ذات مساء من صائفة العام 1999 قرأت من ديوان الشريف الرضي أبياتا يقول فيها:
*ولقد مررت عـــــــــلى ديارهم ** وطلولها بيــد البلى نهـب*
* فوقفت حتى ضجّ من لغب ** نضوي ولجّ بعذلي الركب*
* وتلفتت عــــيني فمذ خفيت ** عنها الطلول تلفت القلب*
صادفت قراءتي لهذه الأبيات أن كنت على حين من رهافة التلقي، فخلتني أسيل دموع الحزن والشوق إلى جانب الشريف الرضي في وقفته وهو يستعرض، على بساط الذكريات، ماضيه البعيد مع الأحبة الغابر عهدهم، ويتأمل أطلال ديارهم التي لا مجير لها من يد البلى التي تتلف كل شيء في هذه الدنيا !
كان التأثر الإيحائي لهذه الأبيات شديد الوقع على نفسي على نحو ما اعتادني من سماع حسان البكاء على الأطلال من مثيلات رائعة سيدي محمد بن الكصري رحمه الله (دار إبلقان) التي كنت أحفظها منذ الصغر، ولكن حسبتني أسمعها للمرة الأولى عندما سمعتها قبل قراءتي لتلك الأبيات بقليل بصوت المرحوم محمدا ولد سيد ابراهيم وعلى ((تيدنيت)) من بدا لي أنه سيد احمد ولد احمد زيدان:
*يامس دار إبلقـــــان احــيات **ذاك اللي شكيت ان مات*
*اكبل من تلــــياعي وامحات **من لخلاك اللي خاطــــيه *
*واتلفـــــت اعــــــــــــليه مرات **كيف اللي ناسي شي فيه*
*واعكبت امنين ابعيد ابكـات **وانبيت اتلفــــــــــت اعليه*
*تلفيــــــــــــــــت مني ما خلات **فظـــــــله لاهي نكره بيه*
*والل نبقي ذ اللي موجـــــود **اتل فالدني راعـــــــــــــــيه*
*ماني فيه موجــــــــــود انعود **نكرهــــــــــــــه والل نبقيه*
قلت في نفسي ليت كل من يقرأون ويتذوقون أبيات الشريف الرضي من عرب غير ناطقين بالحسانية يمكنهم، بنفس القدر، أن يقرأوا ويتذوقوا طلعة سيدي محمد بن الكصري حتى يدركوا كيف أبدع هو الآخر في قالبه الشعري الحساني عندما استوقفته ((دار إبلقان)) حتى أعدمته كما فعلت دار قبلها بأبي حية النميري، أو مجنون ليلى:
* نظرت كـــــــــــــأني مـن وراء زجاجــة ** إلى الدار من ماء الصبابة أنظر*
*فعــــــــــــــيناي طورا تغرقان من البكا ** فأعشى وطورا تحسران فأبصــر*
*وليس الذي يهمي من العــين ماؤها ** ولكــــــــــنها نفس تذوب فتقطر*
لبثت أياما أحاول، بدافع الطلعة والأبيات، قول شيء ما حتى صار لي من الشعر الحساني، أولا، مقول في بعض ما كان لي به سالف عهد من ديار أقفرت منذ زمن بعيد، وحسبتني سائرا في ركب المستمتعين بآلام الأشواق والأحزان في مشاهد الديار وأطلالها بما تحييه من ذكريات لأفئدة المحبين!
أمضيت فترة لا أقول غير الحساني واجدا فيه وفاء بالتعبير عن التجارب الشعورية لدي، وكان من ذلك :
* أدّارك يــــــــــبالي وانْطاع ** دور امن اللطيف التخفيف*
* فالوحشَه والحزم ؤ لاكاع ** خالك كون الحــــي اللطيف*
* ادخَـــــــل لمسيله واحفرهَ ** خافِ عنك كـــــــــــــان اخـبرهَ*
* لفريك التعرف فاصــدرهَ ** ينزل يخي افدار الصّــــــيف*
* اعليه اكياطـــــــين اكصرهَ ** هــــــــانِ فيه إحاني لخريف*
* ما لو لعـــد ابصيف ؤكرهَ ** واعرفت الدار ألاّ بالســـيف*
ادارك ...
وفي مرحلة لاحقة، وربما متأخرة، أحسست بالرغبة في توسيع دائرة التلقي لبعض ما أقول من شعر، فجئت بنصوص شعرية فصيحة في بعض الأغراض، ولم يكن ذلك بالسهل على من لم يكن من أهله قبل سن الأربعين، وقد أعربت عن ذلك في مجاراة لأبيات مشهورة للشاعر غالي ولد المختار فال رحمه الله يقول فيها:
*أبى الشــــــــــــعر إلا أن يكون ارتجـاله** عــــــــــــزيزا إذا لم يرتجله رجاله*
*فكم جال في ميدانه متشـــــــــــــــاعـر** يرى أنه سهل الســــــبيل مجاله*
*فحادت به الألحان عن صوب قصده** وألقته في الجفر المجوخ جاله*
فقلت:
*ترى من بديع القول شعرا تخـــــــاله ** يســـــــيرا لمن يحكيه دان منــاله*
*فتحـــــــدو رؤاك الحالمـــــات حوافــز ** لقول الذي يمسي عسـيرا مقاله*
*وتمسي كليلا لا تطـــــــيق تماســـــكا ** كأن المدى ترســــو عليك جبـاله*