات المجتمع العام، الذي ظل مجتمعا رعويا، ويعاني من تكدس تجمعات حضرية مريفة، وتفتقد الطبابة والتعليم، والماء، والكهربا حتى في احياء في العاصمتين: انواكشوط ، ونواذيبو، علما أن معظم احيائهم، لم تخطط الا حديثا، ولازالت مظاهر الحياة القروية بابعادها القبلية، والعشائرية غالبة، وتعزل مظاهر التحديث خلف الطابع التقليدي العام الذي يوحي بانتماء الفرد، والأسرة، للبناء الاجتماعي القبلي العشائري..بدلا من الولاء للنظام العام...
وهذه مفارقة حادة لها تداعيات عديدة، وآثارها لن تنمحي بسهولة، ولكن لا حل لها الا بالوعي بضرورة التعايش السلمي، والتنمية العلمية، وتلبية مطالب المجتمع..
وليس الحل ما ينادي به بيرام بالاستناد إلى قوى الخارج، ورفع عصا التخويف بقوى" داعشية"، يسعى بها الغرب لتفكيك المجتمع الموريتاني، ليسهل عليه - الغرب - استغلال الطاقة المكتشفة حديثا،،وإعادة تجربة النهب للطاقة الليبية في بلادنا...وهذا ما تحتاجه فرنسا التي تواجهها أزمة الطاقة،، وتراكم الفشل في افريقيا..
ثانيا:
النظام السياسي: وتضمن الموازي الروائي في الواقع السياسي الموريتاني..
وذلك عندما نوسع قراءتنا في الأدب السياسي في المجتمعات النامية، وبشكل خاص في رواية " مائة عام من العزلة" للروائي الكولومبي، " غابريل غارسيا ماركيز" ، يلاحظ بشكل قطعي، المشترك بينما رغم اختلاف التجارب، وابطالها..
ففي سنة ١٩٦٧، صاغ رواية أدبية قدم فيها واقعا سياسيا موازيا لنظام سياسي في كولومبيا حينئذ،
وهو يضاهيه، ويحاكيه واقع موريتانيا بشكل ملفت للانتباه.
ولابد أن القارئ العربي للرواية في بلادنا، سيسأل نفسه - مثلي - الأسئلة التالية:
ما الفرق بين المرحوم المختار ولد داداه، وبين " خوسيه أوركاديو بوينديا، وهو البطل المؤسس للنظام السياسي الموازي في الرواية..؟!
وما الفرق بين السيدة الأولى "مريم "داداه زوجة المختار التي تفانت في الدفع بنظام سياسي تحيطه فرنسا برعايتها، وأسسته على التنفذ القبلي ،والجهوي، وبين " أورسولا زوجة خوسيه أوركاديو..؟!
وما الفرق بين نواكشوط العاصمة التي أسست لتصبح عاصمة سياسية، بنشأتها الاصطناعية، إذ لم تكن نشأتها طبيعية،كالمدن في العالم أجمع، حيث تكون نشاتها كقرية، ثم مدينة، فعاصمة، بينما حدث الإعلان عن الاستقلال تحت خيمة فوق رابية،،، وبين قرية " ماكوندو" التي اسست لنظام أسري لأربعة لأجيال..؟!
وهذه الرباعية في الحكم، عرفتها موريتانيا خلال الخمس والستين عاما لنشأة، وامتداد زمني خلا من التطور لنظامنا السياسي..!
وما الفرق بين نظام العسكر سنة ١٩٧٨م، وبين مؤسس الجيل الثاني لأسرة خوسيه أوركاديو، فالراحل المرحوم مصطفى ولد السالك، انتهي به المطاف إلى العزلة في قرى مجتمعه العشائري - حتى وفاته رحمه الله -، وبين مؤسس الجيل الثاني بزعامة " أورليانو بوينديا.. ؟!
