من المرات القليلة التي تحدثت فيها عن نظارة زنزانة السجن -الذي امتد 3.5 سنوات- في كيف يمكن إعادة التفكير وتعريف السياسة من خلال خبرة الربيع العربي التي يمر عليها عقد من السنين هذه الأيام، كان مما قلته وقتها لبعض من قيادات الأحزاب الإسلامية هو ضرورة الانتقال بخطابات الهوية إلى خطاب المعاش (واستخدم الباء لتفيد المصاحبة والاستمرار لا التخلي والترك)، وأقصد بخطاب المعاش -الذي هو أحد محددات سردية الربيع العربي- أن تقوم بتفعيل مرجعيتك الفكرية التي هي بحكم الواقع منفتحة ومتفاعلة مع مرجعيات أخرى عديدة، لتقدم إجابات على تحديات الفرد والمجتمع والدولة، بل العالم.
.
ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب. هذه المجموعات أكثر بروزا، وفي نزاع، مما يخلق تنافرا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة.
هنا يصبح الجدل والصراع في المجال السياسي حول الإجابات والبرامج والمشروعات، وليس حول المرجعيات التي هي عند كل مؤمن بها مطلَقات.
الانتقال من أيديولوجيا الهوية إلى خطابات المعاش له ملمحان:
الأول: أن المطالب المتعلقة بمعاش الناس الكريم صارت الأولوية الأولى لهم، متقدمة على أيديولوجيا الهوية. أنا أدرك أنه جرى ولا يزال استخدام مسائل الهوية للحشد والتعبئة من أطراف عدة في موجتي الربيع العربي، ولكنها كانت سبيلا لزيادة النفوذ السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية، أو استخدمت للتغطية على قضايا أخرى، أو لتحقيق التماسك للقاعدة الاجتماعية المساندة.
الطريف أن الاحتجاجات تقدم أمثلة متعددة لتجاوز القاعدتين الاجتماعية والتنظيمية للحركات السياسية لموقف قادتهم، حين سارعوا بالانضمام للحراك فما كان من قادتهم إلا أن لحقوا بهم بعد أن رفضوا المشاركة فيه أول الأمر، جرى ذلك في لبنان والجزائر والعراق في 2019، كما جرى في مصر واليمن والمغرب في 2011.
الملمح الثاني كما قدمت: أن المطلوب الآن ليس حديثا في المرجعيات الأيديولوجية والأطر الفكرية العامة، ولكن تقديم سياسات عامة وبرامج تفصيلية من شأنها أن تعالج مشاكل الناس الواقعية وتجيب عن أسئلتهم الصغرى، فالسياسة الآن باتت تدور حول معاش الناس، وجوهرها انتقال بالخاص إلى العام، والعام للخاص.
كانت هذه هي الخلاصات التي انتهيت إليها من خبرة الربيع العربي، إلا أن تقرير الاتجاهات الإستراتيجية 2040 الذي صدر في مارس/آذار الماضي عن مجتمع الاستخبارات الأميركية، يتوقع للعقدين المقبلين تنشيطا للهويات ما دون الوطنية بما يتحدى الانتماء القومي الذي قامت عليه الدولة القومية، بالإضافة إلى بروز الهويات ما فوق الوطنية بحكم العولمة، خاصة بعد تدفق المعلومات.
وفق تصور التقرير، ينجذب كثير من الناس نحو مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب. هذه المجموعات أكثر بروزا، وفي نزاع، مما يخلق تنافرا بين الرؤى والأهداف والمعتقدات المتنافسة.
كما يتم إنشاء مزيج من الهويات العابرة للحدود البارزة حديثا، وانبعاث الولاءات الراسخة، وبيئة المعلومات المنعزلة، وتباين خطوط الصدع داخل الدول، وتقويض القومية المدنية، وزيادة التقلبات.
مع تآكل الثقة في الحكومات والنخب والمؤسسات القائمة الأخرى، من المرجح أن تتفتت المجتمعات أكثر على أساس الهويات والمعتقدات، ويتجه الناس في كل منطقة إلى مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والشعور بالأمن، بما في ذلك الهويات الثقافية وغيرها من الهويات دون الوطنية، وكذلك التجمعات والمصالح عبر الوطنية.
