حين قرعت الولايات المتحدة طبول الحرب على ما يسمى الإرهاب، وبدأت عملياتها العسكرية في
أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، كان تنظيم القاعدة يومها بضع مئات من المقاتلين -معظمهم من العرب- في جبال وقرى أفغانستان، وشباب يُعدون على أصابع اليد يجوبون العالم في مهام محددة.
واليوم بعد 13 عاما من القتل والقتال، صبت فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها جام غضبهم وحمم نيرانهم على أفغانستان وأجزاء من باكستان، وجربوا أشد أنواع الأسلحة فتكا، وقتلوا عشرات الآلاف من الأبرياء نساء وأطفالا وشيوخا، وبضع مئات من المسلحين، واكتظ معتقل غوانتانامو السيئ الصيت بمئات الأبرياء وعشرات المقاتلين، على أمل تحقيق وعد جورج بوش الابن بالقضاء على تنظيم القاعدة وتجفيف "مصادر الإرهاب"، فماذا كانت النتيجة؟ وماذا حققت تلك الحملة العسكرية -التي امتدت لسنوات طويلة- من أهدافها الإستراتيجية؟
من "القاعدة" إلى "القواعد"
لقد كانت غاية الحرب الأولى والمعلنة ساعتها، هي القضاء على "القاعدة" واستئصالها وتأمين الولايات المتحدة والعالم من "شرها"، غير أن نظرة سريعة على حصيلة الحرب ونتائجها تقودنا إلى استنتاج بديهي يكشف للوهلة الأولى حقيقة الفشل الذريع الذي منيت به واشنطن في تلك الحرب. فبدل القضاء على القاعدة، تحوّل التنظيم من بضع مئات من المقاتلين في أفغانستان، إلى "قواعد شتى" تضم عشرات آلاف المقاتلين، وتنتشر عنقوديا حيث تنبت في كل أرض من جذور لم تحسب لها الولايات المتحدة حسابا.
فلا تكاد تخلو اليوم بقعة من العالم الإسلامي من وجود فرع لتنظيم القاعدة: اسما أو وَسما، فكرا أو بيعة، تنظيما أو توجيها. فبالإضافة إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان وباكستان، ظهرت تنظيمات "القاعدة في اليمن والجزيرة العربية"، و"القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، و"جبهة النصرة في سوريا"، وحركة "الشباب المجاهدين" في الصومال، وجماعة "بوكو حرام" في نيجيريا، و"جماعة المرابطون" في شمال مالي، وجماعة "أنصار الشريعة" في ليبيا، و"أنصار الشريعة" في تونس، و"قاعدة الجهاد في شبه القارة الهندية" وغيرها.
وكل هذه التنظيمات بايعت القاعدة وأعلنت الولاء لها، والعمل تحت إمرة زعيمها أيمن الظواهري. فهل كان هذا هو السيناريو الذي خطط له جورج بوش والمحافظون الجدد حين رفعوا عقيرتهم بالحرب ووعدوا باستئصال شأفة "الإرهاب والإرهابيين"؟
بوادر فشل محتمل
هذه النتائج العكسية للحرب الأميركية على تنظيم القاعدة تكاد تتراءى في الأفق القريب كنتيجة حتمية للحرب التي يشنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بل إن الحرب الجديدة على "الإرهاب" تحمل من بذور الفشل وعوامل التعثر أكثر مما حملته الحرب السابقة على القاعدة. وليس بمستغرب ولا مستبعد أن تكون النتائج أكثر ارتدادا على "أوباما" وغيره من أمراء الحرب الجديدة، أكثر من ارتدادات نتائج سابقتها.
فالدرس الذي تلقته أميركا في أفغانستان والعراق كان قاسيا ومؤلما، لذلك استبعدت أي عمل بري على الأرض لقواتها ضد مقاتلي تنظيم الدولة خشية عودة مشاهد النعوش الرسمية في المطارات الأميركية، مكتفية بضربات جوية ستؤدي في أفضل حالاتها إلى إضعاف الخصم لكنها لا تحسم المعركة، بل إن التجارب التي راكمها الكثير من المقاتلين الإسلاميين خلال مشاركاتهم في حروب عديدة بأفغانستان والشيشان والعراق وغيرها، أكسبتهم خبرة في التعامل مع تلك الضربات وتفادي الكثير من نتائجها السلبية.