وما الفرق بين الجيل الثالث لأسرة أوكاديو، وبين معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع الذي عاث الفساد الاجتماعي الذي استشرى طيلة واحد وعشرين عاما من حكمه، فصار التنفذ يتجاوز طاقم حكمه ،إلى أفراد اسرته، وقبياتين ينتمي إليهما،، كم طال الفساد الحراكات السياسية التي كانت توازي، ما كان عليه الوعي الوطني في لبنان،، فاضحت قيادات الحراك السياسي، تلهث وراء الانتفاعية، والاحتماء بالقبلية والعشائرية، فتخلى الماركسي عن ماركسيته: الماوية، والستالينية، والاشتراكية الفرنسية الأوروبية.
وكذلك انسلخ القومي عن انتمائه، إلا من رحم ربك، فكر القومي حتى بانتمائه الوطني، واستبدله بالولاء لمعاوية، وبذلك تصدرت المقولة المخجلة " صفقوا لمعاوية"، "وسوف نقدم معاوية للمحكمة، إذا لم يترشح للرئاسة "، فما بالك بالعداء للقومي من صديقه المبدئي بالأمس الذي صار أشد مقتا له من افراد طاقم السفارة الفرنسية في بلادنا..!
لقد ادخل حكم معاوية الفساد السياسي، ورسخ دور القبيلة والجهوية أكثر منذي قبل..؟!
وما الفرق بين الجيل الرابع لأسرة أوركاديو، وبين حكم المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي يعيد فساده نظام الحكم التالي له، حيث تواضع الحكم على دور السيدة الأولى، ونشاطها اللافت في مجتمع ذكوري،،وتشجيعها من الرئيس رحمه الله باعطائه إياها تأشيرة الفساد العائلي لزوجته التي أخذت من الخزينة العامة، وفتحت صندوقا خيريا، لجمع التبرعات من التجار، والمستثمرين، و استغله التجار ، وذلك للاحتماء بالرشوة في شكل عطاءات مالية رمزية.. في سبيل القيلولة دون المحاسبة، والحد من الاستراد، والتصدير، واسقاط الرسوم الجمركية...
وهنا بدأ عهدا جديدا من الفساد السياسي، والأخلاقي...؟!
ولعل الجيل الرابع لحكم عائلة خوسيه أوركاديو بويندوديا، يقابله ما حصل عندنا من استشراء الفساد الذي لايقاس، بما امتلأت به صفحات الرواية عن قرية " ماكوندو"، وهو الفساد الذي قدمه غابرييل غارسيا ماركيز في روايته، ومهما ابدع في تقديم الصور الملوثة للفساد الاخلاقي والسياسي، فيأتي أقل مما يقدمه الواقع في العاصمتين السياسية، نواكشوط، والاقتصادية نواذيبو...
والسؤال الذي يستحق منا التفكير فيه، هو : هل ستمر موريتاني في حاضرها المتشظي اجتماعيا، بالكاد بسياسة حرق المراحل، وتفعيل التغيير السياسي من طرف الوطنيين ، وانتهاج التنمية، والتطور الاجتماعي، لتصبح بلادنا في المستقبل القريب، تطرق أبواب العصر، كما هو حال " كولوميا" التي تقود سفينة التحرر، ومواجهة الامبريالية الأمريكية، والصهيونية النازية الهولوكوستية، وذلك بما أقدم عليه رئيسها بالأمس في الجمعية العامة للأمم المتحدة من استعداده لارسال عشرين ألف مقاتل للدفاع عن غزة، ومواجهة الإبادة الجماعية فضلا عن التقدم الاجتماعي والسياسي بفضل انتهاج سياسة الديمقراطية الاجتماعية مجسدة بذلك العدالة الاجتماعية التي ترفع الظلم الاجتماعي، والتقدم العلمي، والمشاركة السياسية، وليس تفريخ الاحزاب القبلية والجهوية، والفئوية، والإثنية..؟