من بين جميع الأغراض الشعرية يبقى الرثاء أحدَ أكثرها إثارة للتساؤل والتأمل، ليس فقط بما يختزنه من حزن وأسى، بل بما يكشفه من علاقة الشاعر بالموت، ومن علاقته بالجماعة ذاتها عند الفقد.
وفي الشعر الشعبي تتجلى هذه الظاهرة بوضوح ملفت، حتى لكأن الرثاء بات طقسا ثقافيا أكثر من كونه تعبيرا وجدانيا.
في كثير من المراثي المتداولة لا يحتاج المرء الى عناء التحليل لاكتشاف ان الراثي لم يكن يعرف الميت، أو لم يكن له به صلة وجدانية حقيقية، كل ما فعله انه استحضر قوالب محفوظة "محفوظات"، ومفردات شائعة، وأسقطهما على اسم الراحل كأنما يقرأ من كراسة عزاء لا من ذاكرة قلب.
لقد تحول الرثاء عند كثير من شعرائنا الى ما يشبه جواز المرور الى جوقة الشعراء، أو شهادة إثبات للإنتماء الثقافي، وهي أن تبكي الميت لا لأنك تحزن عليه، بل لأنك تعلم أن البكاء سيفتخ لك المجالس، ويوصلك الى دواوين الناس وقلوبهم!! أليس في هذا ضرب من النفاق الأدبي؟ أليس من الجناية على الشعر وعلى الميت معا أن يُرثى بما لا يَصدق عليه؟ إن الشجاعة لا تُمنح في القصائد لمن لم يُعرف بها في الحياة، والكرم لا يُخلد بقافية إن لم يترك أثره في الناس، وليس التقوى زينة لغوية تلبس للموتى كما تلبس الأكفان!!.
قد يُعذر بعض الشعراء بدافع المجاملة أو الحرج الإجتماعي، ولكن الرثاء الصادق لا يصدر إلا عن قلب مفجوع، وما لم يكن الحزن حقيقيا فإن كل بيت او" تافلويت" يقال في الرثاء سيكون ضجيجا يبتذل فيه الموت، وتتطفل فيه العَبرة العابرة .
ان القصيدة الرثائية حين تكون صنعة بارزة التلفيق، لا تعزي بل تُخدر، ولا تبكي بل تساير، وهي في ذلك تكشف هشاشة الضمير الجمعي، حيث يفضَّل التجميل على الإعتراف، والتهويل على التأمل.
الرثاء الحق لا يحتاج الى بهرجة لغوية، بل إلى جرأة في الصدق، يكفي بيت واحد من قلب مفجوع ليدخل التاريخ، ان عشرات الأبيات المنمقة الفارغة فلن تتجاوز صفحات المجاملة ويكفي هنا ما قاله الشاعر الجاهلي:
وما يبكيك من أحد تراه+اذا ما مات لم يفقده حي؟
وفي زمن تكاثرت فيه الكلمات، وقل فيه الصدق، أصبح من الضروري أن نحرر الرثاء من تواطئ المجاملة والتقليد، وان نعيد للشعر وظيفته الأولى لأن يكون صوتا للقلب لا قناعا للوجه.
رحم الله موتانا وموتى المسلمين
اجمعين
والى لقاء اخر
اسماعيل ول محمد يحظيه