لذلك لم يكن تعدد الغارات المتكررة، وتشعب هُويات المغيرين آناء الليل وأطراف النهار، ليوقف تقدم مقاتلي تنظيم الدولة، بقدر ما حوّلهم لدى الكثيرين من فصيل يخاصمه شق كبير من الجهاديين عبر العالم بسبب صراعه مع تنظيم القاعدة وزعيمه أيمن الظواهري، إلى ثلة من "المجاهدين" تقاتل "حلفا صليبيا كافرا"، تجب مؤازرتها ومناصرتها.
وكان من أول نتائج هذه الحرب إعلان "جبهة النصرة" في سوريا وقف عملياتها ضد تنظيم الدولة، وهي خطوة من غير المستبعد أن تتبع بخطوة موالية من قبيل التحالف مع التنظيم ومقاتليه، خصوصا في ظل وحدة العدو ومغايرته العقدية والغائية ورفعه شعار محاربة التنظيمات الموسومة بالإرهاب، هذا فضلا عن تدفق المقاتلين الراغبين في مقارعة "الصليبيين وأعوانهم" والباحثين عن "الشهادة في أحضان الخلافة الراشدة على منهاج النبوة"، وظهور تنظيمات مبايعة لتنظيم الدولة ومناصرة له في الجزائر وتونس والفلبين وإندونيسيا والقوقاز وغيرها.
رافدا تنظيم الدولة
كما لا يخفى على المراقب المتتبع لمجريات الأحداث أن الوضع الميداني حاليا في المنطقة لصالح تنظيم الدولة، لاعتبارات عديدة، في مقدمتها الأنظمة الدكتاتورية الطائفية التي تعيث في الأرض فسادا وتسوم المسلمين السنة الخسف وسوء العذاب في سوريا والعراق، حيث تقف الولايات المتحدة عاجزة أو "متعاجزة" عن مساعدة الشعب السوري في الخروج من فكي نظام بشار الأسد الذي يبطش به.
هذا في حين تنشغل مجموعات ما يعرف بالمعارضة المعتدلة بخلافاتها البينية وصراعاتها على كراس حكومية وهمية، فاقدة بذلك سندها الشعبي وموصلة رسائل سلبية عنها إلى الشارع السوري المتطلع إلى الخلاص ورفع الضيم والمهانة، حتى لو كان المنقذ المخلص هذه المرة هو تنظيم الدولة، فما من شر إلا وهو أهون على السوريين من شر تحالف النظام ومجموعات القوميين المتطرفين من الأكراد.
لذلك يمكن القول إن الظروف الحالية تخلق الحاضنة الشعبية في سوريا لتنظيم الدولة ومقاتليه، وهي حاضنة ستتعزز طالما واصل النظام غيه وبطشه، واستمر العالم في تقصيره وتجاهله، وفشلت المعارضة المعتدلة في تقديم نفسها كمشروع بديل جاد وحقيقي.
وفي العراق كان السنة -بعد سنوات من حكم المالكي الدكتاتوري الطائفي ومن سبقوه من أخلاف بول بريمر- عرضة للبطش والتنكيل منذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين، حيث استهدفت مناطقهم بالتصفية، وأظهرت الدولة العراقية بكل كياناتها العسكرية والإدارية والقضائية عداء سافرا اتجاههم، وتم حل الجيش العراقي وتصفية عدد كبير من ضباطه السنة، وسجن وإهانة وتشريد الآخرين.
وقد شكل ذلك رافدا عسكريا مهما للمقاومة العراقية أيام الاحتلال الأميركي، والمقاومة السنية لظلم الدولة الطائفية، وهي مقاومة استحوذ عليها تنظيم الدولة بعدما اختار الفاعلون السياسيون المعتدلون من أهل السنة المشاركة في العملية السياسية العرجاء في البلد، ونبذوا السلاح وراء ظهورهم آملين في حكم صناديق الاقتراع، دون أن تتاح لهم فرصة التأثير في القرار السياسي أو المساهمة فيه، بل ظلوا هم أنفسهم عرضة للملاحقة والتنكيل والتشويه والتشريد.