تتكاثر الهويات والانتماءات وتصبح أكثر وضوحا في نفس الوقت، وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الأدوار المؤثرة لمجموعات الهوية في المجتمع والسياسة. ويلاحظ أن كثيرا من الناس ينجذبون إلى هويات أكثر رسوخا، مثل العرق والقومية. في بعض البلدان، يؤدي تباطؤ النمو السكاني، وزيادة الهجرة، والتحولات الديمقراطية الأخرى، إلى تكثيف تصورات الضعف بما في ذلك الشعور بالضياع الثقافي.
كثير من الناس الذين يشعرون بالنزوح بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، يستاؤون من انتهاكات التقاليد القديمة، ويرون أن الآخرين يستفيدون من النظام على حسابهم. كما يستمر الدين في لعب أدوار مهمة في حياة الناس، تماشيا مع الأهمية المتزايدة للهويات الراسخة، وتشكيل ما يؤمنون به، ومن يثقون به، ومع من يتجمعون، وكيف يتفاعلون علنا. إن تصورات التهديدات الوجودية من الصراع أو المرض أو عوامل أخرى تساهم أيضا في مستويات أعلى من التدين.
يركّز العديد من الأشخاص على جوانب مختلفة من هوياتهم وينظمونها، بما في ذلك العرق والجنس والتوجه الجنسي، وكذلك حول الأسباب والقضايا، مثل تغير المناخ والحرية الدينية. إن قوى العولمة، بما في ذلك الحراك المتسع، والتوسع الحضري، والاتصال، تعمل على زيادة الوعي وإبراز مجموعة واسعة من الفئات المستهدفة التي تتجاوز الحدود الوطنية وتجعل من السهل على الناس التنظيم حول المصالح والقيم المشتركة.
تلعب هذه الهويات أدوارا أكبر داخل البلدان وفيما بينها، حيث تحث المجموعات على الاعتراف بها وأهدافها المحددة، وتفرض المطالبة بالحقوق زيادة في النقاش حول الأسس الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات. ومن المرجّح أن تؤدي ديناميكيات الهوية المكثفة والمتنافسة إلى زيادة الجدل السياسي والاستقطاب، والانقسامات المجتمعية، وفي بعض الحالات: الاضطرابات والعنف.
أدت زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين والعمال الضيوف في العديد من البلدان -مثل البلدان ذات الدخل المتوسط في جنوب شرق ووسط أوروبا- إلى مناقشات ساخنة حول الهوية الوطنية والمواطنة، وتؤدي إلى ظهور أحزاب سياسية قومية عرقية، وزيادة اتجاهات لسياسات الاستيعاب، وتراجع في دعم المهاجرين على مستوى العالم.
في العديد من البلدان، يشعر الناس بالتشاؤم بشأن المستقبل، ويزداد عدم ثقتهم في القادة والمؤسسات التي يرون أنها غير قادرة أو غير راغبة في التعامل مع الاتجاهات الاقتصادية والتكنولوجية والديمغرافية المضطربة. استجابة لذلك، ينجذب الناس إلى مجموعات مألوفة ومتشابهة التفكير من أجل المجتمع والأمن، بما في ذلك الهويات العرقية والدينية والثقافية، وكذلك التجمعات حول المصالح والأسباب.
يُحتمل أن يكون النمو الاقتصادي أبطأ في السنوات القادمة ومكاسب البشر أقل، لذا فإن من المرجح أن تؤدي التنمية في العديد من البلدان إلى تفاقم عدم الثقة في المؤسسات والمصادر الرسمية للسلطة لبعض أفراد الجمهور، وتدفع إلى تشاؤم متزايد وثقة متزعزعة.
إن التحديات العالمية والمحلية -بما في ذلك الضغوط الاقتصادية، والتحولات الديمغرافية، والأحداث المناخية الشديدة، والتغير التكنولوجي السريع- تزيد من تصورات الكثير من سكان العالم عن انعدام الأمن المادي والاجتماعي، وتعمل جائحة "كوفيد-19" (COVID-19) على تكثيف هذه التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
ويفاقم الأمر أن كثيرا من الناس -ولا سيما أولئك الذين يستفيدون أقل من غيرهم في مجتمعاتهم- يتشاءمون بشكل متزايد بشأن آفاقهم، محبطين من أداء الحكومة، ويعتقدون أن الحكومات تفضل النخب أو تنتهج سياسات خاطئة، خاصة أن النمو الاقتصادي والتحسينات السريعة في الصحة والتعليم والتنمية البشرية على مدى العقود القليلة الماضية قد خلق استقرارا في بعض المناطق، وأصبح الناس حساسين للفجوة المتزايدة بين الرابحين والخاسرين في الاقتصاد المعولم ويسعون إلى تعويضها.
على مدار العقود الماضية، انتقل ما يقرب من 1.5 مليار شخص إلى الطبقة الوسطى، لكن البعض بدأ في التراجع، بما في ذلك في الاقتصادات المتقدمة. وأظهرت استطلاعات الرأي العام -مرارا وتكرارا- تشاؤما متزايدا بشأن المستقبل في البلدان من جميع الأنواع حول العالم، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة والمتوسطة الدخل.
فوفقا لمقياس "إيدلمان" (Edelman Trust Barometer) لعام 2020، فإن غالبية المشاركين في 15 دولة من أصل 28 شملها الاستطلاع، متشائمون من أنهم وأسرهم سيكونون في وضع أفضل في غضون السنوات الخمس المقبلة، بزيادة قدرها 5% عن العام السابق، ويعتقد أقل من ربع الذين شملهم الاستطلاع في فرنسا وألمانيا واليابان -على سبيل المثال- أنهم سيكونون في وضع أفضل في عام 2025. وفي السنوات القادمة، من المرجّح أن ينتشر هذا التشاؤم في البلدان النامية التي بها عدد كبير من الشباب.
ومن المحتمل أن يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي في السنوات القادمة والمكاسب الأقل في التنمية البشرية في العديد من البلدان، إلى تفاقم عدم الثقة بالمؤسسات والمصادر الرسمية للسلطة لبعض أفراد الجمهور. زيادة عدم المساواة الفعلية أو المتصورة داخل البلدان، ولا سيما في البلدان التي يتباطأ فيها النمو الاقتصادي العام، غالبا ما تتزامن مع تراجع الثقة وتزايد عدم الرضا العام عن النظام السياسي، ويؤدي الفساد إلى تقويض الثقة في الحكومة، ويميل الناس إلى الوثوق بالمؤسسات غير الرسمية أكثر من الثقة في الحكومة حيث تتركز السلطة السياسية بين النخبة الثرية.
فوفقا لاستطلاع الرأي لعام 2019 الذي أجرته منظمة الشفافية الدولية، فإن غالبية المشاركين في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية (53%)، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا (65%)، وأفريقيا جنوب الصحراء (55%)، قالوا: إن الفساد آخذ في الازدياد في منطقتهم. ويعد الفساد الآن أحد أكثر العوامل المهيمنة التي تدفع الطلب على التغيير السياسي.
من المرجح أن يؤدي النمو المتسارع لبيئة المعلومات الشديدة الترابط إلى تعزيز ولاء الهوية والديناميكيات المجتمعية وتعقيدهما، فوسائل التواصل الاجتماعي تجعل -على وجه الخصوص- من السهل على الناس أن يتعاطفوا مع الآخرين في جميع أنحاء العالم الذين يتشاركون في الخصائص والآراء والمعتقدات المشتركة، لكنها تخلق غرف صدى للمستخدمين ذوي التفكير المماثل الذين يتشاركون المعلومات التي تؤكد وجهات نظرهم الحالية للعالم، وتحد من فهمهم لوجهات النظر البديلة. وبمرور الوقت، تعمل هذه الديناميكية على زيادة الوعي وبناء روابط جديدة بين المجموعات المعزولة سابقا، بينما تستقطب أيضا تصورات الناس للسياسات والمؤسسات العامة والأحداث والقضايا الأخلاقية والاتجاهات المجتمعية.
سيؤدي هذا الاستقطاب إلى انتشار وجهات النظر المتنافسة الراسخة، مما يحد من فرص التسوية ويقلل من التماسك المجتمعي.
خلال الـ20 عاما القادمة -كما يتوقع التقرير- ستنتج الخوارزميات ومنصات الوسائط الاجتماعية التي ترعى وتستخلص كميات هائلة من البيانات، محتوى يمكن أن يتفوق على الخبرة في تشكيل التأثيرات السياسية والاجتماعية التي تولدها بيئة المعلومات الشديدة الترابط، وسيتم استخدام القوة بشكل متزايد من قبل مولّدي المحتوى وكذلك الحكام الذين يمكنهم رؤيته.
ستعمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي على تعزيز مجموعات الهوية، أو تعزيز التجمعات الجديدة وغير المتوقعة، وتسريع وتضخيم الميول الطبيعية للتواصل مع الأشخاص الذين يتشاركون نفس الآراء، وغالبا ما ينتج عنها رؤى متنافسة للحقيقة، وستجعل المنصات من الأسهل على قادة الرأي المتنافسين -بما في ذلك من الفئات المهمشة- نشر وجهات نظرهم والنقاش فيما بينهم، مما يزيد من تماسك رسائلهم، ويتم تضخيم هذا التأثير لأن الناس يعتمدون على مجتمعات هوياتهم الخاصة للحصول على المعلومات وعلى اكتساب معرفة الآخرين.