فكان أن احتضن تنظيم الدولة خبرات عشرات الضباط والجنود من الحرس الجمهوري وألوية الجيش العراقي من ذوي الكفاءات العسكرية العالية والتدريب المهني الفائق، أضافوا إلى ذلك عقيدة قتالية دينية استشهادية، فكانت المحصلة مقاتلين وقادة عسكريين أشداء مدربين، وعلى قناعات عالية بمهامهم "الجهادية المقدسة"، ثم جاءت الصحوة المفاجئة للضمير الأميركي والتدخل السريع عندما هدد تنظيم الدولة معاقل الأكراد في شمال العراق وعين العرب السورية، والمسيحيين والإيزيديين، في وقت تُرك فيه أهل السنة بمدنهم ومناطقهم عرضة لاجتياح التنظيم وتوغله.
وقد زاد ذلك من شساعة الهوة بين المسلمين السنة والأميركيين، وتعززت تهم طالما راودت أهل السنة في المنطقة، وهي أن المهمة الأميركية الأولى في الشرق الأوسط هي تدميرهم والقضاء على شوكتهم منذ احتلال العراق وتسليمه لبعض الساسة الطائفيين، والسماح للنظام السوري بالفتك بهم وإبادتهم، وغض الطرف عن الحوثيين في اليمن وتدميرهم للدولة اليمنية بعد سلب كل مقدراتها، الأمر الذي لا يترك خيارا أمام أهل السنة سوى احتضان عدو العدو وتوفير الملاذ والدعم له، مهما رفضه العالم وحاربه.
احتواء أم استئصال؟
ولعل من أبرز عوامل الفشل المرتقب للحرب الحالية على تنظيم الدولة -وهو عامل رافق الحرب العالمية على ما يسمى الإرهاب خلال العقدين الماضيين- إصرار الشركاء في تلك الحرب على توحيد إستراتيجية لا تتمتع أطرافها بمنطلقات موحدة، الأمر الذي يجعل من فشلها أمرا محتوما، فحين تسعى دول إسلامية لتوحيد إستراتيجيتها لمحاربة التطرف والإرهاب مع إستراتيجية الولايات المتحدة والغرب عموما، فإنها ترتكب أخطاء قاتلة ستقود في النهاية إلى نتائج عكسية.
ففي البلدان الإسلامية يفترض أن ينظر إلى التطرف وما ينتج عنه من أعمال توصف بالإرهابية، على أنها شأن داخلي في العالم الإسلامي، وظاهرة نبتت بين ظهرانينا، تعالج وفقا لمقاربات ذات أبعاد متعددة، منها الدينية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم العسكرية والأمنية، على أن تكون غاية الحكومات في العالم الإسلامي هي احتواء الظاهرة. أما إستراتيجية الولايات المتحدة والبلدان الغربية فتقوم على تحقيق غاية استئصال ظاهرة التطرف باعتبارها عدوا خارجيا. وشتان بين الاحتواء والاستئصال، وبين التعاطي بنية التقويم والجبر مع الشأن الداخلي، ومقارعة العدو الخارجي ومناصبته وسحقه.
وانطلاقا من تلك العوامل، من غير المستبعد أن تتعثر الحملة العسكرية الحالية التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد تنظيم الدولة، والتي هي جزء من حرب دشنها المحافظون الجدد أيام جورج بوش، وجنت على العرب والمسلمين خرابا ودمارا غير مسبوقين، وقادت إلى تكاثر وتنامي الحركات الجهادية المسلحة التي يشكل تنظيم الدولة اليوم الجيل الثاني منها.
وهو جيل يتسم براديكالية مفرطة أكثر من الجيل المؤسس (جيل القاعدة وبن لادن والظواهري)، ويتحرك وفقا لرؤية هي عصارة "صقور" صهرتهم المقارعة والمواجهة، وخلقت منهم جيلا شرسا لم يعد يكتفي بعنفوان قادته وتنظيرهم لإقامة الخلافة الإسلامية، وإنما قفز خطوة نحو الهدف المنشود بغض النظر عن الشروط والمقومات، وذلك بعدما قضت الحرب السابقة وممارسات الأنظمة القمعية على كل تفكير "حمائمي" في أوساط تلك التنظيمات والجماعات وحشرتها في زاوية الاستماتة، محرقة بذلك أشرعة العودة، وطامسة معالم خط الرجعة.
المصدر : الجزيرة