وسيستخدم الناس أيضا الهويات الاجتماعية -مثل الثقافة والعرق والجنسية والدين- كمرشحات أساسية لإدارة الحمل الزائد للمعلومات، مما قد يؤدي إلى زيادة تفتيت الهويات الوطنية وتقويض الثقة في الحكومة.
توفر هذه الهويات إحساسا بالاستمرارية، وتعزز المعايير حول كيفية تصرف أعضاء المجموعة، والقواعد حول من يجب الوثوق به، والمعتقدات حول القضايا المعقدة. ويلاحظ أن العنف القائم على الهوية، بما في ذلك جرائم الكراهية والجرائم السياسية، قد يتم تسهيله بشكل متزايد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كما سيعتمد الجمهور بشكل متزايد على حراس البوابة المفضلين لديهم، مثل وسائل الإعلام الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي وأصوات السلطة الموثوقة؛ لتصفية الحقيقة من الخيال. ومع ذلك، من غير المحتمل أن تكون جهود التحكيم في المحتوى المثير للجدل -مثل الإبلاغ عن ادعاءات كاذبة أو إزالتها- فعالة في تغيير المعتقدات والقيم التي تتماشى مع الهويات المتقاربة.
وعادة تميل المعتقدات القائمة على الهوية إلى تجاوز البحث عن الحقيقة بسبب الحاجة الملحة للانتماء، والحصول على المكانة، وفهم العالم الاجتماعي، والحفاظ على الكرامة، والشعور بالتبرير الأخلاقي.
في بعض البلدان، يمثل الخلاف بين الهويات تحديا لمفاهيم الهوية الوطنية، والتي كانت تاريخيا مصدر تماسك الدولة والهدف القومي.
اكتسبت القومية بشكل عام قوة، ولكن في بعض الحالات تكتسب الأشكال الإقصائية للقومية مكانة بارزة وتضعف المثل العليا للقومية المدنية، وقد تكون المجتمعات المتنوعة عرقيا وثقافيا أكثر عرضة للتحدي. فقد سادت أشكال القومية الإقصائية في العديد من المناطق، ولا سيما تلك التي تشهد تغيرات ديمغرافية، مع نمو اقتصادي بطيء أو راكد والأشخاص الذين يخشون فقدان المكانة الخاصة، كما يعمل بعض القادة والأنظمة على تأجيج النزعة القومية الإقصائية للترويج لحكمهم وسياساتهم، كما تسعى بعض الأنظمة الحكومية إلى استخدام الموضوعات الدينية والعرقية في البلدان الأخرى لحشد الدعم الشعبي الأجنبي لأهداف سياستها الخارجية. وفي حالات أخرى، أدى انعدام الأمن الثقافي والاقتصادي الناجم عن العولمة إلى تغذية القوى القومية.
كما أدت أزمة المهاجرين في عام 2015 إلى زيادة القوى القومية في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا وهولندا، حيث تخشى غالبية السكان التغيير الثقافي والمنافسة الاقتصادية.
ورغم أن التقرير لا يقدم لقارئه من صانع ومقرر السياسات الأميركية ماذا يمكن أن يفعل لمواجهة أو الاستفادة مما يمكن أن نطلق عليه "صراع الهويات"، فإن الأطروحة الأساسية التي استند إليها التحليل من شأنها أن تغذي جوانب هذا الصراع. أطروحة التقرير لم تستطع أن تميز بين المظالم التي تتحرك عليها هذه الهويات وبين مكونات الهوية، بمعنى آخر: هل الصراع يدور حول الهويات أم تستخدم وتوظف الهويات للتعبئة حول المظالم المشتركة التي هي بحكم الواقع عابرة للهويات بل باتت معولمة أيضا؟
فالتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية نجدها في أميركا كما نجدها في أية دولة نامية، وهكذا الفساد.. إلى آخر ما هنالك من ظواهر، وهنا نكون أمام التساؤل الأساسي: هل نحن إزاء صراع للهويات أم صراع حول المصالح والموارد، في ظل امتزاج شديد للمشاعر الدينية والثقافية والعرقية بالمظالم والتفاوتات في توزيع الموارد؟!